القاهرة 06 ديسمبر 2022 الساعة 11:01 ص
بقلم: أشرف قاسم
الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، يتآلف مع كل ما يحيط به في بيئته، من حيوانات، ودوابٍ، وتقوم بينه وبينها أواصر، وعلاقات، وقد كان العربي القديم على علاقة بكل ما يحيط به من تلك الأرواح.
وكانت الإبل هي وسيلة التنقل التي يستخدمها العربي في ترحاله خلف الماء والكلأ، وكانت بالوقت ذاته دليلاً على علو المكانة الاجتماعية وأحد أهم مظاهر الثراء، وقد كان يطلق على الجمل "سفينة الصحراء" لشدة تحمله للعطش والسير لمسافات طويلة يقطعها العربي بحثًا عن الماء والكلأ، فكان يغني لها، وهذا الغناء كان يسمى "حُداء الإبل"، نسبة إلى حادي الإبل أي راعيها، ومن ذلك ما قاله النابغة الشيباني:
له حنين إذا ما جاش مبتركًا
كما تحن إلى أطفالها الإبلُ
وكذا المتلمس في سينيته:
حَنَّت قلوصي بها والليل مُطَّرقٌ
بعد الهدوء فشاقتها النواقيسُ
وقيل أن الحُداء هو الغناء للإبل يقوم به الراعي ليجمعها بعد تفرقها، لذا نجد الكُميت بن زيد الأسدي يقول:
يا حاديَ العِيسِ عَرِّجْ كي أودعَهم
يا حاديَ العِيسِ في تَرحالكَ الأجلُ
لما أناخوا قُبيل الصبح عِيسَهُمُ
وحَمَّلوها وسارت في الدُّجى الإبلُ
وأرسلتْ من خلال الشَّقِّ ناظرَها
ترنو إليَّ ودمعُ العين ينهملُ
إني على العهد لم أنكر مودتَكم
يا ليت شِعري بطول البُعد ما فعلوا
وحينما أراد المنخل اليشكري أن يتباسط ويتلطف وهو يشرح عشقه قال:
وأحبها وتحبني
ويحب ناقتها بعيري
تأتي الخيل ربما في المرتبة التالية بالنسبة للعربي، إذ هي وسيلة الحرب والإغارة والدفاع عن النفس والعِرض، ومظهر آخر أيضاً من مظاهر الثراء وعلو المكانة، ودليل على الشجاعة والإقدام، لذا نجد ابن عباس رضي الله عنه يقول عنها:
إذا ما الخيل ضَيَّعَها أُناسٌ
ربطناها فشارَكَت العِيالا
نقاسمها المعيشةَ كل يومٍ
ونكسوها البراقعَ والجَلالا
أما أبو الطيب المتنبي فإنه يرى أن الخيل الأصيلة قليلةٌ جداً ونادرة، ويشبهها بالصديق الوفي فيقول:
وما الخيل إلا كالصديق قليلةٌ
وإن كَثُرَتْ في عينِ مَن لا يجربُ
إذا لم يشاهدْ غيرَ حُسْنِ شِياتِها
وأعضائِها فالحُسْنُ عنكَ مُغَيَّبُ
وهو الذي كان يرى أن" أعز مكان في الدنى سَرْجُ سابحٍ"، وقد ذكرها أيضًا في بيته الأشهر الذي قيل أنه كان سبب مصرعه:
والخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني
والسيفُ والرمحُ والقِرطاسُ والقلمُ
أما عنترة فقد بلغت العلاقة بينه وبين جواده مبلغًا عظيمًا من التواصل الروحي، حتى أن كلًا منهما يشكو إلى الآخر أوجاعه، فيشاركه إياها، كما ذكر في معلقته الشهيرة:
هَلَّا سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ
إنْ كنتِ جاهلةً بما لم تعلمي
مازلتُ أرميهم بثغرةِ نحْرِهِ
ولًبانِه حتى تَسَرْبَلَ بالدمِ
فازْوَرَّ مِن وَقْعِ القَنا بِلُبانِهِ
وشكى إليَّ بِعَبْرةٍ وتَحَمْحُمِ
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
ولكان لو علم الكلام مُكَلِّمي
حتى أن الشاعر مالك بن الريب في مرثيته التي رثى بها نفسه لم يجد أحدًا يبكي عليه بعد موته سوى سيفه ورمحه وجواده، بل إنه صَعُبَ عليه أن يتخيل أن هذا الجواد الأصيل سَيَجُرُّ عَنانَه وحيدًا إلى الماء ليشرب لأنه لن يجد صاحبه الذي كان يسقيه، فقال:
تذكرتُ مَن يبكي عليَّ فلم أجدْ
سوى السيفِ والرمحِ الرُّدَيْنِيِّ باكيا
وأشقرِ محبوكٍ يَجُرُّ عَنانَه
إلى الماءِ لم يتركْ له الدهرُ ساقيا
وفي الصحراء الموحشة التي كان يعيش بها العربي القديم كانت الذئاب موجودة وبكثرة، وكان الصراع قائمًا بين الموت والحياة، صراع الوجود والعدم، صراع يحمل أدلة الشجاعة أو الجبن، فنجد البحتري يصف لنا لقاءه بالذئب، وكيف استطاع الشاعر أن يتغلب عليه، ويصرعه، بل ويشويه في وسط الصحراء، ويأكل منه، مُدَلِّلًَا على شجاعته وعدم استسلامه للخوف:
عَوى ثم أقْعى، فارتجزتُ، فَهِجْتُه
فأقبلَ مثلَ البرْقِ يتبعُه الرعدْ
فأوجَرْتُه خرقاءَ تحسَبُ ريشَها
على كوكبٍ ينقضُّ والليلُ مُسْوَدُّ
فَخَرَّ وقد أَوْرَدْتُه مَنْهَلَ الرَّدى
على ظمأٍ لو أنه عَذُبَ الوِرْدُ
وقمتُ وجَمَّعْتُ الحصى فاشْتَوَيْتُه
عليه، وللرمضاءِ مِن تحته وَقْدُ
ونِلْتُ خَسيسًا مِنه، ثم تركتُه
وأقلعتُ عنه وهو مُنْعَفِرٌ فَرْدُ
أما الفرزدق فقد رَقَّ قلبُه للذئب حين لقيه ذات ليلة حالكة في صحراء الكوفة، بل وتقاسم معه طعامَه، ولعل غريزة الإنسانية قد تغلبت حينئذٍ على غريزة البقاء، فنراه يصف ذلك قائلًا:
وأطلسِ عَسَّالٍ وما كان صاحبًا
دعوتُ بناري موهنًا فأتاني
فلما دنا، قلتُ: ادْنُ دونَكَ، إنَّني
وإيَّاك في زادي لمشتركانِ
فَبِتُّ أُسَوِّي الزادَ بيني وبينَه
على ضوءِ نارٍ مرةً ودخانِ
وقلتُ له -لما تَكَشَّرَ ضاحكًا
وقائمُ سيفي من يدي بمكانِ-
تَعَشَّ فإنْ عاهدتَني لا تخونُني
نَكُنْ مثلَ مَنْ يا ذيبُ يصطحبانِ
أما الغزلان والظباء فكانت حاضرة في المخيلة الجمعية رمزًا للحُسْنِ والمَلاحة والجمال الأنثوي الذي كان ينشده العربي القديم ويتغنى به في موروثه الشعري الذي وصل إلينا، وهذا ما يؤكده هذا النموذج الذي اخترناه من شعر أبي تمام:
ظبيٌ يتيهُ بِوَرْدِهِ في خَدِّهِ
خَدٌّ عليه غلائلٌ مِن وَرْدِهِ
لا شيء أحسنَ منه ساعة وَصْلِنا
وقد اتخذتُ مَخَدَّةً مِن خَدِّهِ
أما مجنون بني عامر قيس بن الملوح فقد رأى ليلى حبيبته وابنة عمه التي منعوها عنه بعد أن شَبَّبَ بها في صورة الظبي الذي رآه ذات نهار فقال:
رأيتُ غزالًا يرتعي وَسْطَ روضةٍ
فقلت: أرى ليلى تراءتْ لنا ظُهْرا
فيا ظبيُ كُلْ رَغْدًا هَنيئًا، ولا تخفْ
فإنك لي جارٌ، ولا ترهب الدَّهْرا
ويقول الشاب الظريف:
ظُبى مُقَلٍ سَالمتهنَّ لَدى الهَوى
وأَفْعالُها في القَلْبِ فِعْلَ المُحاربِ
وَقَدْ جرّدتْ لِلفتْكِ فِينا فَلا تَرى
سِوَى دَمٍ مَضْروبٍ على خَدّ ضَاربِ
فَلا تَحذرَوُا بِيضَ القَواضِبِ واحْذَرُوا
قَواضِبَ سُودٍ في جُفونِ الكَواعِبِ
أما الثعلب فقد اتخذه العربي رمزًا للمكر والحيلة والدهاء، لذا لا تجده بكثرة في التراث الشعري، اللهم إلا بعض أبيات متناثرة هنا وهناك جاء بها الثعلب مذمومًا لمكره وحِيَلِهِ التي لا تنتهي، ومن ذلك قول صالح بن عبدالقدوس واصفًا المتملق مدعي الود والصداقة:
لا خيرَ في وُدِّ امرئٍ مُتَمَلِّقٍ
حلوِ اللسانِ وقلبُه يَتَلَهَّبُ
يلقاكَ يحلفُ أنه بك واثقٌ
وإذا توارى عنك فهو العقربُ
يعطيكَ من طرفِ اللسانِ حلاوةً
ويروغُ منك كما يروغ الثعلبُ
أما النعامة فقد وردت في أغلب مواضع الشعر العربي رمزًا للجُبْن والخور، هذا بعيدًا عن "النعامة" فرسُ الحارثِ بن عبَّاد التي اشتهرت خلال حرب البسوس، بعد أن تغنى بها في شعره، عقب مصرع ولده "بُجَيْر" بأبياته المشهورة والتي بدأها بقوله: قَرِّبا مربطَ النعامة منِّي
والنعام ويطلق على ذكره" الظليم" كان موجودًا بكثرة في الصحراء العربية، ولكنه الآن ربما يكون قد انقرض أو على وشك الانقراض، فها هو عمران بن حطان يهجو رجلًا فيشبهه بالنعامة في الجبن والخوَر:
أسدٌ عَلَيَّ وفي الحروب نعامةٌ
رَبْداءَ تجفل من صفير الصافرِ
هلَّا بَرَزْتَ إلى غزالةَ في الوغى
بل كان قلبُكَ في جناحَيْ طائرِ
وحينما وقف عنترة على الأطلال التي خلت من سكانها قال:
تَـمـشـي النَـعامُ بِهِ خَلاءً حَولَهُ
مَشْيَ النَصارى حَولَ بَيتِ الهَيكَلِ
اِحـذَر مَـحَلَّ السَوءِ لا تَحلُل بِهِ
وَإِذا نَـبـا بِـكَ مَـنـزِلٌ فَـتَـحَـوَّلِ
تَـكـفـي خَـصاصَةَ بَيتِنا أَرماحُنا
شـالَت نَـعـامَـةُ أَيِّنـا لَم يَـفعَلِ
والنابغة الذبياني حينما أراد أن يصف رجلًا جَبانًا بلا مبدأ قال له:
تكون نعامة طورًا، وطورًا
هَوِيَّ الريحِ تنسج كلَّ فَنِّ
إذن فقد كان حضور الحيوان في التراث الشعري العربي حضورًا مؤثرًا فعَّالًا، استمدَّ منه الشاعرُ طاقةً للتعبير عن أحداث بيئته وانعكاسِ ذلك على الإنسان الذي هو المحرك الأول لتلك الأحداث.
|