القاهرة 12 نوفمبر 2022 الساعة 02:40 م
بقلم: د. حسين عبد البصير
يهتم سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي بقضية المناخ اهتمامًا كبيرًا، وتعد مصر شريكًا مهمًا وفعالاً ومؤثرًا في هذا الملف الحيوي حديث الساعة، ويعد انعقاد قمة المناخ في مصر في العام الحالي 2022 تقديرًا لمصر وقائدها الذي يولى قضية التغير المناخي اهتمامًا كبيرًا من وقته، لتصبح من أهم الملفات التي تهتم بها أجهزة الدولة المصرية.
• قصة التغيرات المناخية:
تمر البشرية في الفترة الحالية بمرحلة كارثية خطيرة من تاريخها الطويل، حيث صار التغير المناخي قضية مهمة جدًا، ومقلقة للغاية، ومهددة للوجود الإنساني ككل في أماكن عديدة من العالم، وتحتاج إلى حلول ناجعة سريعة من جميع دول العالم النامية قبل المتقدمة في عالمنا اليوم، فقد أصبح المناخ بتغيراته وتقلباته لا يرحم، ويؤدي الاحتباس الحراري والتغير المناخي إلى ذوبان الجليد وزيادة مستوى مياه البحار، مما سوف يسبب غرق بعض المناطق في العالم.
لقد مرت الآثار في العالم كله بعصور صعبة وفترات شديدة الخطورة عبر تاريخ الإنسانية الطويل، سواء في مصر القديمة، أو الفترات اليونانية الرومانية، أو في حضارات وشعوب البحر الأبيض المتوسط، أو في غيرها من حضارات وشعوب العالم كله.
• نهاية عصر الأهرامات:
على سبيل المثال، بعد نهاية عصر الدولة القديمة، أو عصر الأهرامات، حدث ما نعرفه في تاريخ مصر القديمة بـ"عصر الانتقال الأول"، وحدث في ذلك العصر ضعف ليس له مثيل للملوك بعد نهاية عصر الأسرة السادسة. وقد تم فقدان السيطرة على البلاد، مما أدى إلى زيادة نفوذ وقوة حكام الأقاليم، وأصبحوا على درجة كاملة من الاستقلال عن الحكم المركزي في منف، وعملوا على توسع أقاليمهم، وكونوا قواتهم الخاصة. وأدى ذلك الأمر إلى حدوث حروب أهلية، وتردي كبير في الأوضاع السياسية والاقتصادية، وهو ما نتج عنه أيضًا تعرض المجموعات الهرمية للسرقة.
تصف لنا نصوص فترة عصر الدولة الوسطى (2055-1650 قبل الميلاد) ما جرى في عصر الانتقال الأول بأنه عصر فوضى؛ إذ كان غياب الملك والحكومة المركزية سببًا مباشرًا أدى إلى انتشار الفقر وضياع القيم الأخلاقية وذيوع عدم الاستقرار.
وحكمت مصر الأسرتان التاسعة والعاشرة، وكان مقرهما هيراكليوبوليس (إهناسيا المدينة حاليًا)، لكن كانت سيطرتهما ضعيفة على أراضيهما، وخاصة في الجنوب، وكانت تلك الفترة كانت تمثل عصر الانتقال الأول (2160 ق.م.- 2055 ق.م.).
حدث كل ذلك بسبب التغيرات المناخية التي شهدتها مصر في تلك الفترة من تاريخها الطويل، ونتج ذلك بسبب انخفاض فيضان نهر النيل وقلة منسوب المياه فيه، مما أحدث قلة في المحاصيل الزراعية وانتشرت المجاعة والفوضى بسبب التغيرات المناخية.
• لوحة العاصفة:
هناك ما نعرفه باسم "لوحة العاصفة"، وترجع إلى العام الأول من عهد الملك أحمس الأول في بداية عصر الدولة الحديثة وعصر الأسرة الثامنة عشرة، وتذكر بعض الأحداث التي تتحدث عن سيل عنيف وأمطار، ويتوافق وصف اللوحة مع السيول التي تحدث على فترات متباعدة على مرتفعات الصحراء، وفى الصعيد.
ووصفت اللوحة طغيان المياه على القرى والمعابد، وطَفو ا?جساد الموتى على المياه مثل قوارب البردي، وحدث ما حدث نتيجة فوران بركان في جزيرة ثيرا في اليونان امتدت آثاره المناخية إلى مصر وجنوب بلاد الشام، حيث شهدت جزيرة ثيرا باليونان نشاطًا زلزاليًا عنيفًا، أعقبه فوران بركاني ا?عنف ا?دى لانطلاق غبار وسحب بركانية عالية في سماء البحر المتوسط، وصلت مع حركة الرياح إلى شمال مصر وجنوب بلاد الشام.
• الشدة المستنصرية:
إذا ذهبنا إلى تاريخ مصر في العصر الإسلامي، سوف نجد أنه في العصر الفاطمي حدث ما نعرفه بـ"الشدة المستنصرية"، التي كانت فترة صعبة للغاية في تاريخ مصر، فقد حدثت مجاعة في البلاد نتيجة عدم فيضان نهر النيل في مصر لمدة سبع سنوات عجاف متواصلة في نهاية عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله في بداية النصف الثاني من القرن الخامس الهجري من تاريخ الدولة الفاطمية في مصر.
وقد عرفنا عن تلك الفترة العصيبة من خلال ما رواه لنا المؤرخون الذين كتبوا عن الفترات وذكروا الكثير من الحوادث والقصص الغريبة والعجيبة والقاسية، فقد تصحرت أرض مصر مما أدى إلى هلك الحرث والنسل.
ذكر المؤرخ ابن إياس أن الناس أكلت الميتة وأخذوا في أكل الأحياء وصنعت الخطاطيف والكلاليب؛ لاصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح، وتراجع سكان مصر لأقل معدل في تاريخها الطويل.
كان الناس يخطفون الخبز من على رؤوس الخبازين، ولقد أكل الناس القطط والكلاب؛ فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير، وقد جاع الخليفة المستنصر نفسه حتى أنه باع الرخام من على مقابر آبائه، وخرجت النساء جائعات في اتجاه مدينة بغداد، ويذكر أن الخليفة المستنصر قد امتدت فترة حكمه للستين عامًا.
لقد ظهر الغلاء بمصر في تلك الفترة بشكل ليس له مثيل. واشتد جوع الناس بسبب قلة الأقوات، وأكل الناس الجيفة والميتة، وكانوا يقفون في الطرقات ويقتلون من كانوا يظفرون به، وبيعت بيضة الدجاج بعشرة قراريط، وبلغت رواية الماء دينارًا، وبيع دار ثمنها تسعمائة دينار بتسعين دينارًا، وعمّ وباء شديد. وانقطعت الطرقات برًا وبحرًا. وبيع رغيف من الخبز وزنه رطل كما تباع التحف والطرق، وبيع أردب قمح بثمانين دينارًا.
• تأثير المناخ على آثار الإسكندرية:
إذا ذهبنا إلى مدينة الإسكندرية فسوف نعرف أنها قد شهدت الكثير من الظواهر المناخية والطبيعية التي غيرت من طبوغرافية المدينة بشكل جذري عبر تاريخها الطويل خصوصًا في الفترات اليونانية الرومانية.
في الفترة الأخيرة، حدثت تغيرات مناخية كثيرة ظهر تأثيرها على المدينة بشدة. وتعد التغيرات المناخية الأخيرة في المدينة مختلفة للغاية، إذ لم تحدث فيها من قبل، حيث تغير المناخ بشكل سريع غريب وغير مألوف. وأخشى أن تؤثر هذه التغيرات المناخية الجديدة على آثار مدينة الإسكندرية والدلتا المصرية، وأخشى أن تغرق المدينة وجزء من الدلتا المصرية بمرور الوقت إذا استمر التغير المناخي على هذا النهج، وكذلك أخشى على آثار الإسكندرية والدلتا.
والحمد لله لم يؤثر التغير المناخي الأخير على متاحف وآثار الإسكندرية، لكن لو استمر الأمر على هذا الحال فدون شك سوف تتعرض آثار المدينة والدلتا المصرية للخطر ضمن تعرض الإسكندرية والدلتا لتغيرات مناخية عنيفة قد تؤدى إلى غمرهما تحت سطح البحر أو غرقهما تحت مياه الأمطار المتزايدة إذا استمر التغير المناخي على حاله، خاصة مع ازدياد حدته في ظل تغير مناخي يبدو أنه لن يرحم ولم نشهده منذ فترات زمنية بعيدة جدًا.
أرجو أن نتدارك الأمر قبل فوات الأوان واختفاء عدد كبير من آثار مدينة الإسكندرية والدلتا المصرية ضمن تلك المناطق المهددة بالاختفاء مع مدن ومواقع عديدة في العالم، في ظل الاحتباس الحراري والتغير المناخي اللذين يهددان أجزاءً كثيرة من العالم اليوم والتي سوف تحدث حتمًا في المستقبل القريب.
إن آثار العالم تواجه خطر الاختفاء والضياع والزوال من الوجود في فترة زمنية لن تطول سواء في مصر أو خارجها، وعلى جميع دول العالم مواجهة هذه الأخطار المحدقة بالآثار بكل حسم وبسرعة فائقة قبل أن يضيع الكثير من الآثار من بين أيدينا بسبب التغيرات المناخية التي صارت بنا وبالعالم وبالآثار بكل قسوة.
دون شك لدى الدولة المصرية خطة شاملة واستعدادات لمواجهة التغير المناخي، وتعمل الدولة المصرية ككل جاهدة في هذا الملف الذي بات مقلقًا للعالم كله، خصوصًا وزارة البيئة المصرية والهيئة المصرية العامة لحماية الشواطئ وهيئة التخطيط العمراني، وتم بالفعل وضع كتل خرسانية ضخمة وصنع سياج حجري أمام قلعة قايتباي، لو تحدثنا عن مدينة الإسكندرية تحديدًا، وفى أماكن أخرى على ساحل البحر الأبيض المتوسط، لكن نرجو أن تكون وتيرة العمل والتنفيذ والمتابعة أسرع، وأن يكون التفاعل والتعاون أكبر وأوثق بين جميع أجهزة الدولة المعنية، فالخطر قادم لا محالة، طال الزمن أم قصر.
وتعد استضافة مصر للقمة مهمة للغاية، وفى هذا التوقيت بالغ الأهمية من تاريخ البشرية، خصوصًا بعد القمة الأخيرة التي عُقدت في المملكة المتحدة، والتي حذر فيها رئيس وزراء بريطانيا السابق بوريس جونسون من غرق مدن عدة في العالم مثل مدينة ميامي الأمريكية، ومدينة شنغهاي الصينية، وخص بالذكر مدينتنا الساحرة مدينة الإسكندرية.
ومنذ فترة ليست بالبعيدة، عقد رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي، اجتماعًا على أعلى مستوى ناقش الاستراتيجية المتكاملة لإدارة مياه الأمطار بالإسكندرية بعد هطول الأمطار الغريزة عليها، وقد زار مدينة الإسكندرية بالفعل للوقوف على ما تم إقراره، وتم بالفعل تنفيذ مصارف جديدة لمياه الأمطار في المدينة. ونرجو أن تكون أيضًا قضية الحفاظ على آثار مدينة الإسكندرية وغيرها من مدن مصر ومناطقها الأثرية وكذلك مدن ومناطق العالم الأثرية ضمن تلك الأجندات الحكومية المهمة في ظل تأثيرات التغيرات المناخية التي تضرب العالم كله بلا رحمة.
وقد أكدت وزيرة البيئة المصرية الدكتورة ياسمين فؤاد، أن الإسكندرية والدلتا من أكثر المناطق الحساسة المهددة بالغرق بسبب التغيرات المناخية.
ونرى أن يكون على رأس أولويات قمة المناخ القادمة الاهتمام بالآثار، وتحديدًا آثار مدينة الإسكندرية والدلتا وغيرها من المدن والمواقع الأثرية في مصر والعالم كله والتي هي مهددة بالضياع من بين أيدينا، ويجب وضع أجندة مصرية ودولية لكيفية إنقاذ آثار مدينة الإسكندرية وآثار الدلتا وغيرها من المدن والمناطق الأثرية في العالم كله قبل الغرق المستقبلي الوشيك الذي سوف يغمر آثار الكثير من المدن والمواقع الأثرية في مصر والعالم كله. ويجب أن تطلق مصر حملة دولية تحت مظلة اليونسكو للحفاظ على آثار الإسكندرية والدلتا ومصر والعالم المهددة بالغرق والضياع قبل أن نفقدهما إلى الأبد.
ويجب أن نكثف الحفائر الأثرية في مدينة الإسكندرية والدلتا المصرية وغيرها من المدن والمواقع الأثرية في العالم المهددة بالضياع من قبل البعثات المحلية والأجنبية على حد سواء، حتى نستطيع أن نكشف ونسجل ونوثق كل آثار الإسكندرية والدلتا والمدن والمواقع الأثرية في العالم المهددة بالضياع، مثلما فعلنا من قبل في مشروع إنقاذ آثار النوبة قبل أن تغرق تحت مياه بحيرة ناصر.
وأختم بجزء من كلمة رئيس وزراء بريطانيا السابق بوريس جونسون: "كلما فشلنا في أخذ التدابير المناسبة ساء الوضع وكان علينا دفع الثمن، إن الإنسانية استهلكت وقتها، وحان الوقت للتصدي للتغير المناخي".
آن للعالم كله أن يتعاون معًا من أجل الحفاظ على البشرية، ومدنها، وآثارها من الفناء.
مصر رائد وسباقة وسوف تقود العمل المحلي والدولي في هذا الشأن من أجل الحفاظ مدن وآثار وحضارات العالم من الضياع والاختفاء إلى الأبد، مصر القديمة كانت مؤثرة وأعتقد أن مصر المعاصرة أيضًا واعية ومدركة وعلى يقين بأهمية دورها في هذا الملف الحيوي والمهم والخطير والذي يجب أن نقوم مصر بإطلاق ومتابعته والإشراف عليه، إن على عاتق مصر المعاصرة العبء الأكبر في التصدي إلى التغيرات المناخية الحادة التي تهدد آثار العالم؛ وذلك على اعتبار أن مصر صاحبة الحضارة الرائدة المعلمة لكل حضارات العالم.
|