القاهرة 15 نوفمبر 2022 الساعة 11:26 ص

تأليف: إنجي موبياي - إيطاليا
ترجمة: مارينا أشرف
"عبد الحميد يحتاج مساعدتنا في تحضير أوراقه"، بينما كان يعلو صوت الموقد، كنت أنا وأخي مشغولين بترتيب الطاولة بغية إعداد ثلاثة أطباق، ثلاثة أكواب، ثلاث شوكات، وبعض مناديل المائدة. لم أتمكن للوهلة الأولي من استيعاب المعنى العميق لتلك الجملة التي تخص عبد الحميد لأنني كنت أركز بصري على السلسلة التلفزيونية للمفتش الأسطوري الرئيس ديريك، التي تعتبر أكثر سلسلة لا إنسانية تابعناها حتى ذلك الحين. لقد أبهرنا عدم وجود أي رد فعل يذكر الذي ظهر بموت واحد من أفراد الاسرة، رغم أنهم يجلسون وجهًا لوجه على بعد مسافة أقل من بوصتين. حين يكون أفراد الأسرة المقربين بشكل خاص، مثل الأب والابن، يكون الشعور بالحزن جليًا " اه، أرجوك اتركني وحدي، أشعر بألم شديد." قال هذا ولم تسقط منه دمعة واحدة.
ذات مرة ونحن جلوس على الطاولة، ألقت أمي في وسط الثرثرة اليومية بعبارة" ساعدوه في تحضير أوراقه فورا". لكنني لم أدرك هذا مباشرة بالتأكيد. بدأت ألية تلك العملية مع كلمة "أوراقه" التي تكررت ثلاث مرات (واحدة من تلك المرات انطلقت من ديريك عندما اكتشف الجثة). النتيجة الأولى لتلك العبارة هو الشعور بالضيق الروحي الذي نتج عنه معاناة جسدية، كمثل السكير الذي يلجأ إلى الاستحمام حتى يستعيد وعيه، لكن، المفاجأة! صابون الاستحمام المستخدم كان تصدر منه رائحة جينبرو المفزعة. بالطبع أنا لا أعرف هذا الشعور، فأنا مسلمة. وبالتأكيد لن أصف لوالدتي الإزعاج الذي تثيره بتلفظها لكلمة "أوراقه " بتلك الطريقة.
باختصار، ليست هذه هي النقطة المهمة. إنما المهم في الأمر هو التهديد الذي يحوم فوق رؤوسنا ولا مفر منه. لمن وجهت الدعوة، في اعتقادك؟ ثم أن أمي مشغولة طوال اليوم وكل يوم باستثناء يوم الأحد في هذه الأراضي (على الرغم أن أحد من المستفيدين، مثل السيدات اللاتي يأخذن الأجانب بالساعات، أخبرنها أنه بما أن يوم الاحد ليس يوما للقيام بشعائر الدينية الخاصة بدينك، إذن لماذا لا تقومين بنزهة صغيرة في الصباح الباكر بكل سهولة في سبيل الله؟). الجدير بالذكر، أن أمي تواجه دائمًا صعوبة في تجميع حروف الابجدية اللاتينية معًا. بينما أخي قادر علي تجميع الأبجدية مع بعضها، وبشكل جيد أيضًا، لكنه صغير على الرغم من أن طوله مائة واثنين وتسعين سنتيمترًا ويفصل بينه وبين ظهوره في حياتي حوالي ثلاثة عقود وأنه ذكر، لكن الشخص الوحيد الذي يلبي جميع المتطلبات هو أنا لأن لدي قدرة جيدة على تجميع وفك شفرة الحروف اللاتينية بشكلها الشفهي أو المكتوب والالمام قدر الإمكان بالبيروقراطية، وبلغت سن الرشد، إذن لا يمكنني قول لا لأسباب وراثية وبشكل خاص غير مرتبطة بأي التزام مثل الجامعة على سبيل المثال. ذلك يعني، أنني أنا الشخص المختار.
رغم كل هذه الاعتبارات إلا أن الشعور بعدم الراحة لا يزول، بل على العكس هناك دوار خفيف يجعلني أري النجوم. في الوقت نفسه، تدخل والدتي في التفاصيل، وتقص لنا إلى أي مدى عبد الحميد شخص جيد، ومدى سوء حظه ومنذ متى وهو مجرد عامل وبالإضافة الى عدم معرفته بالمنطق البيروقراطي، وأنه من واجبنا كمسلمين مساعدة المسلم كأشخاص متحضرين، بطبيعة الحال.
لا يواسيني فخر المشاركة المدنية بل على العكس يجعلني أشعر بالغثيان بالإضافة الى الشعور بالضيق والدوار. لذلك أقرر أن أشتت انتباهي بالوسيلة المناسبة، وأركز على موناكو دي بافيرا (ربما إضاءة الجهاز تحتاج إلى ضبط)، التي تتدهور بشكل دائم في فصل الشتاء. ومع ذلك تأخذني هذه الصور الى مكان مألوف. ذلك الباب الذي بدا لي أني أعرفه من قبل… أليس مدخل مركز الشرطة المركزية، ذلك الذي يوجد في شارع جينوفا! حيث بدا لي أني أعرف الشرطي الذي بالمدخل، ذلك الشخص الذي لا ينظر اليك في وجهك عندما تسأله بكامل الاحترام عن المكتب المسئول عن إتمام هذا الطلب، والذي يهمهم دائما بلهجة صارمة مع "و" مفتوحة جدا كأنهم يقذفون أنفسهم في دماغك ليخبروك أنها ملاحظات معروفة، هو ذات الشخص الذي يحدق بي الآن بابتسامة إنسانية.
أنظر حولي في ذهول، أخي عازم على تناول كمية المعكرونة الكبيرة التي في صحنه، بشوكة واحدة فقط خلال ذروة النقاش الذي كان يدور بينه وبين أمي. على الرغم من أن أخي ضيق الأفق وممل فإنه كان يتناقش مع أمي بطريقة منطقية عن مدى عجز عبد الحميد ويصفه بالغباء. على عكس أمي، التي كانت تنفي التهمة التي أشار إليها الابن بمنطق مماثل تمامًا، وبشكل ملحوظ من خلال كشف العقبات التي تواجه عبد الحميد دائمًا وإعادة تقييمها للانتماء العرقي والديني. أحاول لفت انتباههما الى الحلقة الجديدة التي تم تصويرها بالتأكيد في روما، لكنهما منهمكين في حوارهما للغاية فلم أتلق منهم سوى بضع الكلمات السيئة. أوجه اهتمامي بالكامل إلى المسلسل التلفزيوني أو الخيالي كما سيقال عنه في المستقبل القريب، وهما يفعلان ما يحلو لهما. كانت مشاهد المسلسل تتأرجح على سماء معتمة وتتوقف في وسط المدينة سيارة مرسيدس أمام بوابة المنزل. أنا أدرك تماما إنها هلوسة، رغم أنني أقلعت عن تعاطي المخدرات.
كانت أمي تتجاهل الماضي الخاص بي، ليس لكونها عربية أو مسلمة، لكن بسبب طبيعتها كأم.
" كم يوما سوف يستغرق مننا إعداد تلك الوثائق" وجهت حديثها نحوي من جديد. مائتان ثلاثة وسبعون، احسب المدة بسرعة: سبعة أشهر وثلاثة أسابيع بالإضافة إلى حفنة من الساعات. علاوة على الوعكة، والدوار والغثيان، أشعر بضبابية البصر الي حد ما، لذلك أفتقد مشهد الأم في تواصلها مع افراد العائلة لفقدان أحد الأقارب الأعزاء، المشتبه بجريمة قتل. من ناحية اخري، عيني الثالثة تستيقظ.
على مدى السنوات القليلة الماضية، حلمنا بالجلوس على الأريكة، لكوننا غير مضطرين لتقديم الورقة الزرقاء، الذي يدور بها كثير من ممثلي الدولة بأيديهم وهم لا يعرفون ماذا يفعلون بها. حلمنا أيضا باللحظة التي لم يعد علينا فيها التجول في أعماق شارع جينوفا بحثًا عن الرجل المناسب لتجديد ورق الإقامة المشؤوم. ذلك الرجل الذي لا يعيد إرسالك الى الجهة الحكومية المختصة لتقديم الشهادات التي تثبت وجودك في الحياة، هناك يتم التحقق من اسمك وتوقيعك، والتحقق من أن السيدة التي تدعي أنها أمك، أنها هي بالفعل أمك (عشرات سنين يستعاض عنها بشي بسيط هو: " إقرار ذاتي"). من ناحية أخرى، في السنوات السابقة كنا نجلس على السرير لأنه لم يكن لدينا غرفة معيشة! كنا نحلم بأن نتمكن من الحصول على ورقة الإقامة ونقدمها للشخص المختص. لأن المسئولين جاءوا ليطلبوا منا تلك الورقة. يا له من فزع عندما وصل الاستدعاء الأول: كانت عبارة عن ورقة كانت تدعو الأم للمثول في مركز الشرطة للإبلاغ عن وضعها القانوني. كان ذلك في عام 1982، ولم يكن هناك قانون مارتيلي بعد وبالتأكيد لم نكن نتخيل الوصول إلى قانون "بوسي- فيني" مرورا بقانون" نابوليتان-توركو". مازلنا لا نعرف كيف اتصلوا بنا، لأننا كنا نشك دائما في النصيحة ونتجاهلها فورًا، ولم نعد نأخذ بعين الاعتبار احتمالية أن قوات الشرطة الخاصة بالدولة تتسم دائما بالكفاءة والفعالية. أقصد، أننا كنا نتصرف منذ أسابيع كشهود تحت الحماية كمثل الأفلام الامريكية التي كانت أمي تعجب بها كثيرا، قبل أن يأخذها مناهضو الإمبريالية: ذلك اليوم الذي قضيناه بأكمله خارج المنزل.
انا وأخي كنا قد ذهبنا الي المدرسة في الصباح الباكر. ولسذاجة أمي (حيث أنها كانت تبلغ من العمر 27 عامًا فقط عندما حدث كل هذا)، لم تكن تعتقد أن الشرطة لديها من القدرة ما يجعلها تكتشف المدرسة التي كنا ملتحقين بها وتأتي لتأخذنا من هناك. كانت تعتبرها مكانًا مقدسًا، في ذلك الوقت كانت المدرسة لا تزال مكانًا مقدسًا، كما هو الحال في الكنيسة (في الواقع، أول شيء كنا نردده في الصباح الباكر الصلاة الربانية، وأؤكد لك أنى كنت أعرفها عن ظهر قلب أفضل بكثير من سورة الفاتحة في القرآن، كان يعجبني كثيرا حين كنت أعيد التقاط انفاسي وأردد بعزم صلاة العذراء مريم). كنت أخرج في الظهيرة وأتناول الشطيرة في ساحة المدرسة في انتظار انتهاء أخي من الدوام الكامل. عادة، روزا، الحارسة، التي كانت مخيفة للغاية لأنها كانت تصرخ دائما في الممرات، تجلس بجانبها. لم تنطق بشيء على الاطلاق، بينما كانت تجلس بجانبها تعبث بالكروشيه. كان يتملكني الخوف من أن تكون هي أيضا من أفراد الشرطة وكانت تتحقق لصالحهم. عندما خرج أخي، ذهبنا في طريقنا لركوب الحافلة بدون تذاكر ونزلنا في نهاية الخط، وهناك كانت تنتظرنا والدتي وتجلب لنا شيئًا طيبًا: شوكولاتة أو عصير فواكه، أشياء كنا نحلم بها في البيت.
من المؤسف أنها كانت في حالة مزاجية سيئة. وكنا هناك في وسط ميدان كافور! كنا نقوم برحلتين أساسيتين: من ميدان كافور إلى ميدان إسبانيا مرورا بجسر كافور، أو من ميدان نافونا مرورًا بجسر آومبرتر الأول. في تلك الميادين كنا نجلس لنتحدث ونشاهد الناس، أو كنا نذهب إلى الأزقة المجاورة لاكتشاف مسارات جديدة. بالنسبة لي تم تكليفي بقراءة لافتات الشوارع هكذا كنت اتدرب، كانت أمي تذكر جيدا الأسماء والمسارات، وأخي كان يفسد كل ما نفعله يجعلنا نضحك بصوت مرتفع للغاية.
كانت جولاتنا المشردة بلا هدف، عبارة عن تسكع بين الشوارع والميادين والوجهات البحرية ومنها ما هو منظم ومستهدف في أيام محددة. كان صباح الأحد مخصصا دائما للتجول في ميدان بورتا بورتيزا. كانت البضائع هناك معروضة بشكل جيد في الأكشاك، كنا نذهب عند الفجر، وبالفعل كان هناك العديد من الناس يتجولون، يتفاوضون ويشترون ما يحلو لهم. بينما أشخاص مثلنا، يتجولون فقط حول تلك المعروضات. قد اوصتنا أمي بتوخي الحذر لأن كان هناك من الإيطاليين من هم يسرقون حافظة النقود، ولم تكن هذه مشكلة بالنسبة لي وهناك أيضا الغجر الذين كانوا يخطفون الأطفال. لذلك كان يجب على أن أولى أخي انتباهي بشكل خاص.
ولم أكن أفهم ما الخطر الذي يمكن أن يلحق بأخي من هؤلاء الأشخاص ولكن بالفعل كنت أتوخى الحذر لمجرد ما أوصتني به أمي لأنه غير قابل للنقاش. بسبب الذهاب طوال الأسبوع إلى بورتا بورتيزا، لقد أقمنا صداقات مع الباعة الجائلين هناك، وكنت أعتقد أنهم غير محظوظين بالمرة لأنهم يتجولون طوال الوقت، بينما نحن متجولين بشكل مؤقت، هكذا كنت أظن.
لم نغادر السوق الا بعد أن تجولنا في كل الاتجاهات، أو عندما بدأ يظهر على أخي علامات تدل على عدم التوازن. في تلك اللحظات إذا طلب أحد من الغجر أخي لكنت قمت بتعبئته وإعطائه له بمنظر جميل.
ثم أخذنا الحافلة ووصلنا الي مكان خلاب: قلعة سانت أنجلو المعروفة سابقا باسم الامبراطور هادريان، الذي تم استخدام خندقها كحديقة صغيرة قبل أن تصبح موقع رئيسي للصيف الروماني. وهناك تعطينا أمي شطائر العجة التي كانت قد تعدها لنا غالبًا في الصباح الباكر، بينما نحن كنا نشرب الحليب مع الخبز المفتوت بالداخل، ثم يستسلم أخي للنوم وتفقد أمي صوابها. أما أنا فأسحب جسمي خارجًا في هذا الهواء الطلق وأذهب بعيدًا الى حيث تحملني المغامرة. حيث لم يعد هناك ميدان كافور، الحافلة، المدرسة، ولا الأشخاص السيئين الذي أرادوا إجبارنا على تقديم أنفسنا لهم، ولا حتى رجال الشرطة الذين استدعونا " كمثل مسلسل إيلياس الأمريكي".
فيما يخص روزا الشريرة التي تعمل حارسة، فكانت تترك على مقعد كتب للأطفال وهي شاردة الذهن أثناء قيامها بالأعمال المنزلية. كانت تترك لي منهم اثنين في كل مرة ثم أعيد وضعهما على نفس المقعد، كآن شيئًا لم يحدث. كم من شخصيات عرفتها وكم من قصص قرأتها، كلها مغامرات، عمليات بحث، اكتشافات، اختفاءات... كان من المهم بالنسبة لي أن انتهي من قراءة تلك القصص بأسرع وقت، لأنه كان يجب على قصها على جمهوري الذين هم أمي وأخي، حيث أنهما كانوا قد أبديا لي اهتمامهما الشديد، حتى أني كنت مضطرة في بعض الأحيان على تغيير بعض الأحداث لإرضائهما بدرجة أكبر.
في أيام أخرى كان هناك جولات في الكنائس، وكان يتعلق الأمر بكنائس محددة، بعضها بعيدة جدا (ذات مرة أخذنا القطار) في أيام ومواعيد محددة، وهناك كنا نقف في صف طويل وفي أثناء انتظارنا، كنا ننُصت إلى الاخرين الذين يروون قصصهم ونتفاعل معهم باهتمام بالغ (حيث أن تلك القصص كانت بمثابة مصدر لمعلوماتنا)، حتى نصل الي المخزن الذي يجمع فيها الأشياء التي لم يعد يستخدمها الأشخاص الصالحون وكانت تقدم بروح خيرية الي الفقراء. علي الرغم من كوننا مسلمين، عرب وزنوج، فإنهم أعطونا ملابس، وأحذية، ودفاتر وألعاب من أجل أخي، وبطانيات وخيام، وأطباق وطعام مثل: دقيق، وأرز، ومعكرونة وفي بعض الأحيان زيت. هناك بعض الكنائس الأخرى بها محاسب يسجل كل شيء، والبعض الاخر كان كل من الراهبة أو الكاهن هم من يوزعون ذلك المخزون الخيري لمن يحلو لهم، الله هو الوحيد القادر على محاسبتهم. في بعض الأحيان كانوا يضعون مظروف في جيب أمي، وفي ذات مرة رأيتها كانت تفتحه وتحصي ما بداخله من مال وهي تبكي.
أمضينا في ميدان الجمهورية أمسية مختلفة بلا شك، لحسن الحظ كان جو ربيعيًا وهناك كان شخص يغني ويعزف فوق مسرح، لكن بحلول ذلك الوقت نكون بالفعل قد أرهقنا تمامًا وأقسم أن لا أحد لديه ذكريات واضحة عن تلك اللحظات.
في وقت محدد كان علينا العودة الي المنزل، ثم تأتي اللحظة التي نصطدم فيها بالحقيقة القاسية التي تقفز خارجا كالوحش طويل الأمد الذي كان يتربص منذ فترة. فيما كنا نقترب من المنزل، كان يجب علينا أن نكون حذرين لئلا ينتظرنا أحد أمام الباب. وعليك أن تخمن من تم إرساله سلفًا؟ وكان يجب أن أذهب إلى البوابة وأتحقق إذا كان هناك شخص في المنطقة، ربما يوجد رجلا يرتدي الزي الرسمي أو سيارة عليها صافرة إنذار. تلك المهمة كان يمكن لأخي القيام بها لكن من المؤسف أن أخي كان نائمًا رغم كوننا على بعد محطتين من البيت واضطرت أمي أن تحمله بين ذراعيها.
أكثر من كوننا شهود تحت الحماية، نحن كنا هاربين بل أيضا غير شرعيين! لكن بعد ذلك لم يعد يستخدم هذا المصطلح ولم يعد يطلق حتى على من هم خارج الاتحاد الأوروبي. كان يستخدم بدلا عنه مصطلح السود فقط، أما أمي لم تكن تستخدم هذا المصطلح أبدًا، إنما للتحقير مننا كانت تقول " أنتم حقا زنوج كأبيكم". كانت تلك أسوا إهانة على الاطلاق، لان والدي تخلي عنا ليحيا حياة كريمة كلاجئ في فرنسا. كل معاناتنا هذه كانت بسبب مذنب محدد، ولم يكن لدينا حتى حق الادعاء بأنه سوء حظ. لقد كان من حسن الحظ، أن أمي عربية ولم يكن هناك خريطة في متناول يديها تجعلها تقبل أن مصر في أفريقيا، إذن هي أيضا إفريقية مثل الزنوج لذلك كانت تستدعي اختلافات العرقية لدعم تفكيرها، لدي قليل من الحجج حول هذا الموضوع. إذا كانت الأم العربية موجودة والأب الأفريقي غير موجود، إنه استنباط منطقي وسهل القيام به. هل من اللائق أن أعارض أمي وأنا أزعم أننا جميعًا متساوين وفي بعض الأحيان عندما تكون السماء زرقاء والشمس تشرق والهواء دافئ، اعتقد انه أمر ممكن في وجود العالم الأخر؟
كل شيء سوف سيكون على ما يرام، عندما تسعى واحدة من المستفيدين لتسوية حالة أمي، بمقابل طبعا كما هو الحال في الدول المتحضرة، كان عليها أن تعمل مجانًا، وهنا تبدأ صدمة الطفولة الحقيقية. أذهب إلى الدائرة الخاصة بالمنطقة، تقوم هناك بعمل جميع الشهادات التي تثبت أنك حي وتنعم بصحة جيدة، وأن محل إقامتك المذكور هو نفس المكان الذي تعيش فيه وأنك الشخص نفسه. سوف تستمر عملية التحقق إلى الأبد لأن اسم طويل هكذا لم يكن له نهاية أبدا. ثم تذهب لأعلي وتتأكد إذا كنت مسجلًا في سجل الأحوال المدنية، وتعود تنزل من جديد للأسفل للوقوف في الصف لتقول “نعم"، “موجود"، من بعدها أذهب إلى الزميل الذي يفهمنا بشكل أفضل. بعد تلك المرحلة أذهب إلى دائرة أصحاب العمل وتعمل الأشياء ذاتها، ربما في وقت أقل، هنا نجد أن المستفيدة نفسها تلوم بسبب أنها فقدت فترة الصباح من أجلنا وتشتكي من الموظفين وتصفهم أنهم غير متحضرين لأنهم يضيعون الوقت ولا يقومون بعملهم كما يجب أن يكون. من المؤكد أن هذه السيدة زوجة رجل ذي منصب، لذا يجب أن تكون قاسية! لكن أمي كانت تجعلني أفهم هذا بصفعة وتنصحني بعدم المجادلة لأن هذه السيدة تعتبر شخصية جيدة وتضحي من أجلنا. هكذا أقنعتني أمي بسرعة. بعد الذهاب إلى الدائرة، كان من الضروري أيضا الذهاب إلى مكان بعيد وقبيح جدا: رقابة العمل، كان الاسم حقا مخيف. وهناك تدخل وتقرأ جميع التنبيهات المنشورة على اليمين، لأنك إذا طلبت معلومة مكتوبة بالفعل، فلن يرد عليك الموظف. تجد أنه عليك أن تذهب الي الموظف المكلف بالرد على التساؤلات علي أمل أن تطرح سؤال ذكي، سؤالًا ذكيًا، وإلا عليك الرجوع إلى الخلف وإعادة قراءة جميع التنبيهات من جديد. مما يترتب عليه أخذ رقم والذهاب إلى الغرفة المشار اليها، بعد انتظار دورك، وتدخل وتكتشف أن المستندات غير مكتملة وأن هذا المكتب لم يكن هو المكتب المقصود.
في النهاية توجد تأمينات. في تلك الأيام لم يكن كل شيء واضحًا كما هو الآن، مع وجود جداول معروفة للجميع للإشارة إليها. كان يجب أن ينتشر مفهوم الشفافية في أجهزة الدولة. كان من الضروري أن تعرض قضيتك وتتوجه نحو المكتب المسؤول، على حد قوله، هناك سوف يعاد طرح قضيتك لتكتشف أنها معقدة إلى حد ما وتحتاج الي دراسة أكثر شمولا، لذلك يجب أن تأخذ موعدًا مع المدير التنفيذي. بالطبع المدير مشغول جدًا، وحتى إن كان لديك موعد معه، فإنه من المستبعد ان يكرس لك من وقته أكثر من ثلاث دقائق، ثم يوجهك نحو مساعده المباشر الذي سيعيد دراسة وضعك بالكامل، يبحث ويحقق، وفي النهاية ينتصر ويحدد لك التأمينات التي يجب دفعها. ولا داعي للقول إنه يجب على أمي أن تدفع لهم، ليس منفعة كما يٌزعم، أوراق في اليد، فإن الموظف المختص متحمس ومتحفز لمشاكل المهاجرات.
هكذا، مثلما ابتهجت وهتفت إيطاليا بكأس العالم بالعناق والرقص والبكاء والضحك، ابتهج ثلاثة أشخاص في غرفة صغيرة بمبني في شمال روما بقطعة من الورق زرقاء اللون أيضًا، بالعناق والرقص والبكاء والضحك.
كانت الدمعة تسيل على وجهي وأخي يمازحني ببعض المعكرونة التي تتدفق من فمه (يجب أن أعترف بحسد عظيم). دوما كنت أبكي متأثرة بمشاهد الأفلام وكان هو دائما يسخر مني. الآن لا اعرف إذا كانت تلك الذكري هي التي حفزت دموعي أم مشهد الألم لدى أقارب جثة ديريك. علي أية حال أنا أشعر بارتياح لاستعادة حالتي النفسية الجسدية. الأن أدرك أيضًا أن فحص المشكلة يساعد على حل العقد وإيجاد منظور جديد لها. ثم رأيت أنه بجانب صحني ظهرت كومة من الأوراق التي توضع عليها الورقة الزرقاء. بشكل مفاجئ: إرهاق، دوار، غثيان، تشوش في الرؤية بالإضافة إلى العرق.
المرور على أبواب النيابة تمثل رحلة شاعر كبير، الذي نزل إلى العالم السفلي بمساعدة مرشد موثوق به، حتى يمكنه من تتبع وتتويج حلمه بالخلاص وهناك (بالفعل كان مكتوب لمن يدخل اترك كل أمل لك، لقد فعلت ذلك بالفعل) ممسكا بيدي ورقة المعلومات الخاصة للحصول على الجنسية الإيطالية كمرجع وحيد: التجول في المحاكم، القنصليات، مكاتب أصحاب العمل، وبنوك (حتى!) للوصول أمام الموظف المسؤول في البلدية الذي سيعلن بلا مبالاة أنك مواطن إيطالي. كل ذلك للهروب من تلك المكاتب وحتى نظل مستقرين وليس متجولين هكذا، مرتبطين في الوقت نفسه بتلك الجذور التي رغم كل شيء تنمو وتغرق في الأرض بصعوبة شديدة.
أشعر بارتياح أن ديريك قد اكتشف القاتل، الذي يعترف الأن (أن الألمان في هذه السلسة هم القتلة، Malgré eux)، ويبدو كأن كل شيء يعود إلى وضعه الصحيح. أيضًا لأن أمي حركت كومة الأوراق من جانبي الي أخي وهو مبتسم ابتسامة لا تقاوم، في حين بقي فمه الجميل الذي لا يزال مفتوحا معبرًا بطريقة لا تليق بشاعر أو قديس أو ملاح.
|