القاهرة 07 يونيو 2023 الساعة 11:04 ص

بقلم: أحمد محمد صلاح
لا يستطيع مؤرخ أن يحدد أين نشأت الفلسفة بالتحديد، ومن أول من تفلسف في الوجود، وإن كان البعض قد ذهب إلى أن الاسكندرية بجامعتها هي أول من علمت العالم مبادئ كل شيء، بل إن مصر هي مهد الفلسفة، وكبار الفلاسفة اليونانيين تخرجوا من الاسكندرية.
ولكن.. ولأننا نناقش مسألة فلسفية.. فدعونا نتفلسف قليلا، ونحاول أن نضع أنفسنا مكان أول شخص حاول التفلسف في الكون، لابد وأنه كان إنسانا مترفا، فالفيلسوف لن يضع أفكارا إذا كان جائعا وفقيرا أو لا يجد مسكنا، لابد وأن يكون ذهنه رائقا للغاية، لابد وأن يكون الفيلسوف الأول قد خرج من حضارة استطاعت أن تصل إلى أبعد الحدود الفكرية سواء في الفلك أو الهندسة أو الطب، أي أن هذا الفيلسوف طالع وشاهد علامات التقدم في عصره، فبدأ يبحث عن أصل الأشياء التي هي جوهر الفلسفة، ولن يتأتى له ذلك إلا إذا كان في حالة ترف تجعله يفكر بهدوء ويتفلسف.
ويقول أ. س رابوبرت في كتابة "مبادئ الفلسفة" من ترجمه الأستاذ أحمد أمين: "معنى «يتفلسف» أنه يبحث في ماهية الأشياء وأصولها وعلاقة بعضها ببعض، وليس يخلو إنسان من هذا العمل وقتًا ما، فيمكن أن نقول: إن كل إنسان متوسط الفكر يتفلسف، وإن كل الناس فلاسفة إلى حد ما، مع تفاوت فيما بينهم، إلا من استعبدته شهواته وانغمس في اللذائذ المادية، إلا أن كلمة «فيلسوف» إذا استعملت بدقة لا تطلق على من ينظر إلى الشيء أحيانًا فيتأمله ويفحصه أو يشك فيه، ثم يرى فيه رأيًا يعتقده ويتمسك به، بل كما أنَّا لا نسمي زجَّاجًا ولا قفَّالًا من أصلح في بيته لوح زجاج كُسِرَ، أو عالج قفلًا فَسَدَ، إنما الزجَّاج أو القفَّال من اتخذ ذلك العمل حرفة في حياته، ولم يقتصر على التعليم الصحيح، بل أكسبته المثابرة على العمل مرانة وبراعة، وعرف كيف يصل إلى نتيجة خير مما يصل إليها غير المتمرن بجهدٍ أقلَّ من جهدِه، فكذلك لا نسمي فيلسوفًا إلا من كان أهم أغراضه في حياته درس طبائع الأشياء وتعقلها، وعُدّته في ذلك فِكْره، وكان له بمزاولة ذلك قدرة على إدراك الأشياء بسرعة، وكما أن الصناع على اختلاف أنواعهم يعرفون دقائق عملهم، وإن شئت فقل ينبغي أن يعرفوا ذلك، وأن يكونوا على علم بأحدثِ ما اخترع مما يتعلق بعملهم، كذلك الفيلسوف المتخصص للفلسفة يجب أن يعرف ما وصل إليه مَنْ قبلَه، وما قالوه في المسائل التي تشغل فكره".
هكذا يؤكد رابوبرت وجهه نظرنا في معني الفسلفة، وكيفية نشأتها، مؤكدا أنه نوع من النظر إلى أصل الأشياء، والفيلسوف يرجع الشيء إلى أصله، ثم الأصل إلى الأصل وهكذا، ويستطرد رابوبرت متسائلا: "ولكن ما الحامل على التفلسف؟ وماذا يجني من ورائه؟ يقول أرسططاليس: «إن الدهشة هي أول باعث على الفلسفة» برز الإنسان إلى هذا الوجود فرأى نفسه في عالم مختلف في ظواهره، وواجهه الزمان بظروفه فراعه ذلك واستخرج منه العجب، فبدأ يسأل: لماذا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ رأى هذا العالم أمامه لغزًا فحاول حله، وتلك المحاولة هي الفلسفة" .
ويكمل رابوبرت: "وأصل كلمة فلسفة وتاريخها يدلان على ما ذكرنا، فقد روى المؤرخ اليوناني «هيرودوت» أن «كريسس» قال «لسولون»: «لقد سمعت أنك جُبْتَ كثيرًا من البلدان متفلسفًا» أي متطلبًا للمعرفة، واستعمل «بركليس» كلمة «الفلسفة» يريد بها «الجد وراء التهذب» ومهما يكن من شيء فمنشأ الكلمة يُشْعِرُ بالاعتراف بالجهل والشوق إلى المعرفة..
قال «فيثاغورس» والأصح نسبته إلى سقراط: «الحكمة لله وحده، وإنما للإنسان أن يجدَّ ليعرف، وفي استطاعته أن يكون محبًّا للحكمة، توَّاقًا إلى المعرفة، باحثًا عن الحقيقة.» وهذا ما يدل عليه اشتقاق كلمتي فلسفة وفيلسوف؛ فإنهما مأخوذتان من «فيلوس» ومعناها «محب» و«سوفيا» ومعناها «الحكمة» فمعنى فيلسوف: أي محب الحكمة، ومعنى «سوفوس»: الحكيم. وقد كانت كلمة «سوفوس» في الأصل تطلق على كل من كمل في شيء -عقليًّا كان أو ماديًّا- فأطلقوها على الموسيقي والطاهي والبحَّار والنجار، ثم قصرت بعدُ على من منح عقلًا راقيًا..
فلما جاء سقراط سمى نفسه فيلسوفًا أي محبًّا للحكمة؛ تواضعًا وتمييزًا له عن السوفسطائيين (المتاجرين بالحكمة) الذين كانوا يطوفون البلاد ويعرضون على الناس معارفهم بالثمن -كما يفعل بعض الباعة- وما كان المشترون ليشتروها أيضًا إلا رغبة في الفائدة العملية".
|