القاهرة 05 اغسطس 2023 الساعة 02:48 م

بقلم: د. حسين عبد البصير
تعد ظاهرة "محو الذكرى" من أشهر الظواهر في عالم الآثار، وكانت تقوم على استبعاد شخص ما أو جماعة ما أو طائفة ما من الحسابات سواء الرسمية أو غير الرسمية في فترة زمنية معينة، وكان يتم تنفيذ ذلك من خلال القيام بحملة وحالة من النفي الإجباري من التاريخ أو التدمير المتعمد لذلك الشخص أو تلك الجماعة، وتنفيذ المحو له أو لها من التاريخ بشكل كلي أو بشكل جزئي.
وكان الهدف من القيام بظاهرة "محو الذكرى" هو رغبة القائمين بذلك العمل المشين في عدم بعث أعدائهم في العالم الآخر في مصر القديمة، على سبيل المثال.
وكانت هناك طرق عديدة لتنفيذ فكرة محو الذكرى في مصر القديمة لشخص ما سواء أكان من الحكام أو من النبلاء أو من الأفراد العاديين، وكان يحدث محو الذكرى من خلال عدة وسائل فعالة في تصورات المصريين القدماء مثل إتلاف الصور، أو إزالة أسماء الأشخاص من فوق النقوش والوثائق، أو من خلال قطع رأس تماثيل الملوك أو الملكات أو رؤوس تماثيل الأفراد، أو تدمير المومياوات الملكية أو الخاصة بالنبلاء، أو من خلال العبث الكبير بها، أو من خلال العبث بالأثاث الجنائزي الخاص بأولئك الملوك أو الملكات أو الأفراد وسرقته بل ونسبة تلك الآثار للمغتصبين أنفسهم. وكان يتم العبث بآثار الآخرين بكل ما سبق من خلال الاعتماد على وسيلة واحدة مما سبق أو من خلال استخدام كل الوسائل الممكنة لضمان محو ذكرى ذلك الملك أو ذلك النبيل أو ذلك الفرد من التاريخ على المدى البعيد أو المدى القريب.
وكانت تتم عملية ممنهجة لإعادة كتابة التاريخ على النحو الذي يرضي ويرتضيه الذين يقومون بذلك المحو للذكرى سواء أكانوا ملوكًا أو جماعات منظمة تتبع سلطة ما أو من خلال مجموعة أفراد أو من خلال فرد، بهدف محو ذكرى شخص ما أو مجموعة ما أو طائفة ما من السجل الجمعي أو من السجل الفردي، ويمكن رصد حدوث ممارسة ظاهرة محو الذكرى على حالات عديدة في التاريخ المصري القديم، وأفضل الأمثلة المعروفة لظاهرة "محو الذكرى" من مصر القديمة يتعلق بإعادة نقش النقوش بأسماء أخرى أو حذف معلومات معينة منها عمدًا عن فترة محددة.
لقد مارس المصريون القدماء ظاهرة محو الذكرى في آثار الملك أخناتون وخلفائه وأماكن أخرى في تل العمارنة وفي أماكن عديدة في مصر القديمة، وكان ذلك هو النموذج الأبرز لدينا في مصر القديمة عندما حدثت ظاهرة محو الذكرى في أعقاب عهد الملك المصري أخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، حيث كانت عبادة أخناتون التوحيدية لربه الأشهر لإله آتون، الواحد الأحد، بديلاً عن عبادة الآلهة التقليدية الأخرى هي الثورة الكبيرة التي قام بها ذلك الملك، والتي أدت إلى تدمير آثار الآخرين كما سوف يحدث لآثاره بعد ذلك. وخلال فترة حكمه القصيرة، قام أخناتون بإزالة جميع الإشارات إلى الإله آمون، وكانت تلك هي البداية، وذاق هو من نفس الكأس التي سقاها لمعاصريه، فبعد حكمه، تم تفكيك معابد آتون وإعادة استخدام الحجارة لإنشاء معابد أخرى، وتم تدمير آثار أخناتون، ثم عادت الحياة لآثار الإله آمون وتمت الإشارات إلى ذلك المعبود الأساسي الذي خرج من السجل الرسمي للدولة في عهد أخناتون، وألقى الناس باللوم على أخناتون وتحوله إلى الديانة الآتونية، والذي دمر الآلهة التي عبدوها وقضى على ذكرها، وكان الملك آي ضحية مصرية أخرى لتلك الممارسة. وبدأت حملة تدمير ذكرى أخناتون وآي على يديّ الملك حور محب، الذي قرر محو جميع ملوك وملكات فترة العمارنة، والتي لم تكن ذات شعبية كبيرة في ذلك العصر. واستكمل خلفاء حور محب تلك العملية.
كان عادة يتم تدمير أو قطع رأس التمثال أو محو الاسم أو سرقة المقبرة أو المومياء أو تهشيم الوجه لعدم رغبة المدمرين لتلك الآثار أن يبعث أصحاب تلك الآثار في العالم الآخر، وأن يظلوا يهيمون على وجوههم في العالم الآخر، دون هوية، ودون بعث، ودون حياة أبدية في جنات النعيم.
|