القاهرة 29 نوفمبر 2022 الساعة 05:27 م
بقلم: د. حسين عبد البصير
تعد فترة أسرة محمد علي باشا من فترات النهضة المهمة في تاريخ مصر. ويُعد القرن التاسع عشر هو قرن الإنجازات العلمية والمبتكرات الفنية التي أضاءت للإنسانية طرقها بسبب ما أبدعه العلماء من تقدم كبير في كل المجالات. وكان العالم كان على موعد مع إنتاج أول صورة فوتوجرافية في العالم.
يعد التصوير فنًا مبهرًا للغاية يخلب الأبصار ويدهش العقول ويمتع النفس وينير فضاء الروح.
و"فوتو" هي كلمة إغريقية يونانية. وتعني الضوء. وكلمة "جرافيا" تعني الرسم أو الكتابة "الكتابة بالضوء"؛ لأن الضوء كان يحدد ملامح المادة المصورة. وقبل استخدام كلمة "فوتوجرافيا"، كان يطلق على فن التصوير "ضوء الشمس"؛ لأن الشمس كانت المصدر الوحيد المستخدم لإنتاج الصور.
• لويس داجير
قام الفنان والكيميائي الفرنسي لويس جاك ماندي داجير بأول عملية تصوير فوتوغرافي في للعالم في عام 1839. وتم استخدام كلمة" فوتوجرافيا" أول مرة منذ ذلك العام. وقد بدأ حياته رساماً، وفي الثلاثين من عمره اخترع طريقة لعرض اللوحات الفنية مستخدمًا أسلوبًا معينًا في الإضاءة، وعندما كان مشغولًا بهذا الفن حاول أن يجد طريقة لنقل مناظر الطبيعية عن طريق تصويرها وليس رسمها. وباءت محاولاته الأولى من أجل اختراع كاميرا بالفشل. ثم التقى برجل آخر وهو جوزيف نيبس. وكان يحاول اختراع كاميرا. وقد وفق في ذلك إلى حد ما. وبعد ذلك بسنوات، قرر الاثنان أن يعملا معًا. ثم توفي نيبس، ولكن أصر داجير على أن يمضي في محاولاته. ونجح داجير في اختراع نظام عملي للتصوير الفوتوجرافي. وقد أطلق عليه اسم نظام داجير.
• أول صورة في مصر
كانت حضارة مصر الغنية المغوية هي سر اجتذابها للمصورين الأجانب. وركز رواد فن التصوير الأوائل فى أوروبا اهتمامهم على تصوير آثار مصر خاصة الأهرامات ومعابد الأقصر وباقى الآثار المصرية، وأنهم لعبوا دورا كبيرا فى ميلاد علم المصريات.
وخلال القرن التاسع عشر وفد إلى مصر مصورون معروفون. استقر عدد منهم في مصر منذ منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر. أقدمهم الفرنسي مونيه والإيطالي أنطونيو بياتو (1825 ـ 1903) والفرنسي جوستاف لوجراي (1820 ـ 1882) ومنذ سبعينات القرن التاسع عشر. نزح المصورون من رعايا الدولة العثمانية من الأروام والأرمن والشوام واليهود من الآستانة إلى القاهرة. وعملوا جنبًا إلى جنب مع الجنسيات الأجنبية في إنتاج الصور وتسويقها. ونزح المصورون الأرمن من الآستانة إلى القاهرة.
أما المحاولات المصرية في مجال الفوتوجرافيا، فلم تبدأ إلا بعد مرور سبعين عامًا على دخول التصوير مصر؛ بسبب اللغط الذي أثير حول شرعية وحرمة التصوير الشمسي. وكان أحد أسباب هذا التأخير عدم اتفاق الفقهاء على رأى قاطع في هذه القضية. ومع قيام الحرب العالمية الأولى في أغسطس 1914 وترحيل السلطات البريطانية للمصورين الألمان والنمساويين، أخذ المصريون يقتحمون سوق التصوير تدريجيًا حتى أنهم شكلوا نسبة تزيد عن الثلث من المصورين بنهاية الربع الأول من القرن العشرين.
• نهضة مصر
مع القرن التاسع عشر، الذي شهد إختراع فن التصوير الفوتوغرافي كانت مصر تواصل مسيرة النهضة تحت محمد علي باشا وأسرته؛ إذ كان يبذل جهودًا حثيثة لإلحاق مصر بركب الحضارة المعاصرة. ووصل إلى مدينة الإسكندرية مصوران فرنسيان. وفور هبوطهما المدينة شاهدا قصر رأس التين الخاص بأسرة محمد علي وقاما بتصويره، لتصبح هذه الصورة الفوتوجرافية أول صورة لمكان ما داخل إفريقيا، ثم قدما بعد ذلك إلى القاهرة. وزارا محمد على باشا. وقاما بتصويره. ثُم ذهبا إلى الأهرامات. وقاما بتصوير الهرم الأكبر. ونُشرت الصور بعد ذلك فى ألبوم خاص صار من أهم ألبومات الصور النادرة فى أوروبا الحديثة.
والتقط المصور باسكال صباح والمصور هنري بشار عدة صور في عهد الخديو إسماعيل في القرن التاسع عشر. وكانت ذروة نشاطهما الفني. وصور مدينة القاهرة التي تتميز عن غيرها من المدن المصرية القديمة بأنها المدينة العالمية القديمة التي مضى على إنشائها عشرة قرون عديدة. وكانت مسرحًا لأحداث تاريخية وسياسية وفنية على مر القرون. كما صورا صورًا خاصة لمدن أخرى مثل الإسكندرية وبورسعيد وغيرها.
بعد ذلك اهتم المصورون الجدد بمصر وآثارها وقاموا بزيارات إلى الآثار المصرية القديمة، ما شجع عشرات المصورين بعد ذلك سواء من فرنسا من باقى دول أوروبا على القدوم إلى مصر. واستقر بعضهم فى البلاد. وافتتحوا استوديوهاتهم في القاهرة، والإسكندرية، والأقصر، وبورسعيد، وغيرها من المُدن. واهتموا بعمل ألبومات لصور فوتوغرافية تضم الأهرامات، والمعابد، والتماثيل القديمة، والمقابر الفرعونية.
ولأن التصوير مبهر ومهم؛ لم يفت رائد النهضة الحديثة وحاكم مصر المجدد محمد علي باشا أن يستخدمه، فكانت أول صورة في مصر والوطن العربي بحضور محمد علي باشا. فقد حالت التقاليد والعادات المصرية دون تصوير النساء، وتم التقاط أول صورة لـ "باب قصر حريم الوالى محمد على" في شهر نوفمبر 1839 فى الإسكندرية. ويومها أراد محمد علي أن يتعلم هذا الفن حتى يمكنه تصوير الحريم بنفسه فلا يطلع عليهن المصورون الأجانب. وكان لهذه الصورة فعل السحر فى فرنسا لكونها خاصة بعالم المرأة الشرقية، الذي يتميز فى الغرب بالغموض والإثارة والجاذبية والرومانسية.
• تصوير محمد علي باشا
بمجرد سماع محمد علي باشا بخبر آلة التصوير الجديدة قرب إليه المصور الذي جاء بأول كاميرا إلى مصر، وهو المستشرق الفرنسي الرسام أميل جون هوراس فيرنيه. وكان محمد علي باشا متحمسًا لذلك الإختراع، حتى إنه طلب من فيرنيه أن يعلمه فن وأسس التصوير.
والتقط فردريك جوبيل فيسكه أول صورة لمحمد على باشا في مصر يوم 7 نوفمبر 1839 في الإسكندرية. وقال المصور عن تلك اللحظة المهمة: "وجه محمد على مشحون بالاهتمام، عيناه تكشفان عن حالة من الاضطراب، ازدادت عندما غرقت الغرفة في الظلام استعدادًا لوضع الألواح فوق الزئبق. خيّم صمت مقلق ومخيف علينا. لم يجرؤ أحد منا على الحركة أبدًا. وأخيرًا انكسرت حدة السكون باشتعال عود ثقاب أضاء الأوجه البرونزية الشاخصة. وكان محمد على الواقف قرب آلة التصوير يقفز ويقطب حاجبيه ويسعل. وقد تحول نفاد صبر الوالي إلى تعبير محبب للاستغراب وصاح: "هذا من عمل الشيطان." ثم استدار على عقبيه. وهو ما يزال ممسكًا بمقبض سيفه الذي لم يتخل عنه ولو للحظة، وكأنه يخشى مؤامرة أو تأثيرًا غامضًا. وأسرع بمغادرة الغرفة دون تردد".
• ستوديو بيلا
يعد ستوديو بيلا أقدم وأعرق ستوديو تصوير فوتوغرافي في مصر، حيث أنشأه عاشق التصوير مستر بيلا المجري الجنسية عام 1890. وكان الأول من نوعه في مصر؛ ولذلك تم شراء أحدث كاميرات في ذلك الوقت. وكان الخواجة بيلا يستخدم كاميراته الخاصة في ذلك الوقت عند الخروج للتصوير. وفي عام 1925، عاد الخواجة بيلا لبلاده وباع الأستوديو لشخص لبناني، ولكن بيلا اشترط ألا يتغير نظام العمل بالاستوديو؛ ليظل شاهدًا على تاريخ التصوير الفوتوغرافي في مصر.
مكسيم دو شامب
قدم المصور الفرنسي مكسيم دو شامب إلى مدينة الإسكندرية مطلع عام 1849 في عهد عباس حلمي الأول، حفيد محمد علي باشا، يحمل بين أدواته كاميرا فوتوغرافية لتوثيق الحياة المصرية بكل ما فيها من إثارة وغموض. وتعد تلك التجربة التي قام بها مكسيم دو شامب الأهم على الإطلاق، لأنها كانت أول عملية ترويج سياحي مصور لمصر.
وقام بالتركيز على تصوير الآثار المصرية القديمة والإسلامية المنتشرة في مصر، فقام بتصوير الأهرامات و"أبو الهول" والآثار المصرية في جنوب مصر، وتحديدًا في الأقصر، لتبدأ أول عملية ترويج سياحي مصور عن مصر، خاصة وأن "دو شامب" قام بتدوين مذكراته كسائح عن تلك الرحلة الشيقة إلي بلاد الفراعين.
وقام بتجميع صوره في كتاب موسوعي عام 1852، حمل عنوان "مصر، النوبة، فلسطين، سوريا". وقضي "دو شامب" في مصر 21 شهرًا، التقط خلالها مئات الصور الأثرية والطبيعية لأغلب المناطق المصرية، أغلب تلك الصور أُلتقطت لأول مرة في التاريخ. كما أنه قام بتسجيل كل شيء بالمعلومات الموثقة قدر استطاعته.
وكانت صوره تفتقد إلي الفن والخيال، ما يؤكد أنه لم يتلق أي تدريب فني للعمل كمصور أثري وطبيعي محترف، ورغم ذلك نجح في نقل بعض الصور التي تُظهر جانب من الغموض والسحر عن مصر.
• رياض أفندي شحاتة
يعد المصور رياض شحاتة (توفى 1942) رائدًا للتصوير الفوتوغرافي المصري؛ إذ كان لأنشطته الفنية بصمات عملية وملموسة على تمصير التصوير وصبغه بالروح المصرية. وقد دخل سوق التصوير عام 1907. وهو أول مصور مصري يسافر إلى الخارج ليحترف الفن الذي عشقه حيث ذهب إلى فرانكفورت بألمانيا. ودرس هناك التصوير الفوتوجرافي، كما تعددت سفرياته لكل أنحاء العالم بحثًا عن الصور النادرة. وتجلى إنتاجه في فعاليات المعرض الصناعي عام 1912، وتجلي إنتاجه في فعاليات المعرض الصناعي عام 1912، والتي نالت إعجاب الخديو عباس حلمي الثاني، والذي كان يهوى اقتداء أثر جده محمد علي؛ فمنحه رتبة الباشوية. وخرجت الصحافة وقتها تطالب المصريين بأن يقدروا هذا الفنان الوطني قدره كما فعل حاكمهم.
وبعدها صار هو المصور الشخصي للملك فاروق، المكلف بتصوير ما يجسد حياة الأسرة المالكة في مصر؛ فيُذكَر مثلاً قيامه بإعداد ألبوم فوتوغرافي مميز بمناسبة مولد الأميرة فوزية، ابنة الملك فاروق، كما كان مختصًا بتصوير المناسبات الملكية مثل حفلات التتويج والزواج ومناسبات الخاصة الملكية مثل الزفاف الشهير للأميرة فوزية وشاه إيران محمد رضا بهلوي. وكان الإستوديو التصوير الخاص به موجودًا في ميدان الأوبرا بوسط القاهرة. وظل مفتوحًا بعد وفاته في عام 1942 . وقد قام رياض شحاتة بتصوير البابا كيرلس الخامس في حفل أقيم بمناسبة اليوبيل الذهبي لرسامته في مقر البطريركية المرقسية بكلوت بك- وسط المدينة- مع تلميذه حبيب جرجس. وتعد هذه الصور هي أشهر الصور التي تم التقاطها للبابا كيرلس الخامس. ومن أهم وأبرز آثار هذا الفنان العظيم تأليفه أول كتاب مرجعي عن التصوير الحديث. وقد نشرته دار المعارف عام 1910. ويعد رياض شحاتة رائدًا للتصوير الصحفي المصري؛ إذ كان من سبقوه في هذا المجال من الأجانب.
• دولت رياض شحاتة
حالت التقاليد والعادات المصرية دون تصوير النساء، وكان أول من تمكن من التقاط صورة لـ "باب قصر حريم الوالي محمد علي" مصور أجنبي عام 1839 . وهو ما جعل المصورين يعلنون عن استعدادهم للذهاب لتصوير النساء في المنازل. ولم يتقبل المصريون ذلك، مما دفع عبد اللَّه إخوان للإعلان أنهم أحضروا سيدة من الآستانة، وخصصوا لها مكانًا محتجبًا في محلهم لتصوير الهوانم.
وتعد دولت رياض شحاته رائدة للمصورات المصريات النساء، وقد كان لها السبق في هذا الميدان، بعد أن تعلمت فن التصوير على يد والدها رياض شحاته. ودرست أسراره على أيدي مصورين ألمان. واحترفت هذه المهنة في محل والدها. وعندما أعلنت أم المصريين صفية زغلول، زوجة سعد باشا زغلول، وهدى هانم شعراوي، وابنتا مرقص بك حنا، ثورتهن على النقاب في عام 1922 كان ذلك من خلال صور التقطتها لهن دولت شحاتة. ونشرتها الجورنال دي كير الفرنسية.
تلك باختصار قصة دخول فن التصوير الفوتوجرافي في مصر في عصر أسرة محمد علي باشا التي كانت تروم نهضة البلاد وإعادتها لمجدها التليد.
|