القاهرة 23 مايو 2023 الساعة 11:31 ص

قصة: د. محمد سمير عبد السلام
كرة سوداء تتراقص أمامي، مملوءة بغرف ومنحنيات، وفضاءات تشبه الأمواج في تصاعدها وهبوطها المتكرر؛ الفضاءات تتجاور الآن، وتتداخل، وتنسحب نحو عمق يشبه الأنابيب الحلزونية التي تنبع من دوائر مجهولة لا ترى بدايات تكوينها، تطل نحوي من إحداها جمجمة غزال تشبه الجمجمة المعلقة في لوحة أيام الصيف لجورجيا أوكيف؛ المناطق الرخوة البيضاء حول الجمجمة تنشئ فراغا أصفر يطل منه وجه صقر، ينظر إلي ثم يغيب في الجمجمة ويعاود الظهور مصحوبا بأصوات غربان لها أصداء متقطعة كأنها تمر في حلم قديم، ثم يختفي وتبرز جمجمة الغزال مرة أخرى، تتحرك في صخب كأنها تهرب باتجاهي، وتعبرني من خلال بقعة بين البني والرمادي في صدري، بينما تتصاعد مياه كثيفة في مجالي الهوائي المملوء بالبقع الرمادية، والبنية والبنفسجية؛ وكلما اقترب الرأس مني، أو سبح في المياه المملوءة ببقع حمراء داكنة، أجد البقع تخرج أجنحة بيضاء متقاربة، ومتداخلة ضمن مثلث كبير تنتظم فيه وحدها في الهواء، تتقارب المسافات بينها بينما أستمع لصوت ضرباتها القوية على حائط مجهول، وتحيطها أصوات متداخلة من شارع تجاري قديم بينما نستمع إلى قدم ديناصور يتقدم ببطء متقطع وسط أصوات الشارع الصاخبة، تتصل الآن الأجنحة بفضاء اللوحة الأولى؛ تبدأ في رسم قلب حول الفراغ، بينما يعبث الرأس في البقع والمجالات الهوائية والمائية الملونة بداخلي.
تتسع البقعة البنفسجية بداخلي، وأجد صوتي مختلطا بصوت يأتي صاعدا من داخل جمجمة الغزال، وصوت خافت للصقر يأتي مثل نغمات التشيللو، وتحيط به مجموعة من السحب، وتأتينا من خلف اللوحة أصوات نسوة يضحكن وتخرج من أصواتهن بقع وردية ممزوجة بالأزرق الداكن، وتتوسط تلك البقع الطائرة صيحات حادة تشبه أدوار السوبرانو في حالات الوهج، أو الغياب.
ما هذا التيار المائي الأصفر البهيج الذي يصل مجالي بمجال اللوحة؟
أستمع إلى صوت ممثلة تقول:
إنني الأنسب لدور عايدة في هذا الحلم الجديد، فقد دخلت قبرها كثيرا وصعدت مرة أخرى على الدرج باتجاه البقعة الزرقاء، وكانت تراقبني من فتحة خفية بينما أغني أغنية البجعة المتكررة. أكنت هناك وقتها؟
آه، تذكرت، ذات مرة قامت هي بتمثيل دوري أيضا في مسرح مملوء بمياه البحر ووجدت نفسي مثل ظل، وقتها ناديتك ولم ترني، وظللت أسبح في المياه حتى سقطت في ممر حلزوني وطرت في فضاء من الهواء الكثيف، وظللت أتأرجح، وأستمع لتصفيق تتوسطه صرخة تشبه صوت الطفلة في ست شخصيات تبحث عن مؤلف لبيرانديللو، وقفت بعدها فوق فجوة سوداء متراقصة، ووجدت شخصا يشبه دون جيوفاني يراقصني ويجذبني ويصعد معي في اللون الكثيف، كنت أرتفع وأصرخ، وأسقط، وأضحك.
فضاء آخر بالكرة السوداء، يخرج منه بناء مجرد غير منتظم، مملوء بمنحنيات، ومثلثات غير مكتملة، وقد تشكلت جدرانه من أوتار آلة الهارب، تأتيني من داخله نغمات هادئة، ثم تتصاعد، وتتحول إلى عاصفة قد تشكلت في اسطوانة كبيرة تأتيني في صورة منحنيات وفيرة متقطعة، ومرنة من أوتار الهارب، وأجدني محاطا بفضاء زئبقي يختلط بعاصفة رملية، وتمر الأوتار بمجالي، بينما أجد حولي نقوشا لصيادي ما قبل التاريخ، وتتصاعد في المشهد أصوات الغزلان القديمة، وصيحة حيوان منتصر، وأصوات لكورال موتسارت، وزئير يختلط بأوتار الهارب الهادئة، ويعبر فضائي، بينما تطل من فجوة بالصحراء الشاسعة في الفضاء الرخو امرأة من لوحات هيرونيموس بوش، ترتدي عباءة سوداء بينما يمتلئ بطنها بفجوات حمراء داكنة وقد استحال نصف وجهها إلى بعض تمثيلات أوفيليا، أما نصف وجهها الآخر فقد أتى كوجه عجوز من حلم قديم، تقترب مني، وتقول:
ألا تذكر حين كنا نجلس على شاطئ المحيط ليلا؟ حين كنا نغني وحدنا وتلتف حولنا أسراب من النوارس الشفافة الصاخبة، وارتفعنا فوق فجوة سوداء عميقة ومملوءة بأصوات عاصفة آلة الهارب، وكانت الأوتار تعبث في الفجوة، ونرى تحتها مجموعة من الممثلين والممثلات، ونستمع إلى صوت امرأة تقول:
نعم، نعم الأحداث تبدأ من منتصف الفجوة، مسرح الغرفة، المحيط، البحر، عاصفة شكسبير تمر بأذني، تاريخ الجزيرة القديم يحيط بي، أستمع إلى سيرينات أودسيوس، وضربات أجنحة الرخ، الحلم الأول انتهي لنبدأ أداء الحلم الثاني في غرفة زرقاء بها نقوش الدولفين والقرش، وخطوط حادة، وخافتة أحيانا ومتقاطعة مثل شبكة افتراضية لصوت بطل العجوز والبحر لهيمنغواي.
مجالات الممثلين والممثلات تتموج في الأسفل، وتصعد في اسطوانة، وتتشكل الآن جوقة، ثم رقصة غير مكتملة، ونستمع إلى رجل وامرأة يتحدثان بأصوات متقطعة، ومختلطة بنغمات الهارب الحادة مثل؛ أور، غي، صو، دوم، دام، بوم؛ الأصوات تتموج، وتتصارع أحيانا، وتشكل قطعا متفرقة من مرايا سقطت من قصر يشبه قصور الحكايات القديمة، وتحيطها تشكيلات حلزونية تعود إلى المسرح وترتفع مرة أخرى داخل اللعبة، الآن نشعر ببناء يستبدل مسرح الغرفة من الأسفل، ويتجه إلى أعلى، يتكون من قطع مرايا عليها أشكال تبدو قريبة من مفتاح صول، تطل من فجواته أقنعة ممثلين في احتفالية سحيقة، وصور ممثلين يضحكون بإحدى مسرحيات موليير، أو يتوسطون عوالم يونسكو وفاجنر، بينما يتغنى أحدهم ببعض أغنيات ستيفن في روايات جويس، وتلتف حوله أعمدة خضراء وبرتقالية؛ ويبدأ الممثلون الجدد في بناء حبكات متصارعة، أو متموجة بينما نستمع إلى صوت امرأة تتحدث من مسرح الغرفة بالأسفل:
أنسيتم معمارنا السابق؟ ألم ننشئ تلك الغرفة من وجوه مهرجين يملؤها الضحك والرعب والدهشة ويحيطها من كل جانب تصفيق الجمهور، وكان ذلك التصفيق متصاعدا ومكررا ومختلطا بأصداء أصواتنا حين كنا في ذروة مشهد مراقبة البطل لظله في المسرحية؟
هل كنتم معنا ونحن نعد نجهز غرفتنا أم أتيتم من خلف وجوه المهرجين على الحوائط؟ أأتيتم من فراغات المرآة أم من أحلامنا في مشهد تعالي الأصوات، وتصارعها، وغيابها في الفراغ؟
صوتك أيها المهرج يأتينا من خلف قطع المرايا، من فجوات بنفسجية ورمادية خلف الحائط، يتصاعد في المشهد ويستبدل أصواتنا في ذروة المسرحية، وينشئ ذلك البناء؛ فنصير مثل ممثلين من عصور، وفضاءات عديدة ضمن تلك الحبكات، والألعاب الأخرى؛ لم دخلت مرايانا، أتشبهنا أم تعكس أبطالنا الآخرين وأصواتنا الأخرى؛ لقد كان صوتك يعبث بداخلي حين بدأت أرسمك على سطح المرايا، وداخل تلك الفراغات الطائرة التي كانت تطارد بطلنا في ممر الغرفة قبل أن تتصاعد نغمات المسرح الآخر حولنا في المشهد.
الفضاء الثالث يتشكل أمامي مثل سرداب مظلم، تسبح داخله هالات مضيئة، تتداخل مع قطع العتمة العميقة الممتدة في مجالي الهوائي، وأرى ظلالا لحيوانات غير مكتملة؛ ماموث، وحيد قرن، نصف أسد، ناب تمساح يعبث وحيدا، صوت لذئب مثل منحنى تجريدي أسود لامع، وتتشكل الآن بقعة حمراء دينامية تتحرك في صخب شديد وكثافة، تحيطها أصوات أجنحة عملاقة غير مرئية، بينما أجد امرأة ترتدي زيا ملكيا نقش عليه طائر ضخم مثل طيور لوحات هيرونيموس بوش السريالية، تقترب مبتسمة ثم تحيط بها عاصفة رملية من الخلف، وأستمع الآن لأصوات طبول تشبه كريشندو بيتهوفن في السيمفونية التاسعة، تأتيني متقطعة، وممزوجة بالرمال والبقع الأرجوانية، وأصوات سيارات، وصرخة هوائية لبجعة وحيدة تصلني بالمرأة، بينما يمتلئ الفراغ أمامي بفجوات رمادية أميبية، يخرج منها صوت قرار غير محدد، وألتحم بأصوات الطبول العميقة التي بدأت في التصاعد بداخلي، وأعاود السباحة ببطء باتجاه أبواب مضيئة تتشكل في منحنيات وتختفي ثم تتشكل وتظلم، تصنع فجوات لتكوينات تشبه الطيور، تضيء، وتعاود الاختفاء، وتأتيني من ورائها أصوات، ونغمات أخرى.
|