القاهرة 23 مايو 2023 الساعة 12:25 م

بقلم: عيد عبد الحليم
هناك نوع من البشر ـ وهو نادر بالتأكيد- يمتلكون درجة من الشفافية يجعلهم يعطون بلا حدود، ودون انتظار لمقابل حتى ولو ضحوا بحياتهم من أجل الآخرين. ولعل هذه العبارة أصدق ما تكون متجسدة في شخصية الراحل "بهائي الميرغني"، والذي كان من الممكن أن ينجو من الحادث الأليم في مسرح بني سويف ـ لو أنه فكر في نفسه! حيث خرج دون إصابة لحظة انفجار واشتعال صالة العرض ولحظة خروجه من الباب تذكر أن من يشتعلون بالداخل، تحصد النيران أجسادهم وأرواحهم البريئة هم أبناء جيله ورفاق المعاناة والكفاح، فما كان منه إلى أن دخل مرة أخرى لينقذ من يستطيع منهم، لكن النيران الغادرة أبت إلا أن تحصد زهور الإبداع المصري ومنهم "بهائي الميرغني" الذي وجد حاضنًا أحد زملائه من الذين كان يحاول إنقاذهم في مشهد درامي مأساوي عميق الدلالة وأظن أنه من النادر أن يتكرر.
ولد بهائي الميرغني بمحافظة المنيا عام (1955) وتخرج في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة عين شمس عام (1979) ثم التحق بالعمل في قصر ثقافة شبرا الخيمة، ولأن هاجس المسرح كان يسكن مخيلته المليئة بأحلام التجديد راح يزيد من نشاطه ويثقف نفسه مسرحيًّا من خلال القراءة في أعمال "بيتر بروك" و"آرثر ميللر" و"إبسن" و"ستانسلافسكي" وغيرهم من دعاة المسرح الجديد في العالم، دون أن يغفل قراءة التراث المسرحي العربي بداية من فنون الارتجال وبابات ابن دنيال و"الأراجوز" و"خيال الظل" مرورًا بالتجارب الكلاسيكية التي ظهرت في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وصولًا إلى فترة ازدهار المسرح المصري في الستينيات.
وقد خرج من قراءته المتعددة والمتنوعة بضرورة إيجاد مسرح بديل ينزل إلى الجمهور العادي في الأماكن المختلفة في القرى والنجوع على امتداد المحافظات، بالفعل جاءته الفرصة الأولى حين شارك في تجربة "الإبداع الجماعي" والتي أشرف عليها المخرج المناضل "أحمد إسماعيل" في (1984) بعرض "الفأس والشمروخ" والذي قدمته فرقة "قرية شما" بالمنوفية من إخراجه.
وقد اعتمد هذا المشروع الرائد ـ والذي جاء على هوى الميرغني ـ على ثلاثة محاور: الأول الجانب النظري وجاء في صورة بيان تأسيسي للفكرة ينظر إلى المسرح باعتباره عملية اجتماعية نوعية في الأساس، وأن كل عمليات الإلحاق التقني والمادي والتي واكبته على مدار التاريخ لا تستطيع أن تنال من هذه الحقيقة ولا أن تصمد كبديل عن جوهره الاجتماعي الحي.
أما الجانب الثاني فيتجلى في فكرة المواجهة الحتمية للمسرح التجاري الذي ابتعد كثيرًا عن القيم المسرحية العريقة التي بني على أساسها هذا الفن الرفيع الذي واكب التطور البشري وارتبط بكل ما هو إنساني وقيمي، وكان دائمًا ـ أداة للكشف والرصد والتحليل والبحث عن مكونات النفس في بساطتها وتشابكاتها الداخلية والخارجية.
أما الجانب الثالث فأكد على ضرورة وجود بدائل إيجابية لتطوير فكرة مسرح القرية أو بمعنى أدق "المسرح الشعبي".
كان هذا المشروع نواة حقيقية لاكتشاف العديد من المواهب الإبداعية أمثال "حسن عبده وعبير علي، ورءوف جمعة، ونهاد أبو العينين، وسهام إسماعيل، ومحمد عزت، ويوسف إسماعيل" وغيرهم.
وقد أعطى له قدرًا كبيرًا من الثقافة مشاركة مجموعة من النقاد المتميزين في لجنة التحكيم أمثال "فاروق عبدالقادر وفؤاد دوارة ومحمود نسيم".
وقد لاقى عرض "الفأس والشمروخ" إقبالًا جماهيريًّا من فلاحي القرية الذي من فرط إعجابهم به حملوا "الميرغني" على الأعناق وطافوا به في شوارع القرية ابتهاجًا بما شاهدوه.
وربما يأتي هذا الإعجاب من أن العرض ليس ابن نص مكتوب إنما جاء كحصاد لورشة عمل جماعية قامت على جمع الموروث الشعبي الحكائي للقرية، وهي الفكرة التي حاول "الميرغني" بعد ذلك التعمق فيها؛ فبدأ في مراجعة "بابات ابن دنيال" والتي بدأ يمزج بها نصوص "يوجين يونسكو" ويقدمها على خشبة المسرح المصري مستفيدًا من تيمات شديدة المحلية لتقديم بنية مسرحية مختلفة تمزج بين الشكلين.
ومن أجل ذلك أسس فرقة "الطيف والخيال" والتي قدمت مجموعة من العروض كان أشهرها "السرايا الصفرا" التي أشاد به عدد كبير من النقاد على رأسهم د. "علي الراعي" الذي قال في مقدمة كتاب مسرح الشعب والذي صدر عن دار "شرقيات" للنشر والتوزيع عام (1993): أما "خيال الظل" فقد نال حظًّا وافرًا من التقدير وقد تبنته إحدى فرق الشباب وسيلة للتعبير فقدمت فرقة "الطيف والخيال" عرضًا بعنوان "السرايا الصفرا" وصفته الناقدة "منحة البطراوي" بأنه جعل خيال الظل يتحدث عن قضايا حياتية معاصرة بل نفذ إلى أعمال قدرات شخصيات الخيال وجعلتها تتغلغل في سراديب العبثية، ذلك أن العرض قد أفاد من إحدى مسرحيات "أونيسكو" العبثية المسماة "جاك أو الخضوع" واتخذ من العبث وسيلة لفحص أحوال نزلاء السرايا الصفراء، وأقام علاقة تكاملية أحيانًا وأخرى تضادية الظل بين شخوص الظل والممثل، فمن شاشة خيال الظل ينبثق ممثل يحول الخيال إلى واقع ملموس".
ولعل ما حدا "بالميرغني" أن يتجه إلى الموروث الشعبي وتقنياته عبر تضفيره بظلال واقعية هو حال المسرح المصري الذي سيطر عليه الطابع الاستهلاكي منذ بداية السبعينيات وحتى الآن وزاد من حدة الإشكالية غياب الوعي ـ حتى ولو في إطار نسبي ـ من منتجي وفناني المسرح الذين باتوا ينظرون أولًا إلى شباك التذاكر أكثر من نظيرتهم إلى ما يقدم على الخشبة.
لذا رأينا حتى تولى إدارة مشروع "مسرح الأماكن المفتوحة " في الهيئة العامة لقصور الثقافة في الفترة ما بين أعوام (1996) و(1998) أثناء توليه إدارة هذا المشروع بدأ يكثف نشاطه في إنتاج مجموعة من العروض في قرى مصر الصغيرة حين كانت المسرحية ـ أحيانًا ـ تقدم على شط ترعة.
ولأنه كان من المؤمنين بفكرة العمل الجماعي فقد استعان بعدد من أصدقائه الذين تفاعلوا مع التجربة؛ نظرًا لأنهم أبناء جيل واحد من ناحية ومن ناحية أخرى لانحيازهم إلى فكرة التجريب وكان منهم "حازم شحاتة ومهدي الحسيني وعبدالستار الخضري ومحمود نسيم" والذي قد تولى هذه الإدارة قبل "الميرغني" مباشرة إلا أن ذلك لم يمنعه من المشاركة في التجربة، والتي كان من تجلياته وصول الرسالة المسرحية إلى مستحقيها من الريفيين البسطاء.
لكن للأسف ككل الأشياء الجميلة تم وأد هذه التجربة وهي في أوج نجاحها وأظن أنها لو استمرت إلى الآن لكان من الممكن أن يتغير حال المسرح المصري، وهكذا عاش بهاء الميرغني.
وهو وبحق صانع مشاريع ثقافية ـ على حد تعبير الشاعر الصديق د. محمود نسيم ـ رحل وترك لنا لوحة إنسانية يصعب على أي فنان تشكيلي في العالم أن يرسم ملامحها؛ لأنها جدارية خالدة من لحم ودم عاشت واحترقت في حب الوطن.
• أحلام مشروعة
أما عرض "أحلام مشروعة" تأليف أمير سلامة والذي أخرجه "بهائي الميرغني" للفرقة المركزية للهيئة العامة لقصور الثقافة عام (1991) على المسرح العائم فيناقش قضية إنسانية، تراهن على الفعل الإنساني والقوة الروحية في مواجهة القهر بمستوييه: الداخلي والخارجي، عبر مجاهدة الأحلام الموءدة والطموحات السلبية والمستلبة، كمحاولة للخروج من عذابات لا تنتهي.
هي ـ إذن ـ مسرحية تعبر عن مأزق وجودي في الأساس فتبدو الأحلام في منأى عن إرادة الفعل رغم أنها ـ في الأساس ـ "أحلام مشروعة".
لذا يمكننا القول بأن "العرض ينتمي إلى ما يمكن أن يسمى بالمسرح النفسي المتأثر بالرؤى الفرويدية، فبطلة المسرحية "كوثر" تنتمي إلى إحدى العائلات الأرستقراطية وتمارس القهر على مخدومتها "زينب"، ثم تتوهم أنها قتلت حبيبها القديم، ونراها تحلم طيلة العرض بأن يكون حبيبها الجديد "مصطفى" يحبها على قدر حبها له، وتظل مثل هذه الحالة من الصراع حتى في حلمها أن تصبح أمًّا وجدة، ويرجع هذا الصراع حسبما يشير النص المسرحي إلى الموروث الأسري القاهر ترسمها لها مخيلتها المريضة، لذلك نراها تفتقد إلى عناصر الحياة وأهمها المواجهة، وهذا ما يؤكده مشهد النهاية حيث تقف وحيدة في منتصف خشبة المسرح ثم تسقط من فرط الإعياء بعد أن تتهمها خادمتها "زينب" بالجنون وتتركها وحيدة تواجه مصيرها.
وقد مزج "الميرغني" بعض شخوص العمل ذات الطابع البشري بعالم العرائس، خاصة حينما يعلو خطاب الفصام النفسي في لحظة الذروة للأوهام، والمخاوف التي تسيطر على رأس البطلة "كوثر" والتي قامت بدورها الفنانة عزة الحسيني، فتظهر الشخوص على خشبة المسرح بأقنعتها كأشباح متحركة، أو على حد تعبير الناقد أحمد عبد الرازق أبو العلا فإن "الميرغني جعل الصورة المسرحية تستوعب العناصر المختارة لملء الفراغ المسرحي ليس بمعزل عن الممثل، بل اتصالًا به، واعتمادًا عليه كعنصر آخر تضافر والعناصر الأخرى في مزج متناغم.
وقد لعب فنانو تحريك العرائس والظلال "ناصر عبدالتواب" و"حمدي العربي" و"إسماعيل عبد الحميد" و"عادل ماضي" دورًا كبيرًا في إبراز الفعل الحركي للدمى، والتي جاءت في إطار تصميمي رائع للفنان "وصفي فيهم" .
• فرافير "الميرغني"
في عام (1964) كتب يوسف إدريس مسرحيته الفارقة "الفرافير" والتي قدم لها بمقدمة نظرية ـ ذات طابع تأسيسي ـ تهدف إلى إيجاد صيغ بديلة لخلق حالة من التمسرح تعتمد على الأشكال المسرحية الشعبية المصرية كخيال الظل والسامر والأراجوز والحكواتي.
وكانت دعوته هذه ترمي إلى وجود مشترك رؤيوي يجمع بين الفنان والجمهور على اعتبار أن المسرح أداة للمشاركة وليس لمجرد الفرجة العابرة. ولأن التطبيق العلمي يخالف ـ كثيرًا ـ ما رمت إليه النظرية في مسرحية "إدريس" في عرضها الأول لم تحقق المرجو منها رغم ما أحدثته من ضجة في الوسط الثقافي في منتصف الستينيات.
ومع ذلك ظل الحلم يراود "إدريس" في البحث عن مسرح بديل يستهدف الإنسان، تجسد فيه صيغ العدل والحرية والمساواة من خلال نقد اجتماعي مغلف برمزية متعددة الدلالات.
ولأن "الفرافير" نص شائك يحمل إشكاليات عديدة فقد وقع الكثيرون من عشاق المسرح في غرامه المسلح، ومنهم "بهائي الميرغني" والذي أعاد هذا النص على خشبة مسرح ثقافة شبرا عام (1990) أي بعد حوالي (26) عامًا من المحاولة الإدريسية الأولى.
ومع ذلك وقع "الميرغني" في شَرَك النظرية فقدم عرضًا ينتمي إلى الفرجة الشعبية، ولم يستطع الوصول إلى حالة "التمسرح" رغم المحاولات الجادة التي قام بها كمخرج للعرض، في الارتقاء بالأداء التمثيلي، وتفعيل الشخصية "الفرفورية" ذات الطابع الكوميدي الساخر، والتي قال عنها "إدريس": إنها "ظاهرة اجتماعية مميزة للشخصية المصرية بكل ما تحتويه من ذكاء ومهارات وسخرية وحكمة".
• مشاريع مسرحية:
من المشاريع المسرحية التي كرس لها "بهائي الميرغني" كثيرًا من وقته وتفكيره وجهده الإبداعي "مشروع مسرح الأماكن المفتوحة" والذي ألمحنا إليه سابقًا، والذي جاء في الأساس للخروج من أزمة المسرح الإقليمي المتخم بالمشاكل والمعوقات نظرا لسطوة البيروقراطية الإدارية من ناحية، ومن ناحية أخرى لقلة الموارد ـ فمن المعروف أن ميزانية المسرح بالهيئة العامة لقصور الثقافة هي من أقل الميزانيات على مستوى قطاعات الهيئة.
ونظرًا لأن هذا النوع من المسرح لا يحتاج إلى دور عرض مسرحية مجهزة، وإنما يحتاج إلى فضاء مكاني تستخدم فيه الأماكن الطبيعية من أشجار وأرض ومناظر داخلية والتجديد في التقنية المسرحية والتي لا بد وأن تجيء ـ بطبيعة الحال ـ مغايرة للإطار التقليدي.
وقد طاف "الميرغني" قرى مصر المختلفة لتقديم هذه الرؤية من خلال مجموعة من العروض كان أولها "شمهورش الكداب" تأليف د. "عبدالمعطي شعراوي" وإخراج "رضا غالب" وقد قدم في "ستاد مدينة دكرنس" بمحافظة الدقهلية، وقد حاول إقامة علاقة بين المكان والنص التقليدي، ومن خلال خلق فضاء مسرحي مرن أزال الفواصل الزمانية والمكانية للخطاب المسرحي، فيما يمكن أن يسمى بـ"نسبة المكان الخيالي".
وهي تقنية ليست جديدة على المسرح فقد ظهرت في العصر الإليزابيثي "فقد كانت القصور نفسها أماكن عامة وذلك عن طريق تزويدها بالعديد من المداخل: الأبواب، الشبابيك، الشراك، الفتحات الداخلية، وبذلك تعمل كل واحدة منهم على تنبيه المشاهدين بتغيير المكان.
وهنا يمكننا القول بأن المسرح المفتوح يعتمد ـ في الأساس ـ على وجود خشبة مرنة تحطم الحدود عمدًا حتى أن زمان ومكان المسرح يصبحان في تغير دائم(1)
في حين أن الخشبة التقليدية ذات طبيعة ثابتة تستطيع من خلالها أن تحافظ على حدودها بلا انتهاك أو تدخل أثناء المسرحية.
أما التجربة الثانية لإدارة "الميرغني" فقدمت في قرية "بركة غطاس" بمركز أبو حمص بمحافظة البحيرة تحت عنوان "قراقوش والأراجوز" تأليف السيد حافظ إخراج سيد هنداوي الذي قدم العرض في "جرن" واسع محدد في أحد جوانبه بمسجد، وبجانبه الآخر بمنزل ريفي بسيط تظهر عليه ملامح البرجوازية الريفية من نحو بيوت العمد وأغنياء القرية، أما الجانب الثالث فكان عبارة عن مجموعة من البيوت الريفية ذات الطابع البدائي والجانب الرابع عبارة عن شارع فسيح، وقد جلس المتفرجون على الأرض محيطين للعرض التمثيلي، ومعهم لجنة التحكيم التي كان من بينهما المفكر الكبير "محمد أمين العالم"، وربما جاء اختيار المخرج لهذا النص الذي يحمل مدلولات شعبية كمحاولة للاقتراب من الجمهور، بمعنى آخر كان اختياره للنص لإحداث تفاعل جماهيري، دون التأكيد على البعد الرؤيوي الذي يطرحه، ولهذا جاء العرض باهتًا أشبه بجنين ناقص؛ لأنه من الناحية التقنية لم يستفد بسينوغرافيا المكان الطبيعي؛ حيث حصر العرض في منطقة لا تزيد عن ثلاثة أمتار دون الاستفادة من الخلفية الطبيعية، ومن ناحية الخطاب الإبداعي، جاء العرض بما يحمله من رمزية عالية فوق طاقة الجمهور البسيط الذي لا يهمه ما حدث في العصر الأيوبي أو المملوكي ـ رغم عشقه للموروث الشعبي ـ قدر ما يهمه طرح مشاكله الحية والعلاقات الاجتماعية في القرية.
وقد وقع في هذا الخطأ ـ أيضًا ـ عرض "زمن خلص" وهو عبارة عن نتاج لورشة عمل جماعية قادها الدراماتوجي "محمد الفيل" وأخرجها محمود الشوربجي والذي اختار لعرضه المساحة المستديرة الملحقة بسراي خالد محي الدين بمدينة كفر شكر بمحافظة القليوبية، وإن اتسم العرض عن سابقيه باقتحام مناطق مسكوت عنها في المجتمع الريفي منها موضوع الختان للإناث وأضراره وأخطاره الفسيولوجية والنفسية.
ومن العروض التي قدمها المشروع وكانت ذات طبيعة مكانية مغايرة عرض "ثمن القمر" تأليف "طارق عمار" وإخراج "سيد فجل" والذي قدم بقرية "القضابة" بمركز بسيون بمحافظة الغربية، على ضفاف النيل، وقد وزع المخرج الممثلين ما بين الشاطئ وداخل أحد الجزر الصغيرة في النيل، واستفاد، من سينوغرافيا المكان؛ حيث وظف عمود الكهرباء المزروع في المنطقة ليعتليه بطل العرض "الغريب" الذي يلقي من فوق حواره السلطوي الذي يؤكد من خلاله سيطرته على أهل القرية.
وقد استخدم المخرج "االبوص" النابت على أطراف النهر كديكور يخرج ويدخل إليه ومنه الممثلون في بداية ونهاية كل مشهد وقد اعتمد "فجل" على التيمة الشعبية لتناسب جمهور المتفرجين ومنها تركيزه على بعض الطقوس الريفية لحظة خسوف القمر؛ حيث يدور أطفال القرية في الشوارع مناجين "بنات الحور" كي يتركن القمر يرجع إلى دورته النورانية مرة أخرى. هذا الجو الطقسي المشحون بآليات التدين الشعبي، تستتبعه ـ بعد ذلك ـ مجموعة من الحكايات المتداخلة ذات الطابع الواقعي وبعضها ـ في الغالب ـ يأتي شبيهًا بالجمل الاعتراضية التي لا محل لها من الإعراب.
لقد كان "بهائي الميرغني" من خلال مشروعه الرائد يهدف إلى أمرين مهمين من وجهة نظري:
أولهما: وصول المسرح برسالته السامية إلى مستحقيه من البسطاء والمهمشين في القرى والنجوع والكفور في إطار ثقافي مجاني عبر لغة مسرحية تغوص في لحمة الواقع.
ثانيهما: إيجاد مساحات تجريبية تتناسب مع الفضاء المسرحي وتوظيف العرض باستخدام تقنيات وأساليب تبنى على مفهوم المسرح الشعبي الجماهيري من خلال فرق مسرحية متجولة، تعتمد على إبراز فكرة "المسرح الموازي" "Para-theatre" والذي يشير إلى تعدد مستويات التمسرح(2)
وأعتقد أن "الميرغني" عاش مسكونًا بهاجس أساسي حول فكرة "المسرح الشعبي" والذي يحمل في طياته بعدًا تحريضيًّا ـ ليس بالمعنى المباشر للكلمة ـ وإنما عبر تقنيات أدائية تتسم بالدعوة إلى حراك اجتماعي وثقافي وسياسي، بمعنى أدق أن يكون "المسرح مرآة" على حد تعبير "سعد الله ونوس".
ورغم أن المشروع لم يقدم المرجو منه إلا بشكل نسبي؛ نظرًا لضعف الإمكانيات المادية، وقلة خبرة مؤلفي ومخرجي الأقاليم والذي اعتادوا على تقديم مسرح تقليدي كلاسيكي الرؤية والأداء يقوم على التلقين والحفظ والروتين اليومي بعيدًا عن النظريات الجديدة في المسرح العالمي والتي باتت تتغير يومًا بعد يوم.
ومع ذلك يبقى "للميرغني" تحية واجبة لتجربته الفريدة ولاقتحامه الحواجز الإدارية المتراكمة، في محاولة لخلق حالة مسرحية مصرية الأداء.
• هوامش:
1 ـ أحمد عبدالرازق أبو العلا ـ ذاكرة المسرح الهيئة العامة لقصور الثقافة 2005.
2 ـ الفضاء المسرحي ـ تحرير خميس فيردون ـ مطبوعات المهرجان التجريبي ـ ترجمة د. محمد سيد وحسين البدري ومراجعة د. محمد عناني.
|