القاهرة 29 نوفمبر 2022 الساعة 05:30 م
كتب: عاطف محمد عبد المجيد
" إن إحراق الكتب نوع من النقد " بحسب كلام أحد الكتاب الفرنسيين، لكنه في حقيقة الأمر نقد همجي بدائي فقدت بسببه البشرية فضاءات شاسعة من حركتها في التاريخ والجغرافيا والوعي، فاضطرت دائمًا إلى البدء من النقطة ذاتها، فالتاريخ لن ينسى فقدان مكتبة كدار الحكمة لطخ حبر أوراق كتبها نهر دجلة وجعله أسود لأيام، ولن ينسى ضياع مكتبة الإسكندرية، الضياع الذي جعل بورخيس يهجو لأجله عمر بن الخطاب.
هذا ما يقوله الشاعر والأكاديمي هاني الصلوي في مقدمته لكتاب الكاتب اليمني الراحل محمد عبده العبسي، الذي صدر عن دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر بالقاهرة تحت عنوان " إعدام الكتب.. ضغينة النار والماء والهواء والتراب". الصلوي الذي يرى في مقدمته أن إتلاف الفاعل الإنساني نفسه وقتله بأبشع الطرق أكثر خطرًا من إعدام أو إتلاف الكتب، يقول إن كتاب إعدام الكتب لمحمد عبده العباسي يمكن التأمل فيه من عدسة أنه سيرة ذاتية للكاتب الراحل في حياته، مع موضوعه وتقليبه في الكتب في محاولة منه لصناعة تسلسلية لحركة إعدام الكتب والجني على مؤلفيها نفسيًّا ومعنويًّا وجسديًّا، ولمسيرات قتل الأفكار وسحقها عبر تاريخ الإنسانية الوحشي والكليم في آن.
هنا يطرح العبسي أسئلة عديدة في مجال إحراق وإعدام الكتب منها: ما الذي يجمع بين خصوم الكتابة: مؤلفان عربيان بينهما خصومة فكرية، ومؤلفان غربيان بينهما خصومة فكرية مماثلة وهم: ابن رشد والغزالي من الشرق، وكارل ماركس وبرودون من الغرب؟ ما الذي يجمع بين أبي سعيد السيرافي، الفقيه وعالِم الدين، وبين فرانز كافكا الروائي الألماني؟ ما الذي يجمع بين جاليليو جاليلي الفلكي الإيطالي وبين أبي حامد الغزالي المتكلم ورجل الدين؟
الذي يجمع بين كل هؤلاء، كما يرى العبسي، هو إعدام الكتب بأكثر من طريقة، وكذلك حظرها ومنع تداولها.
• حرائق الكتب
في كتابه هذا يأخذنا العبسي في جولة حول العالم ليرينا ويحدثنا عن حرائق الكتب التي حدثت قديمًا وحديثًا، قائلًا إن من يقرأ تاريخ إعدام الكتب، على قلة مصادره، يخرج بقناعة تامة أن معظم مدن العالم متورطة، في تاريخها القديم أو الحديث، بإعدام الكتب وبنفس الطرق تقريبًا العابرة للقارات: الإحراق، أو التمزيق، أو الدفن، أو الإتلاف بالماء، ودائمًا وأبدًا لا يخرج السبب عن أحد ثلاثة:
الدين، السياسة، المجتمع!
العبسي يؤكد كذلك هنا أن هناك إحدى عشرة مدينة حول العالم تجمع بينها، رغم الفروق الجغرافية والاجتماعية والدينية، عادة سيئة: إحراق وإعدام الكتب المخالفة، والأشخاص هم نفس الأشخاص دائمًا، في الشرق أو الغرب أو في أوروبا أو آسيا أو أمريكا. العبسي يؤكد أيضًا أن الجميع يفكرون بالطريقة نفسها ويعبرون عن اختلافهم مع الآخرين بالطريقة نفسها مع فارق أن مدنًا تجاوزت أخطاء الماضي، أو تحاول على الأقل، ومدنًا لا تزال تعيد أخطاء الماضي بحذافيرها.
مما يراه ويؤكده المؤلف هنا هو أن السياسة، على مر العصور، حاضرة بالضرورة: موجهة للكتب ومؤثرة على المؤلفين. مصادرة للكتب ومحرقة لها أحيانًا، والعكس: ممولة لها ومشجعة على انتشارها أحيانًا أخرى، وذلك بناء على موقف مؤلفي الكتب من الدولة ومدى قربهم منها أو بعدهم عنها ودرجة خدمتهم لها وإضرارهم بها. حتى أن ازدهار الكتب في التاريخ الإسلامي واندثارها ارتبطا بشكل وثيق برضا الحاكم وسخطه، ولينه وشدته. وهذا هو الترمومتر: درجة انتشار أو اختفاء كتاب في الأسواق ارتبطت في القرون الماضية بمدى تماشي الكتاب مع مذهب الدولة وسياستها وموقفه بالضرورة من الدولة السابقة لها.
والحقيقة التاريخية التي يؤكدها هنا محمد عبده العبسي أن الأنظمة الجديدة تقوم على أنقاض الأنظمة القديمة.. اللاحق يقوم بعكس ما فعله السابق.
في كتابه الذي يكتب فيه عن تأثير السياسة على الكتب وظاهرة التحريض ضد المؤلفين، يكتب العبسي كذلك عن عدد من المؤلفين الذين أتلفوا كتبهم بأيديهم نتيجة لضغوط نفسية لأرواح قلقة أو مخافة بطش الحاكم أو لقلة جدوى الكتب أو نتيجة التحول إلى العبادة والانفراد والزهد عن الحياة وملذاتها، ذاكرًا من هؤلاء أبا حيان التوحيدي، يوسف بن أسباط، وأبا سليمان الداراني.
• دان براون
كذلك يتعرض الكاتب لظاهرة دفن الكتب في التراثين الإسلامي والمسيحي قائلًا إنه لو قُدّر له أن يلتقي بأبي حيان التوحيدي فسوف يقوم بتعريفه على دان براون الروائي الأمريكي الذي طُبعت من روايته شفرة دافنشي 82 مليون نسخة، ومن روايته ملائكة وشياطين 15 مليون نسخة، أما روايته الرمز المفقود فقد حُجز منها قبل صدورها سبعة ملايين نسخة ونصف، مؤكدًا أنه لن يصل إلى هذا كاتب عربي إلا إذا حدثت معجزة.
العبسي يحدثنا هنا عن المكتبات التي تم حرقها، عن الحضارات التي دُمرت، عن حرائق بغداد في نسختيها المغولية والأمريكية، عن تنكيل الأيوبيين بتراث الفاطميين في القاهرة، عن بغداد وروما عاصمتي الماء والنار، وعن محاكم القرن العشرين في أوروبا.
هنا في كتابه الذي يدعو فيه الكاتب المؤلفين العرب إلى إحراق كتبهم لأنه أشرف من طباعة خمسة آلاف نسخة بائسة، يقول اسألوا أنفسكم: كم يُطبع لأدونيس، محمود درويش، أنسي الحاج. إنها أرقام هزيلة، فتات موائد قياسًا بما يطبع لكتاب مغمورين في الغرب، أو ما تطبعه شركة اتصالات عربية من تقاويم وأجندات.
|