القاهرة 23 مايو 2023 الساعة 11:29 ص

كتب: صلاح صيام
كثيرة هي القصص التي تؤكد علاقة العشق التي ربطت مصر بشخوص ليسوا منها بل قدموا إليها لسبب أو لآخر، فسرعان ما انسجموا مع الشعب المصري وذابوا عشقا في طيبته وأخلاقه، فكان التعامل سهلا ومريحا، لذلك اختار معظمهم البقاء في مصر ومنهم من اختارها وطنا ثانيا فأقام فيها، وآثر أن يدفن في ثراها على أن يعود إلى وطنه الأم.
وطني بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، عاشقٌ لتراب هذا البلد حتى النخاع، رفض أن يغادره في أي وقت، ووقف بجانبه، محتفظا بديانته اليهودية، حسم العداء بين مصر وإسرائيل، لصالح الوطن الذي ولد وتربى فيه وشرب من نيله، وسرى هواؤه فى رئتيه، هذا هو ألبير آريه أقدم يهودي بالقاهرة، أحد أكبر المناضلين الشيوعيين ضد الاستعمار.
لم تنقص ديانته اليهودية من حبه لمصر أو كرهه لإسرائيل شيئا، ورفضه للهجرة خارج مصر أكبر دليل على أنه عاشق لتراب هذا البلد حتى النخاع، وقف ضد اتفاقية كامب ديفيد وأيد ثورة 30 يونيو وتضرر من ثورة 25 يناير.
أقدم يهودي بالقاهرة، والشاهد على أسرار حارة اليهود، والطائفة اليهودية برمتها وأصبح شاهدا على التعايش في المجتمع المصري بتركيبته وعراقته وتسامحه.
قال عن نفسه " أنا مصري وأبي كان معه الجنسية المصرية، فنحن مصريون ونعشق تراب هذا البلد حتى النخاع بالرغم من أنه كان عندنا محل واتحرق في 1952، وطول عمرنا عندنا أصدقاء مسلمين وعلاقات جيدة جدا بكل الناس ولم نشعر بأي تفرقة في بلدنا، وفي فترة ما بين 1956 و1959 كانت الظروف منيلة وبالرغم من ذلك رفضنا الهجرة مرارا وتكرارا ويهود مصر عموما هاجروا إلى دول أوروبية مثل فرنسا وإيطاليا إلا واحدا أو اثنين منهم سافروا لإسرائيل".
ولد ألبير آريه في شارع الفلكي بوسط القاهرة فى (25 يونيه 1930) لأب تركي جاء مع شقيقه إلى مصر مطلع القرن العشرين ليعمل محاسبا بمحل تجاري بالموسكي، أما والدته فكانت ابنة عامل روسي حل بمصر نهاية القرن التاسع عشر، ولم يعرف ألبير غير القاهرة وطنا.
يحكي "آريه" أنه وعائلته لم يكونوا من المتدينين اليهود، فلم يدخل المعبد اليهودي بشارع عدلي بوسط القاهرة إلا بعد تجديده عام 2010. نشط ألبير آريه في الحركة الشيوعية المصرية منذ الأربعينيات من القرن الماضي، وسُجن عام 1953 لمدة 11 عاما. ولم يندم على رفضه لقرار الهجرة من مصر إلى أي دولة أوروبية لأنه كان منضما إلى الحزب الشيوعي، وحبه ونضاله للبلد منعنه من تركها.
يقول "آريه": "ذقت المرار في ثورة 25 يناير لأنهم عندما كانوا يضربون قنبلة في الميدان فيدخل الدخان لشقتي وكانت الظروف صعبة، بالإضافة إلى الخسائر الفظيعة التي عانى منها في 25 يناير رجال الأعمال بالملايين، وهذا ليس إنكارا مني لدور الثورة فهي أي نعم طيرت مبارك ولكن وبعدين؟ الشيء الايجابي أنها خلصتنا من الإخوان لأنهم لو كانوا قعدوا كانوا هيفضلوا في الحكم عشرات السنين، وكانوا دمروا البلد، فالإخوان عندهم طول عمرهم وجهين العلني والسري، في الجهاز السري تلاقيهم بيشتغلوا عادي جدا وبمنتهى النشاط، وما يحدث من تفجيرات في البلد الآن وراءه تنظيم هدفه ضرب السياحة والكهرباء وأي تنمية اقتصادية، بالإضافة إلى تدمير الغاز والمرافق، على أساس إن أي حاكم يفضل ولا يستطيع انتشال البلد فالشيء الوحيد الذي لم يكذبوا فيه عندما قال "الشاطر" في الليلة السابقة لفوز محمد مرسي، إنه لو نجح شفيق هيولعوا في البلد وهذا فعلا الشيء الوحيد اللي كانوا صادقين فيه".
ورغم أنه تجاوز 90 عاما من العمر إلا أنه قبل رحيله بأيام شارك في تقرير وثائقي لإذاعة صوت ألمانيا عن يهود مصر، كما كان يواظب على الكتابة اليومية والتفاعل عبر صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وتدوين ذكرياته عن القاهرة الجميلة حضارة وشعبا، وآخر تدوينات كتبها كانت عن ذكرياته عن حارة اليهود أثناء وباء الكوليرا أكتوبر 1947، وقبل كورونا كان أريه يحرص على ممارسة طقوسه بالذهاب إلى مكتبه بعمارة مصطفى كامل التاريخية بوسط البلد.
ووفقًا لحكاية آريه عن نفسه فإنه استقر في حي عابدين طوال عمره، كما ربطت والده علاقة بالقيادات الوفدية مثل الزعيم سعد زغلول، وإسماعيل صدقي، واختار الوالد أن يتنازل عن الجنسية التركية ويحمل المصرية. لذا اعتبر الرجل نفسه مصريا خالصا، ولم يكن يرى أي تضارب بين عقيدته وانتمائه، فظل محبًا لمصر، مخلصا لها، مدافعا عنها، ومؤمنًا بقناعاته السياسية حتى آخر لحظه في حياته.
|