القاهرة 28 مارس 2023 الساعة 10:54 ص

قصة: جراتسيا ديليدا - إيطاليا
ترجمة: شهد هاني
- لقد شهدتُ حقًا هذا الحدث الاستثنائي.
- قص علينا رجل عجوز نحن النساء وبينما نحن جالسات تحت ظل كوخ الحمام وتحيط بنا هالة من الصبيان والشباب شبه عراة مستلقين حولنا، بطونهم على الأرض، وأجسادهم موجهة نحو الشمس ورؤوسهم في الظل.
- عندما كنتُ شابًا، كنت استمتع بحضور المرافعات في محكمة الجنايات.
لا يوجد مكان في العالم تُعرف فيه الحياة بشكل أفضل، بكل بؤسها وشغفها، وفي بعض الأحيان، حتى في عظمتها. الآن بعد أن أصبح لدينا وقت، سأحكي لكم بعض هذه القصص: واليوم أريد أن أبدأ بقصة ما زالت، بعد نصف قرن، تزعجني وتؤثر فيَ، والتي تذكرتها في العديد من الظروف.
كان هناك رجلٌ مسن يجلس على مقعد المتهمين مرتديا الأسود. دُعِىَ للتحدث بعد الإجراءات المعتادة. فنهض ببطء؛ كان طويلًا، وبشرته داكنة اللون، وكان نحيفًا لدرجة أن وجنتيه بدتا وكأنهما تلمسان داخل فمه؛ وكان يظهر من فوق عينيه، اللتين يُلمح منهما فقط اللون السماوي سريعًا، جفناه المتدليتان إثر التعب وكأنهما بحاجة إلى النوم العميق.
قال بصوت هادئ وحزين دون أن ينظر لأحد: "هذه هي الحقيقة"..
- في ذلك الوقت كنتُ موظفًا في الجمارك وكنت أتقاضى أجرًا كافيًا وكنا نعيش أنا وزوجتي بسلام، إلى أن مرضت. كانت بحاجة إلى عملية تلو الأخرى؛ ثم لم تشف أبدًا؛ وافقتُ على عمل إضافي، لكسب المزيد من المال، وفي المساء كنت أعود متعبًا ومرهقًا جدًا لدرجة أن زوجتي نفسها كانت تتوسل إليَ بأن أخرج لكي أستنشق بعض الهواء النقي، أو أشرب كأسًا من النبيذ. هكذا في إحدى الأمسيات قابلت تلك البائسة؛ تعرفت عليها، فقد كانت خادمة في منزل أحد أقاربي وكان الجميع يمزحون معها، وكانت قد سلكت بالفعل طريق الانحراف. فاصطحبتني إلى منزلها. لقد ذهبت هناك ثلاث مرات فقط. وفي المرة الثانية وجدت رجلاً يتشاجر معها وكان منزعجًا لدرجة أنه لم ينتبه حتى إلي. وعندما رحل، أخبرتني أنها كانت خائفة منه، أي خائفة من أن يقتلها ذات مرة أو أخرى، ليس بدافع الغيرة أو غير ذلك، ولكن ببساطة لأنه كان يكرهها. ولم تقل لي من هو. المرة الثالثة...
وهنا صمت المتهم للحظة، وكأنه يحاول أن يتذكر شيئًا ما، ثم واصل كلامه بصوت منخفض، كما لو أنه يتحدث إلى نفسه:
أنا مسيحي ومؤمن وأثق بشدة في الله وفي عدله. أقسم باسم الرب القدوس أن كل ما أقوله هو الحقيقة. ثم استأنف التحدث بصوت أعلى: في المرة الثالثة، توقفتُ قليلاً عند السيدة. كان لدي صداع شديد بسبب كثرة العمل، أو ربما لأنها كانت ليلة غائمة وعاصفًة. وعندما خرجت من ذلك المنزل، رأيت أن الرجل الذي كانت السيدة تخاف منه ذاهبًا إلى هناك. وتنزهت قليلًا على طول النهر، ثم عدت إلى منزلي، لأنني أتذكر كانت رياح شديدة تهب وبدأت السماء تمطر. في اليوم التالي تم القبض على بتهمة خنق هذه السيدة. في التحقيقات الأولى، دافعت عن نفسي بشدة، مُتهِمًا الرجل الذي أعتقد أنه الجاني الحقيقي. لكنني لم استطع التعرف عليه جيدًا. فأنا لم أكن أعرفه: وأعتقد، بل أنا متأكد، أنه من بلدة أخرى. لكن لم يصغ لي أحد.
لقد رآني جيران هذه السيدة البائسة أثناء دخولي إلى المنزل، وبسبب أنهم انسحبوا لاحقًا نظرًا للطقس السيء، لم يروا خروجي ودخول الآخر إلى المنزل. بعد مرور بعض الوقت ماتت زوجتي من الحسرة والخزي.
قد حطمت قلبي حزنًا هذه المُصيبة الجديدة: فتقوقعت على نفسي راضيًا بعقاب الله ولكني أيضًا كنت اتوسل إليه ،منتظرًا عدالته الإلهية.
ثم بدأت المحاكمة وكانت رتيبة إلى حد ما وبلا معنى. كان شهود الادعاء هم بالفعل جيران السيدة "البائسة". وقد أكد الجميع أنهم رأوا الرجل الذي كان جالسًا حينئذ على مقعد المتهمين وهو يدخل منزل السيدة مساء الاغتيال، وأنهم لاحظوا مظهره المُبهم والمضطرب وطريقة اقترابه من المنزل خلسة. ادعت امرأة نحيفة، وحاقدة، وربما في حالة هستيرية، أنها سمعت صراخ تلك البائسة بعد وقت قليل من وصول الرجل وهي تقاوم بالتأكيد اعتداءه عليها؛ وشهد شهود آخرون من زملائه السجناء على سلوكه الغريب الذي كان يؤكد أنه مجنون.
كان يستمع، دون أن ينبس ببنت شفة، مطأطئًا رأسه كما لو كانت عرضة للضرب من الجميع. لم يرفع عينيه أبدًا بعد أن دخل القفص، وفي بعض الأحيان كان يبدو متغيبًا، أو كما أن المحاكمة لم تمت له بصلة.
لكن أحد المحلفين وجه إليه بعض الأسئلة: فنهض ببطء، مثل المرة الأولى، وبما أن الأسئلة كانت خاصة للغاية، فقد بدا ساخطًا وحرِك وجهه، ولأول مرة حُدقت عيناه بخوف في قضاة جلسته. وفجأة أصابته رعشة عصبية وفقد الوعي. تم تعليق الجلسة للحظة؛ ثم استعاد قواه ونهض، وبدا وكأنه ميت نُفِخَ فيه الروح من جديد.
قال: "أتوسل إلى هيئة المحكمة أن تسمعني مرة أخرى" - الجاني هنا بيننا؛ لقد سمح لي الله أن أتعرف عليه. لقد نصفني الله. والجاني أيضًا أدرك أنني تعرفت عليه و يود الهروب ولكن لن يستطيع.
تبع ذلك الحديث لحظة صمت عميقة: إذ ظل الجميع بلا حراك وكأنهم تحولوا إلى تماثيل متحجرة، ثم بدأوا ينظرون إلى بعضهم البعض وابتسم البعض، وتضاحك البعض الآخر بسخرية.
في النهاية أمر رئيس المحكمة المتهم بأن يشير إلى الرجل.
إنه أحد المحلفين.
كانت هذه الضجة أقوى من الأولى: تحرك المحلفون جميعًا، ساخطين، وصوبت كل الأنظار عليهم.
طالب رئيس المحكمة بتعليق الجلسة، لكن المتهم توسل إليه بأن يسمح له بالتحدث مرة أخرى.
لن أشير إلى أحد، في الوقت الحالي: أتوجه فقط إلى الرجل الذي أعتقد أنه مذنب وأقول له: اعمل أنت على تبرأتي، حتى لو كان بالهروب، وأنا لن أشير إليك . تقبلت حتى الآن معاناتي وكنت على استعداد أن اتقبل أيضًا العقوبة، لكي ادفع ثمن أخطائي: خطيئة الزنا، وخطيئة موت زوجتي من الألم؛ ولكن بما أن الله قد وضعك أمامي، فهذه علامة على أنه يريد أن يحقق العدل.
كان ينظر نحو الجناح الأيمن من هيئة المحلفين، وفي حقيقة الأمر، فإن هؤلاء، بعد اندلاع الاحتجاج الأول، أصبحوا يشكون في بعضهم البعض؛ لكن عيني المتهم كانا ثابتين بالجنون، ولم يصدق أحد كلماته بعمق على الرغم من أنهم كانوا ظاهريًا يرتجفون ارتباكًا.
مرر يده على جبهته، وبينما كان رئيس المحكمة يصر على إنهاء الجلسة، وأضاف المتهم بصوت مرتعش:
يا إلهي، يا إلهي، حانت ساعة وعدك. ليس من أجلي، بل من أجل العميان، ليس من أجلي، بل من أجل أولئك الذين لا يؤمنون بعدلك. برهن لهم يا الله أن العدالة لا تبدأ فقط بعد الموت.
قال هذه الكلمات بإيمان شديد لدرجة أن الجميع اقشعرت أبدانهم، وبدا وجهه أكثر اطمئنانًا، حتى أصبح شبه شفاف: وكان العرق يتساقط قطرة تلو الأخرى من أصابعه.
وهنا، بينما كان يعلن رئيس المحكمة تعليق الجلسة وينهض ليغادر، وكذلك كان يفعل الجميع نفس الشيء، ترنح أحد المحلفين وسقط على شخص آخر مستعد لكي يسنده؛ ثم تم إنقاذه، لكنه لم يستفق؛ ونُقِلَ إلى المستشفى بعد ساعة وتوفي. وعُلِمَ لاحقًا، بعد استكمال تحقيقات العدالة، أنه كان الجاني الحقيقي.
|