القاهرة 06 يونيو 2023 الساعة 11:26 ص

بقلم :سالم الشبانة
الثقافة منتج ومشترك إنساني تشترك فيه كل المجتمعات قديمها وحديثها؛ "فالثقافة تتكون من القيم والمعتقدات والمعايير والتفسيرات العقلية والرموز والأيدولوجيات وما شاكلها من المنتجات العقلية، كما أنها تشير إلى النمط الكلي لحياة شعب ما والعلاقات الشخصية بين أفراده وكذلك توجهاتهم".1 بالتالي، ترتبط الثقافة بكل ما ينتجه الإنسان ماديا: العمارة، الموسيقى، الطعام، الأزياء، الفنون القولية والجسدية، أيضا تصور هذا الإنسان عن الكون والوجود: العادات، التقاليد، والأديان.
إن الشعوب الأصلية؛ هي مخزن الذاكرة الجمعية للإنسانية بما ترسب في أعماقها من تصورات عن الكون، ورؤيتها للطبيعة وتفاعلها معها، من خلال عاداتها وتقاليدها الفطرية، فهذه الشعوب تقدس مظاهر الطبيعة وتربطها بالقوى الروحية، خاصة أنها المحيط الحيوي الذي تعتمد عليه في وجودها الطبيعي ورؤيتها الميتافزيقية.
وشعب سيناء _الذي يقطنها منذ قرون بعيدة الموغلة في أعماق الزمن_ أحد الشعوب الأصلية الذي كوّن عبر الذاكرة الجمعية الإنسانية رؤية للطبيعة تعلي من شأنها وتقدس مظاهرها، مختلفا بذلك عن المحيط الذي أنتج الحضارات الزراعية في مصر والهلال الخصيب، حيث أنتج آلهة وأديانا نفعية بشكل أو بآخر، أكثر تأثيرا في حياة الجماعة الإنسانية، وأشد ثقلا وحضورا.
حتى عهد قريب، كان البدوي في سيناء يؤمن بدين طبيعي أقرب للفطرة الإنسانية البسيطة رغم انتمائه للإسلام، كما كتب نعوم شقير في كتابه تاريخ سيناء: "والروح الديني في بدو سيناء لا يزال على الفطرة فإذا وقع أحدهم في ضيق ثم فُرّج عنه قبّل الأرض وقال: "يوم ما نطول سماه نقبل وطاه".2 قدّس البدوي مظاهر الطبيعة: الأشجار، الصخور، البحر، وقبور الأولياء؛ ينحر لها الأضاحي ويقيم الطقوس الاحتفالية كالرقص والغناء، وتتقرب النساء إلى بعض الأشجار وتتبرك بها، يعلقن بها النذور البسيطة، كالشموع والخيوط والعملات المعدنية وغيرها، لتحقيق أمنياتهن ودعواتهن. ويزور البدوي البحر ويقضي يوما أو يومين عند شاطئه، ينحر الذبائح ثم يرمي رأس الأضحية في البحر وقائلا: هذا عشاك يا بحر.
من الطقوس التي لها جذر أسطوري ويمتد عميقا في أخدود الذاكرة الجمعية للمنطقة، ويتجلى بأصدائه القديمة في الحاضر القريب؛ طقس الاحتفال بأربعاء أيوب أو "أربعة أيوب" كما ينطقها الناس هنا في سيناء، ميقات هذا الطقس مساء يوم الثلاثاء الذي يسبق عيد الربيع أو "شم النسيم"، وفي هذا اليوم، يتجمع أغلب السكان على شاطئ البحر من أول النهار حتى غروب الشمس حينها ينزلون في الماء جميعا.
في المقدس الديني "القرآن الكريم، والعهد القديم"، تتجلى شخصية نبي الله أيوب، ذلك العبد المبتلى بالمرض العضال وفقد الأهل المال، ثم يمنّ الله عليه بالشفاء باغتساله وشربه من عين الماء البارد، ورد الله عليه أهله وماله. قال تعالي: "وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ* ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ* وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ". إن قصة أيوب في اللاوعي الجمعي جعلت البحر المتوسط _الذي يحد سيناء من الشمال_ هذا المسطح المائي الهائل، معادلا موضوعيا للمغتسل البارد الذي نجى أيوب من كربه؛ لذلك تبرّك أهل سيناء بهذا الرمز، فيتقدمون للبحر بالدعاء، وأمالهم بالشفاء من الأمراض، والأمنيات التي تشمل الكثير كالدعاء بالإنجاب لمن تأخر حملها، وغيرها من الأماني.
يتجمع الكل _رجلا، نساء، وأطفالا_ منذ الصباح، ينزل الرجال البحر طوال اليوم، وتجلس النساء يتابعن المشهد أو ينزل بعضهن الماء، لكن عند غروب الشمس ينزل الجميع ماء البحر ويغتسلون فيه وهم يبتهلون بأدعيتهم وأمالهم، بل إن بعض الناس قد يحاول إنزال حيواناتهم الماء كالبغال أو الكلاب في طقس احتفالي، ثم بعد ذلك ينصرفون إلى بيوتهم.
إن رمز التطهر في الماء والاغتسال فيه طقس إنساني عام، منه طقس التعميد في المسيحية وكذلك النزول إلى النهر المقدس مثل نهر الجانج. إن قصة نبي الله أيوب الأسطورية التي أعاد شعب سيناء تشكيلها بما يناسب الجغرافيا _البحر_ حيث ينسبون أحداث القصة لأماكن سينائية تقع على شاطئ البحر. هذا يجعلنا ننظر إلى ذاكرة الشعوب الأصلية نظرة مختلفة لمحاولة تفسير وتأويل تجلياتها المدهشة.
كان هذا الطقس الاحتفالي المبهج الذي يتطهر فيه الإنسان رمزيا في ماء البحر، يفرغ قلقه الروحي أمام البحر _هذا التجلي الرمزي لشفاء أيوب وإسباغ النعمة عليه_ يمنحه القدرة على إكمال مسيرة حياته بانسجام. لكن مع هجمة التشدد الديني السلفي _في مصر عامة وسيناء خاصة_ فقد هذا الطقس الاحتفالي بريقه، مما أدى إلى تناقص المحتفلين به بل ندرتهم في الوقت الحالي.
(1) نظرية الثقافة مجموعة من الكتاب، سلسلة عالم المعرفة الكويتية العدد 223.
(2) تاريخ سينا القديم والحديث وجغرافيتها، نعوم شقير، الهيئة العامة لقصور الثقافة سلسلة ذاكرة الكتابة.
|