القاهرة 09 مايو 2023 الساعة 12:03 م

بقلم: د. حسين عبد البصير
كان لدى قدماء المصريين إحساس كبير وشعور لا يُقاوم بحب الوطن والانتماء إليه والحنين إليه ورغبة عارمة في العودة إليه مهما طالت السنين، على عكس أهل بعض الشعوب الأخرى الذين كانوا يفضلون العيش في الأوطان الجديدة، ولم يكونوا يفكرون في العودة إلى أرض أوطانهم، ولم يكونوا يهتمون بالتفكير في العودة إليها. لقد كانت فكرة الوطن والمواطنة متأصلتين في ذات المصري القديم بشكل مذهل وليس له مثيل. وكان المصري القديم مرتبطًا أشد الارتباط بأرض مصر الطيبة المباركة. ويتضح ذلك بشكل كبير في عدد مميز من عيون الأدب المصري القديم، والتي صورت حالة قدماء المصريين خارج الوطن، والتي جسدت رغبتهم الكبيرة في العودة إلى أرض مصر، وأبرزت رغبتهم في عدم العيش خارجها لفترة طويلة، حتى لو وصل المصري إلى أقصى الدرجات والأماكن والمكانات والتكريمات خارج الوطن، والذي كان يعد أي تكريم خارج الوطن شيئًا من النقصان. لقد كان المصري القديم هو ملح المائدة داخل وطنه مصر الحبيبة. ونظر إلى مصر أنها هي أرض الميلاد، وأيضًا أرض الممات؛ لذا كانت رغبة المصري صادقة وقوية في أن يُدفن في تراب وطنه الغالي.
• قصة سنوهي
لقد عكس الأدب المصري القديم تلك المفاهيم لدى قدماء المصريين في أكثر من عمل أدبي بديع. ونذكر في هذا السياق عملين أدبين متفردين. وهما قصة سنوهي من أدب عصر الدولة الوسطى، وقصة ون آمون من أدب عصر الدولة الحديثة.
لقد كان سنوهي عائدًا من حملة عسكرية ضد الليبيين بقيادة ولي العهد الأمير سنوسرت، الذي صار الملك سنوسرت الأول بعد ذلك. ولقد مات والده الملك، أمنمحات الأول، وعرف سنوسرت بذلك، فترك الجيش، وأسرع إلى العاصمة؛ ليطمئن إلى عرشه. وانتشر الأمر بين الأمراء المرافقين له في الحملة، وسمع بذلك النبيل سنوهي دون قصد، فهرب إلى سوريا؛ لأسباب لا نعلمها. وأحسن استقباله هناك أحد رؤساء القبائل. وزوَّجه. وأصبح رب أسرة وسيدًا كبيرًا. وصارَعَ أحد رؤساء العشائر السورية المعادية، فقتله.
وبعد فترة طويلة، عاوده الحنين إلى العودة إلى وطنه مصر. واشتاق إلى الرجوع إلى أرض مصر؛ كي يكون في خدمة مولاه الملك سنوسرت الأول، والذي ظلَّ مخلصًا له طول حياته؛ وليلقى نهايته؛ وكي يُدفَن في البلد الذي وُلِد ونشأ فيه. ولما سمع الملك سنوسرت الأول بآلامه وأحلامه، عفا عنه، وأعاده إلى منصبه في الدولة، وسمح له بأن يعود إلى وطنه معزَّزًا مكرَّمًا ليقضي ما بقي له من أيام تحت سمائه.
تظهر هذه القصة حنين سنوهي إلى وطنه المحبوب مصر في صورة صادقة لإحساس المصري القديم الذي يعتزُّ دائمًا بوطنه، ويملأ الحنين إليه فراغ قلبه. وجاء بعد ذلك كتاب العفو من الملك سنوسرت الأول، والذي يمثِّل أسلوب الملوك الراقي. ويصور عطف الملوك على المخلصين من رعاياهم، وعفوهم عمَّن تثبت توبتهم، ويسبق صالح أعمالهم، وإنعامهم عليهم بما يُعلِي أقدارهم، ويثلج صدرهم. وظهر ذلك من التأكيد الوارد بكتاب الملك سنوسرت الأول عن موضوع شعائر الدفن التي كانت تشغل كل مصري أثناء حياته. ومن الصور الحية الناطقة في القصة تلك التي رسمها سنوهي بألفاظ يصف استقباله في بلاط الملك سنوسرت الأول حتى يتم العفو عن هذا المحارب الغريب. ويعد ختام القصة وصفًا مألوفًا لعهد الشيخوخة الذي قضاه سنوهي في نعيم مقيم، ومقام كريم، ويوضح لنا الجانب المادي الذي كان يميل إليه المصري ميلًا شديدًا.
لقد كان دافع سنوهي الأكبر هو الرجوع إلى مصر، وترك ما كان فيه من عز وسيطرة، وأن يُدفَن في بلاده كعادة المصريين القدماء. يقول سنوهي: "وأنت يأيها الإله، أيًّا كنتَ، الذي أمرتَ بهذا الهرب، كُنْ رحيمًا وأعدني ثانيةً إلى مقر الملك، وربما تسمح لي أن أرى المكان الذي يسكن فيه قلبي، والأمر الذي هو أهم من ذلك أن تُدفن جثتي في الأرض التي وُلِدت فيها، تعالَ لمساعدتي. ولقد وقع حادث سعيد، لقد جعلت الإله يرحمني، وليته يرحمني ثانيةً؛ حتى تحسن خاتمة مَن قد عذَّبه، وقلبه رحيم يحن لمَن حتم عليه أن يعيش في الخارج، وإذا كان رحيمًا بي اليوم، فليته يصغي إلى دعوات فرد ناءٍ، وليته يعيد مَن قد نكبه إلى المكان الذي أخذ منه.
آه ليت ملك مصر يرحمني حتى أحيا برحمته، وليتني أسأل سيدة الأرض التي في قصره عن إرادتها، وليتني أسمع أوامر أولادها."
• قصة ون آمون
تعد قصة ون آمون هي القصة الثانية التي تصور ما حدث لأحد المصريين القدماء وما لقيه من صعاب وأهوال خارج مصر، وتوضح كذلك رغبته الصادقة في العودة إلى أرض مصر في أقرب وقت. توضح القصة أن كان المركب الرسمي المشهور المسمى أوسرحات، والذي كان يستعمله الإله آمون رب طيبة، كان في حاجة إلى خشب من آرز لبنان. وكان ذلك سهلًا عندما كانت مصر قوية، ولكن في حوالي العام 1100قبل الميلاد، كانت مصر ضعيفة. ولم يكن لديها المال ولا النفود لجلب ما يلزم لإعادة بناء ذلك المركب من الأخشاب. وتم جمع المال عن طريق التبرع. وتم الاتفاق على إرسال آمون نفسه إلى ببلوس، أو جبيل في لبنان الحالية لشراء تلك الأخشاب المطلوبة للمركب، وقد اختير لذلك الغرض تمثال للإله يُسمَّى "آمون الطريق" وصاحبه ون آمون، أحد موظفي المعبد (أكبر رجال القاعة سنًا)، وأخذ معه خطابات توصية لمدِّه بما يحتاج إليه في طريقه إلى ببلوس، أو جبيل.
وصل ون آمون إلى تانيس في شرق الدلتا المصرية. وفي الشهر الرابع، وصل إلى دور في بحر سوريا العظيم. وهناك سُرِقت نقوده، فشكا إلى أميرها، فلم يُنصِفه. واستمر في رحلته إلى زاكار بعل، أمير جبيل. وقابل بعض الأهالي، فسلبهم كيس نقود تعويضًا عما سُلِبَه. وهنا غضب أمير جبيل منه. وأمر بطرده من جبيل. غير أن ون آمون لم ينفذ الأمر. ودار حوار بينهما حول السفر والإقامة وسبب المجيء إلى بلاده. وطلب ثمنًا لما يراد منه. وانتهى الأمر بإرسال سبع قطع من الأخشاب إلى مصر. وأرسل ملك وملكة مصر هدايا كثيرة. فرح بها ذلك الأمير. وحشد جمعًا من الرجال والثيران؛ لإعداد الأخشاب المطلوبة، وبعد أن جُهِّزَت الأخشاب على شاطئ البحر، جاءت سفن من زاكار؛ للقبض على ون آمون وسجنه، وللحيلولة دون سفر الأخشاب إلى مصر. ورفض الأمير أن يُقبَض عليه في أرضه. وأرسله بعيدًا عن بلاده. وساقت الريح سفينته إلى مكان يُعرف باسم "إرسا". وخرج أهلها؛ ليقتلوه. ولجأ إلى ملكتها. ثم كُسِرت البردية بعد ذلك. ولم نعلَم كيف نجا ون آمون من تلك الأخطار. وهل حقَّقَ الغرض من رحلته أم رجع كما جاء.
تظهر هذه القصة حالة ون آمون، الشخصية الأساسية فيها، وتوضح أن الأسرة العشرين خارت قواها. وعجزت عن أن تجلب لمصر ما اعتادت الأسر القوية أن تفعله. ولم يكن في مقدور حاكمها أن يصدر أمرًا في مصر ليُنفذ في لبنان. وسرد الكاتب قصته بطريقة جميلة ترسخ في الذهن صورة أمير جبيل في حجرته العليا، وظهره مستند إلى شرفتها، وأمواج البحر السوري تتلاطم من خلفه.
وجعلتنا القصة نشارك ون آمون حزنه؛ لهروب أحد أتباعه بما كان عنده من ذهب وفضة. وجعلتنا نحزن لخذلانه عندما طُلِبَ من أن يبرز ما معه من توصيات أو عتاد. وجعلتنا نبكي معه بسبب سوءَ حظه عندما رأى الطيور تطير للمرة الثانية إلى مصر التي كان يتوق قلبه إلى العودة إلى أرضها المباركة، بينما هو على حاله من الخيبة والفشل في سوريا، مقيم، ولا يعرف متى أو كيف يعود إلى أرض الوطن.
وتصور القصة بجلاء كبير صورة مدهشة لتدهور الدولة المصرية وسقوطها، واعتقاد رقيق مؤثر في قوة آمون، وقدرته على انتشالها من وهدتها، وإعادتها لما كانت عليه في سالف العصر والأوان والأزمان.
من خلال قراءة وتحليل القصتين السابقتين، يتضح لنا حب المصري القديم لوطنه وتعلقه الكبير به على كل المستويات وفي كل الأحوال. وهذا شأن مصري خالص وأصيل. ويوضح ارتباط المصري بأرضه ووطنه وترسخ فكرة الوطن والمواطنة في مصر منذ أقدم العصور إلى الآن.
|