القاهرة 11 يوليو 2023 الساعة 01:13 م

بقلم: سالم الشبانة
إن أغلب الجماعات الثقافية، والعرقية والدينية التي تعيش على هامش المركز الجغرافي والثقافي، تعاني تهميشًا؛ وتوترًا في التواصل والتكيف مع باقي المحيط الجغرافي والاجتماعي في المركز.
اللغة بطبعها إشارية باتفاق الجماعة الإنسانية؛ ومن هنا يمكن التواصل عبر اللغة المنطوقة أو المكتوبة، وإن انعدم هذا التواصل يمكن الإشارة الجسدية _"العقد" بتعبير الجاحظ، ولغة الجسد بالتعبير العصري_ أن تصنع تواصلا أقل درجة.
اللهجات التي انشقت من اللغة العربية في جماعات قبلية وثقافية أصبحت بديلًا للغة الفصحى الأم، واللهجة البدوية التي تتوزع كل جغرافية سيناء، وبعض المناطق في وادي النيل، تنقسم للهجات حسب نطق كل قبيلة أو التجمعات القبيلة وإن كان الفارق بينها ضئيلًا ولا يسبب مشكلة في التواصل والتفاهم.
معضلة ومعاناة البدوي في التواصل مع محيطه الجغرافي الأوسع وتنميطه في إطار ثقافي واجتماعي؛ يؤدي إلى عدم التواصل أو التوجس. يتواصل البدوي بلهجة ورثها عن أسلافه، ولا يجد غضاضة في التحدث بها مع جماعته البدوية، لكن المركز يستخدم لهجته المهيمنة؛ ومن هنا صار على البدوي أن يلوي لسانه ليتواصل مع المركز، الذي ينظر له نظرة نمطية مسبقة؛ وبالتالي السخرية من طريقة تواصله ونطقه للهجة المركز، من هنا يبدأ الاغتراب والشعور بالانسحاق أمام هيمنة المركز الثقافية.
كوني بدوي عشت في ما يشبه "جيتو" بدوي في قرية، كنت أتكلم اللهجة البدوية داخل هذا التجمع البدوي، وفي خارجه: المدرسة، وقلب القرية ذي الأغلبية الفلاحية، أتحدث اللهجة الفلاحية التي تقترب من لهجة القاهرة كثيرًا، من هنا بدأت حالة من الازدواجية في التواصل، نتج عنها تطعيم اللهجة القاهرية هذه ببضع كلمات بدوية تسقط سهوًا في الحديث؛ مما تصبح مادة للسخرية لجهل السامع بها وعدم فهمه لها، فنتج عن ذلك الهوس بالحرص على انتقاء الكلمات؛ كي لا أسقط في هذا الالتباس بين اللهجتين، وبالتالي سخرية الآخرين مني.
هذه الازدواجية ستصبح مكوّنا من مكونات البدوي الذي لا هو بدوي قح من وجهه نظر التواصل للجماعة البدوية؛ فيتوجس منه، ولا هو خرج من جلده اللغوي "اللهجة"، أتحدث مع زوجتي البدوية بلهجتنا البدوية بعيدًا عن أولادي، لأنني وضعت نصب عيني عدم توريط أطفالي في هذه الازدواجية في التواصل, فتواصلت معهم بلهجة القاهرة والوادي، حتى لا يخلخل ذلك تواصلهم التام مع محيطهم.
لعل الأمر يزداد تعقيدًا مع الكتابة؛ أكتب بلغة عربية فصحى وأفكر بها أيضًا يمثل ذلك صعوبة في التواصل ينزاح ويظهر في الكتابة عبر المنصّات الاجتماعية في السوشيال ميديا أعلق بلغة فصحى ما أمكن ذلك، وأستاء من الكتابة والتعبير باللهجة "العامية"، هذا عن التفكير والكتابة.
في التواصل الاجتماعي أتواصل باللهجة البدوية مع من يتحدثون بها، وباللهجة القاهرية مع من يتحدثون بها أيضًا، بل أجد أن اللهجة القاهرية هي التي أتواصل بها وأتحدث بها أكثر في عملي مع زملائي وطلابي، هذه المستويات من التواصل تصنع ارتباكا مع النفس والآخرين _يضعونك في خانة غير خانتك الاجتماعية_ وبخاصة في مستويات اللهجة ومصطلحاتها الأعمق حيت التورية والمجاز والإحالة.
لعل الاغتراب في أساسه ينبع من عدم التواصل بشكل مريح مع الآخرين، وإن كنت هنا أبسط قضية فلسفية ووجودية عميقة، ولعل التواصل اللغوي عبر الحديث أو الكتابة هو ما يصنع التواصل الإيجابي ويسهم في دمج الفرد الإنساني في جماعته بما أنه كائن اجتماعي؛ وربما تمثل الازدواجية في التواصل مع المحيط العام خلخلة في الثقة الذاتية، والثقافية للجماعة بعامتها. أذكر أن زميلًا لنا في جامعة القاهرة كان يتواصل معنا بلهجة القاهرة، مما أدهشني، وعرّضه للسخرية من زملائه البدو، لماذا يتواصل بدوي في عامه الأول بلهجة القاهرة ويجاهد في إخفاء لهجته البدوية؟! بعدها عرفت أنه يتواصل في بيته، وأهله بتلك اللهجة القاهرية كرفض منه لتنميط الآخر له، ولعدم قدرته ربما على هذه الازدواجية.
|