القاهرة 20 يونيو 2023 الساعة 02:11 م
قصة: أنطون تشيكوف
ترجمة: سماح ممدوح حسن
شاب وشابة، لم يمض وقت طويل على زواجهما، يتمشيان سويًّا جيئةً وذهابًا على رصيف محطة قطار بلدة ريفية صغيرة. ذراعه يُطوّق خصرها، ورأسها ترتاح تقريبا، على كتفه. وكلاهما كانا سعيدان.
تُطل القمراء عابسة من بين الغيوم المنجرفة وعلى ما يبدو تحسدهما على سعادتهما، وتتآسى على عزوبيتها المملة الكئيبة. الهواء الساكن مُثقل برائحة ورود الليلك والكريز البري. ومن مكان بعيد خلف خط السكة الحديد يسمعا تغريد العندليب.
"كم هذا جميل ساشا، كم هذا جميل "همست الزوجة الشابة" كل ما حولنا يشبه الحلم! أترى كم هى حلوة وجذابة تلك الأيكة الصغيرة هناك! كم هي لطيفة أعمدة التلجراف الصلبة الصامتة تلك! تضفى لمسة خاصة على الطبيعة حولها مما يدل على وجود الإنسانية والحضارة على بُعد منها... ألا تظن أنه جميل حين تحمل الريح صوت اندفاع القطار السريع؟"
"نعم، لكن يالا سخونة يداكِ الصغيرتان! بسبب كل هذه الحماسة التى تشعرين... صحيح فاريا... ماذا لدينا على عشاء الليلة؟" سأل ساشا.
"دجاجة وسلطة....والدجاجة كبيرة كفاية لاثنين... بالإضافة لبعض السلمون والسردين مما أرسل إلينا من المدينة" ردت فاريا.
فى الأعلى، شهقت القمراء وأخفت وجهها خلف الغيوم، فدائما ما تُذكّرها السعادة البشرية بوحدتها، تذكرها بآريكة منعزلة متوارية خلف التلال والوديان.
"هاهو القطار قد آتى. يالها من بهجة" قالت فاريا.
يمكن للمرء رؤية عيونه النارية الثلاثة من على بُعد. خرج مدير المحطة على الرصيف، وأضواء الإشارات تومض فى كل مكان على طول الخط.
"دعينا نشاهد القطار يدخل المحطة وبعدها نعود للبيت مباشرة" قال ساشا وهو يتثاءب "فاليوم قضينا وقتا رائعا معا يافاريا. رائعا جدا، بالكاد أصدق إن كل ما يحدث معنا حقيقي من فرط السعادة".
تسلل الوحش القاتم ودخل المحطة دون ضجيج، وإلى جانب الرصيف توقف وسكن. ومن نوافذ القطار، وعلى الضوء الخافت المتسلل إلى الداخل لمحوا الوجوه النائمة، والقباعات والأكتاف فى الداخل.
وفجأة، سمعوا الصوت الآتي من إحدى العربات يقول "أنظرى، أنظرى، أنهما ساشا وفاريا، جاءا لاستقبالنا! ها هما. فاريا....فاريا...أنظرى!"
قفزت فتاتان صغيرتان من القطار وتعلقتا بعنق "فاريا" ومن ورائهم سيدة سمينة قوية البنية فى منتصف العمر. وبصحبتها رجلا طويل نحيف بسوالف رمادية، يتبعهم صبيان صغيران يحملان حقائب، وتسير ورائهم المربية ومن بعدها الجدة.
"ها نحن ذا، ها نحن ذا يا ابنى العزيز!" هكذا بدأ الرجل بالسوالف الرمادية وسلّم على"ساشا" وشد على يده بقوة "أتوقع أنكما مللتما من انتظارنا! أرجو أن تسامح عمك العجوز لعدم زيارته لكما كل هذه المدة، وأسمح أن أقدم لك كوليا، وكرستيا، ونينيا، وفيفا. يا أولاد قبّلوا أبن عمكم ساشا! كلنا هناّ العائلة بأكملها، وسنبقى لثلاث أو أربعة أيام، أتمنى ألا يكون عددنا كبير بالنسبة إليكم؟ لا تشعر بالحرج منا".
ما إن رأى الزوجان الشابان العم وعائلته حتى أصيبا بالرعب. وبينما يتحدث العم ويقبّلهم، تخيّل "ساشا" كيف سيكون الحال في كوخهم الصغير: فهو وزوجته فاريا سيتركان لهذه العائلة غرف الكوخ الثلاثة، وسيسلمونهم كل الوسائد والآسرة: والعشاء! سيأكلون السلمون والسردين والدجاجة، سيتنازلون لهم عن كل شيء فى لحظة واحدة.
وهؤلاء الأطفال الصغار، سيقطفون ورود الحديقة، وسيسكبون زجاجات الحبر، وسيملئون الكوخ ضجيجا وصياحا، وبهم ستعم الفوضى فى كل مكان. وعمته هذه، تتحدث باستمرار عن أمراضها، وعن أبيها البارون"فون فينتش".
نظر "ساشا" لزوجته الصغيرة، نظرة حقد تقريبا وهمس لها غاضبا "أنت السبب، لقد جاءوا لزيارتك، اللعنة عليهم".
"لا، بل جاءوا ليرونك أنت. إنهم اقاربك وليسوا أقاربي" ردت فاريا غاضبة بشدة. ثم ألتفتت إلي زائريها وقالت بابتسامة ترحيب "أهلا بكم فى كوخنا الصغير"
ومرة أخرى أنشقت الغيوم عن وجه القمراء، وهذه المرة يبدو أنها تبتسم، كما لو كانت سعيدة أن ليس لها أقارب. أدار"ساشا" رأسه بعيدا ليخفى وجهه الغاضب البائس. وبعدها كافح ليخرج صوته نبرة ترحيب ودية وهو يقول:
"لفتة لطيفة منكم! أهلا بكم في كوخنا".
|