القاهرة 09 مايو 2023 الساعة 11:49 ص
كتب: صلاح صيام
رغم تغير اسمه إلى ميدان طلعت حرب، مازال المصريون مصرون على تسميته بميدان سليمان أو سليمان باشا، عرفانا منهم لما قدمه لهم خاصة في بناء وتكوين أول جيش وطني، فهو أول مؤسس لمدرسة حربية بمصر (الكلية الحربية) والمؤسس للنواة الأولى للجيش المصري..
اسمه الأصلي أوكتاف جوزيف أنتلم سيف، وهو مولود بمدينة ليون الفرنسية عام 1788، جاء إلى مصر مع الحملة الفرنسية وبقي بها واعتنق الإسلام، وعينه محمد علي باشا مؤسس الدولة المصرية الحديثة قائدًا للجيش، وأسند إليه في 1819 مهمة تكوين جيش مصرى على الأسس الأوروبية الحديثة، وسلمه مائة مملوك في 1820 كنواة أولى لتكوين هذا الجيش المصرى، في أسوان كأول مقر لأول مدرسة حربية للضباط في مصر.
وبالفعل أنشأ الكولونيل سيف هذه المدرسة، وظل يدرب طلابها على مدى ثلاث أعوام لقى خلالها متاعبَ جمةً، خاصةً وأنهم لم يعتادوا الطاعةَ المُطلقةَ لرؤسائهم، كما لم يتعودوا أن يتعَلَّموا فنون الحرب الحديثة، وكان سليمان الفرنساوي شديدَ الإعجاب بالجندي المصري، ويُؤثَرُ في ذلك قوله: "إن المصريين هم خيرُ من رأيتُهم من الجنود؛ فهم يجمعون بين النشاط والقناعة والجَلَد على المتاعب، مع انشراحِ النَّفسِ وتوطينها على احتمالِ صُنوف الحِرمان، وهم بقليلٍ مِن الخبز يسيرون طوالَ النهار يحدوهم الشَّدوُ والغناءُ. ولقد رأيتُهم في معركة "قونية بالشام" يبقون ساعاتٍ متوالية في خطِّ النار محتفظين بشجاعةٍ ورباطةِ جأشٍ تدعوان إلى الإعجابِ، دون أن تختلَّ صُفوفُهم، أو يسري إليهم المَلَل أو يبدو منهم تقصيرٌ في واجباتهم وحركاتهم الحربية."
هذه شهادة حق يمتد عمرها لأكثر من مئة وخمسة وخمسين عامًا لقائد عسكري مشهود له بالكفاءة عن جنود وضباط الجيش المصري في مبتدأ تأسيسه؛ حيث كان له الفضل في تأسيس نواته الأولى التي أهلت مصر لتكون ندًا للدول الأوروبية القوية آنذاك.
وكان سليمان باشا الفرنساوي، أحد أشهر جنرالات عصر محمد علي، مؤسس نهضة مصر الحديثة هو الساعد الأيمن للقائد إبراهيم باشا ابن محمد على باشا، وخاض معه كل حروبه في «المورة» و«الشام» و«الأناضول»، وظل يترقى حتى وصل إلى منصب «رئاسة الجهادية» وهو ما يعادل «وزارة الحربية» الآن، وبقى في منصبه هذا خلال عهد كل من محمد على باشا وإبراهيم باشا وعباس الأول وسعيد، وكان الكولونيل سيف قد دخل الإسلام واختار له محمد على باشا اسم «سليمان»، ومنحه لقب بك في البداية، وقال عنه لقد خرج سليمان من صلبي، وكأنه أحد أبنائه.
أما سليمان نفسه فقد قال «أحببت في حياتي ثلاثة رجال هم أبي ونابليون ومحمد علي» وفي 1834 منحه محمد على باشا لقب باشا تقديرا لخدماته وإخلاصه، فعرف من ذلك الحين بسليمان باشا الفرنساوي، واشترك في الحرب السورية الثانية، وظل يواصل مهمته حتى عصر سعيد باشا 1860. ثم زوجه واحدة من أسرته «مريم» فأنجب منها ولدا سماه «إسكندر» وثلاث بنات هن «نازلي» و«أسماء» و«زهرة» أما نازلي فهى الابنة التي تزوجت محمد شريف أبوالدستور ورئيس وزراء مصر، ومن نازلي أنجب بنتا هي «توفيقة هانم» التي تزوجت عبدالرحيم باشا صقر وحسين صبرى..
وتقديرًا من المصريين لهذا الرجل الذي يرجع إليه الفضل في بناء الجيش المصري الحديث أقاموا له تمثالًا في الميدان المسمى باسمه "ميدان سليمان باشا"، وأطلقوا اسمه على أحد شوارع القاهرة، لكن بعد قيام ثورة 23 يوليه 1952 تم الإطاحة بالتمثال، وإيداعه في ساحة المتحف الحربي، وأقيم بدلًا منه تمثال لطلعت حرب، رائد الصناعة المصرية، لكن حتى الآن لا يزال بعض المصريين، خصوصًا المخضرمون منهم، يطلقون عليه ميدان سليمان باشا.
وصفه الكاتب «جورجي زيدان» في الجزء الأول من كتابه «تراجم مشاهير الشرق فى القرن التاسع عشر» بأنه كان ممتلئ الجسم، قوى العضل شديد التعلق بالجندية، عنيدًا مع ميل إلى خشونة المعيشة العسكرية، ومما يُروى عنه أن عباس باشا الأول رغب إليه مرة أن يخرج بتلامذة الحربية إلى النزهة ففعل، فلما كان وقت الغذاء أرسل إليه عباس باشا طعامًا شهيًّا متقنًا فرفضه، وقال لحامله «سحقًا لهذا الغذاء، ألا يعلم عباس باشا أننا جنود لا نأكل إلا مثل أكل الجنود»، وأصر على إرجاع الطعام، وله نوادر تدل على صلابة طباعه وخشونته، وكان ماهرًا فى قيادة الجند وتدريبهم، وظل سليمان باشا في خدمةِ الجيش المصري بعد وفاة محمد علي حتى صار القائِدَ العام للجيش المصري في عهد الخديوي عباس، واستمَرَّ في عمله أيامَ عباس الأول وسعيد باشا.
رحل فى 12 مارس 1860، ودفن بضريح فى جزيرة الروضة، ويوجد ضريح لزوجته يُعرف بضريح "ستي مارية".
|