القاهرة 15 نوفمبر 2022 الساعة 11:19 ص
بقلم: محمود الحلواني
في 17 أكتوبر الماضي، مرت ذكرى وفاة منير مراد، وعلى مسئوليتي، ستمر مثلها ومثلها و مثلها، وستظل أعمال هذا الفنان الرائع خالدة، تقدم نفسها للناس كدعوة فرح ملونة، موشاة بكل ألوان البهجة، تدعوهم لأن يقبلوا على الحياة والحب والفرح، وألا يستسلموا أبدًا لحزنٍ أو ليأس.. تقول لهم ألحانه بلسان فني مبين: انطلقوا في الحياة فرحين، املأوها بالفرح..
سيقف منير بنفسه ليقود أوركسترا الفرح في كل مناسبة سعيدة؛ بينما تغني الفتيات لحنه الخالد: يا دبلة الخطوبة عقبالنا كلنا/ ونبنى طوبه طوبه فى عش حبنا/ نتهنى بالخطوبه ونقول من قلبنا/ يا دبلة الخطوبه/ عقبالنا كلنا.
كما لن يغيب أبدًا عن مناسبة سعيدة أخرى لا تقل أهمية لدى الأسرة عن مناسبة الخطوبة، حيث تنتظره كل أسرة فرحة بنجاح أبنائها ليغنوا من ألحانه: وحياة قلبي وأفراحه/ وهناه في مساه وصباحه/ ما لقيت فرحان في الدنيا زى الفرحان بنجاحه".. وستستمر الأسرة في الابتهاج بهذه المناسبة السعيدة فتغني أيضًا من ألحانه: ألوه ألوه/ إحنا هنا/ نجحنا اهه في المدرسه/ بارك لنا وهات لنا وياك هدية كويسه/ ألو ألو ألو/ إحنا هنا"..
ولن تنقطع تلك الفرحة عن الشباب الفرحان بنجاحه، والشابات الفرحات بدبلة الخطوبة، إذ سيدعوهم منير مراد إلى احتفال كبير فيتشاركوا جميعًا في أداء نشيد جماعي يقدس الحياة والفرح، إذ تنطلق حناجرهم الشابة بكلمات مرسى جميل عزيز وألحان منير مغنية: ضحك ولعب وجد وحب، وستظل موسيقى منير قبل كلمات مرسي تدعوهم للفرح والإقبال على الحياة: عيش أيامك عيش لياليك/ خلّي شبابك يفرح بيك.. افرح أرقص غني/ قد ما تقدر عيش/ دي الفرحه اللى تعدي بتروح ما تجيش" ما يدفع أحدهم لأن يهتف بعد أن غلبه الفرح: أيوه يا دنيا/ أيوه كده/ عمري ما شفتك حلوه كده/ ولا غنيت لك غنوه كده.
سيذهب الشباب بعد فراغهم من النشيد ليمضوا إجازاتهم في المصايف، بعد أن احتفلوا بنجاحهم، ولن يتركهم منير يذهبون وحدهم، سيذهب معهم ليخبرهم كيف يمضون أوقاتهم على البلاج محتفظين بفرحهم، سيقودهم إلى التمتع بجمال البحر والطبيعة، وبكلام مرسى جميل عزيز أيضا سيصحبهم بلحن يبعث فيهم الحيوية ويفجر مايمتلئون به من طاقة: دقوا الشماسي ع البلاج / دقوا الشماسي/ دقوا الشماسي م الضحى لحد التماسي.
شرب منير مراد الموسيقى والألحان في بيت أبيه شربًا مذ كان طفلًا، فهو ابن الموسيقي والملحن الشهير زكي مراد، ذائع الصيت في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، كما أن شقيقته هى المطربة الرائعة ليلى مراد، فكيف لا يكون موهوبًا في هذا اللون من الفن وقد تربَّى وجدانه على الموسيقى وتشنفت أذناه بالألحان، ورأت عيناه عشرات الموسيقيين والملحنين الذين يترددون على منزله! كيف لا يكون موهوبًا وقد مارس هواية العزف صغيرًا، كما تعلم أصول هذا الفن على يد أساتذة كبار في الموسيقى الشرقية، إضافة إلى اطلاعه على الموسيقى الغربية ودراسته لها.
تستطيع بكل سهولة أن تميز ألحان منير مراد، فهو صاحب أخف وأكثر الجمل اللحنية رشاقة وخفة وعفرتة، وقد كانت ألحانه تشبهه تماما.
نجح منير منذ لحنه الأول (واحد اثنين) الذي قدمه لشادية في أحد أفلامها الأولى أن يؤكد بزوغ شخصية موسيقية ولحنية مختلفة تمامًا عن السائد من ألحان، ساعده في ذلك شيئان مهمان أولهما: روحه المتوثبة، ومزاجه الميَّال للانبساط، وشخصيته المنفتحة على الحياة وعلى كل ما هو جديد في الفن بشكل عام وفى الموسيقى بشكل خاص، أما الشيء الثاني الذى ساعده على أن يقدم تلك الشخصية المتميزة في عالم التلحين فهو قدرته المذهلة على الإنصات للآخرين من ملحني عصره، ومعرفة ما يتميز به كل واحد منهم، وهو ما بدا في تقليده خفيف الظل لأساليب هؤلاء الملحنين التي تميز ألحانهم في جلساته الخاصة كما في أفلامه، وهو ما تجلى في استعراضه خفيف الدم "ما حدش شاف".
كان لحنه (واحد اتنين) شيئًا مختلفًا تمامًا وجديدًا على الأذن المصرية برشاقة نغماته التي تشبه خفة حركة الطائر، وقد ساعد في وصول اللحن صوت شادية الذي كان جديدًا أيضًا، ويشبه في شقاوته ورشاقته تمامًا لحن منير مراد.. ثم أكدت ألحانه لشادية بعد ذلك ميلاد أغنية مصرية ذات طابع خاص، تخلصت من الكثير من التطريب القديم، والاهتمام باستعراض الزخارف اللحنية والصوتية أيضا، لتشف عن روح منفتحة، حرة، خفيفة، رشيقة، شرقية الهوى، وإن كانت متأثرة بالموسيقى الغربية، لا تكبلها قوانين الجاذبية الأرضية، وقد اجتمع لها الشبيهان: موسيقى منير وقماشة صوت شادية، ومن هذه الألحان التي قدماها معا -على سبيل المثال- إن راح منك يا عين، ألو ألو، اوعى، دوّر عليه، سوق على مهلك، شبك حبيبي، ما اقدرش أحب إتنين، يا سارق من عيني النوم، يا دبلة الخطوبة، يا دنيا زوقوكي..
كما قدم منير مراد مع شادية وعبد الحليم حافظ أنجح دويتو غنائي بعد شحات الغرام لمحمد فوزي- أستاذه وملهمه في رشاقة الألحان وانسيابيتها وخصوصيتها- وهو دويتو: تعالي أقول لك" في فيلم "لحن الوفا" و كذلك "حاجة غريبة" في فيلم "معبودة الجماهير". هذا بالإضافة إلى تلحينه لبعض الاستعراضات الفردية والجماعية الناجحة في الأفلام .
ألحان منير مراد الأولى أكدت تميزه بلون خاص من الغناء، أقبل عليه بعد ذلك كثير من الفنانين، خاصة وأن المزاج الفني والغنائي -في تلك الفترة- كان يتجه هذه الوجهة مع ظهور عبد الحليم حافظ وصحبه الذين نجحوا في عمل نقلة واسعة في عالم الغناء والألحان، تزامنت مع إرهاصات ثورة اجتماعية وسياسية توجت بثورة يوليو 1952وصاحبتها، وما دفعت إليه هذه الثورة من تجديد في الروح، وبعث في الهمة، وإذكاء للحماس الوطني والفني، وتحرر من الكثير من القديم البالي الذي لم يعد يناسب ذوق وروح العصر. كذلك كان ازدهار الفيلم الغنائي بمثابة السوق الواسعة التي كانت سببًا في زيادة الطلب على الألحان، خاصة تلك التي تناسب روح الشباب، فزاد الطلب على ألحان منير مراد، وإلى جانب ما قدمه مع شادية من ألحان كثيرة ، فقد قدم مع عبد الحليم حافظ منذ فيلمه الأول لحن الوفا وحتى أبى فوق الشجرة فيلمه الأخير عددًا كبيرًا من الألحان التي أسهمت هي الأخرى في رفع مكانة منير الفنية واللحنية وزادت من الطلب عليه، من هذه الألحان: تعالي أقول لك، حاجه غريبه، أول مرة تحب يا قلبي، إحنا كنا فين، ضحك ولعب، وحياة قلبي وأفراحه، بكرة وبعده، بأمر الحب، إيه ذنبي إيه، باحلم بيك وقاضي البلاج.
قدم مراد -حسب أقوال بعض المؤرخين- أكثر من 3000 لحن خلال مسيرته الفنية ومن هذه الألحان الناجحة "غلاب الهوى" لمها صبري، "رمش الغزال" لمحمد قنديل، "قسمة ونصيب" لهاني شاكر، "من يوميها" لوردة الجزائرية، "أنا أحبك" لعايدة الشاعر، "ابعد عن الحب" لعادل مأمون، "شفت الحب" لمحرم فؤاد، "كعب الغزال" لمحمد رشدي، "تسلم لقلبي" هدي سلطان، "ابعد يا حب" لعفاف راضي،" أبو شامة اسكندراني" لطروب، "شغلوني عيونك" لفايزة أحمد، "يعني وبعدين" لنجاح سلام، فلاح، والصبر، والليل لشريفة فاضل، اللي اتمنيته لقيته، والراجل ده هيجننى" لصباح. وغيرها
وبسبب من الطبيعة اللحنية الراقصة لألحان منير مراد فقد زاد الطلب عليه أيضًا لوضع موسيقى استعراضات ورقصات الكثير من أفلام نعيمة عاكف وسامية جمال وتحية كاريوكا وغيرهن.
منير اسمه الأصلي موريس زكي مردخاي مراد. اختلف من كتبوا عنه حول تاريخ ميلاده فذكرت مصادر إنه ولد في 13 أبريل 1922 وذكرت أخرى إنه ولد في13 أكتوبر 1920
وكذلك في 13 يناير1922، وهناك من ذكر أن ميلاده كان في 3 يناير 1924 بالقاهرة، وقد أدى هذا الخلاف في الرأي حول تاريخ مولده إلى خلافهم أيضا حول موعد الاحتفال بمرور مئة عام على ولده، وقد احتفل بمئويته البعض مثل الأوبرا المصرية، وأخذ البعض يفكر ويفكر، ما جعله يؤجل الاحتفال، وربما يلغي الفكرة أصلًا، لعدم تأكده.
ولد منير لعائلة يهودية ثم أشهر إسلامه وكانت من بين زيجاته الفنانة سهير البابلي. حصل على وسام الدولة للفنون والعلوم عام 1966 وتوفي -رحمه الله- في 17 أكتوبر1981، دون أن ينتبه إلى رحيله أحد؛ حيث رحل في الشهر نفسه الذي وقع فيه حادث المنصة، فانشغل الناس والإعلام باغتيال السادات، ونسوه.
• نجم السينما والاستعراض
عشق الشاب الوسيم الرشيق منير مراد السينما، فحاول الاقتراب منها، ولم يستنكف من أن يلتحق بها من أي باب من أبوابها، فعمل في البداية عامل كلاكيت وتدرج ليصبح مساعد مخرج مع أنور وجدي وعدد من المخرجين الآخرين منهم بدرخان وعز الدين ذو الفقار ونيازى مصطفى، ومن أفلامه كمساعد مخرج: ياسمين، البطل، حبيب الروح، قطر الندى، ليلة الحنة، مسمار جحا، بنت الأكابر، وكذلك غزل البنات وعنبر وغير ذلك من أفلام، ثم جاءته الفرصة الحقيقية لإظهار موهبته التمثيلية في فيلمين استعراضيين جميلين أتيح له أن يقدمهما بطلًا، هما: (أنا وحبيبي) عام 1953 و ( نهارك سعيد) عام 1955 ..
كما شارك منير في ثلاثة أفلام أخرى هى: موعد مع إبليس1955، بنت الحته1964، ثم واحد في المليون في1970.
كان يمكن لمنير إذا استمر في تقديم الفيلم الاستعراضي -في ذاك الوقت المبكر- أن يملأ فراغًا كبيرًا في السينما المصرية، في هذه النوعية من الأفلام.. خاصة مع خلو السينما تمامًا من مواصفات النجم الاستعراضي الذي يمتلك خفة ورشاقة منير مراد. ولكنه فضَّل الموسيقى، وقرر الاكتفاء بتقديم ألحان الأغاني والاستعراضات والرقصات في الأفلام، فكان ممن أسهموا بشكل كبير في انتعاش الفيلم الموسيقى والاستعراضي، حيث شارك في عشرات الأفلام منها: "ياسمين، الحرمان، دهب، خطف مراتي، أربع بنات وضابط، عفريتة إسماعيل ياسين، وإسماعيل ياسين في الأسطول، إسماعيل ياسين بوليس حربي، غلطة حبيبي، رحمة من السماء، العتبة الخضراء، أحلام البنات، لحن السعادة، الرباط المقدس، وعاد الحب، الراهبة، عندما نحب، الراجل ده هيجنني، عفريت مراتي، حلوه وشقيه، فتاة الاستعراض، عشاق الحياة، عندما يغني الحب، في الصيف لازم نحب، البحث عن المتاعب، ومولد يا دنيا.. هذا فضلًا عن أفلامه التي قدمها بنفسه ومعظم أفلام عبد الحليم حافظ ابتداء من فيلمه الأول لحن الوفا وحتى فيلمه الأخير أبى فوق الشجرة، كذلك معظم أفلام شادية. ولا تكاد تخلو من ألحانه غالبية الأفلام الغنائية والاستعراضية التي قدمتها السينما المصرية.
كما شارك منير بألحانه في عدد من المسرحيات أشهرها حواء الساعة 12 مع فؤاد المهندس، وكذلك في عدد من المسلسلات الإذاعية منها أرجوك لا تفهمنى بسرعة.
رحم الله منير مراد الذي رحل وترك ألحانه تمتعنا، وتدعونا لمحبة الحياة رغم كل ما فيها.
|