القاهرة 01 نوفمبر 2022 الساعة 10:07 ص
قصة: دينو بوتزاتي - إيطاليا
ترجمة: محمد مكاوي
كان قد حل الظلام بالفعل عندما انفتح باب السجن المظلم وألقى الحراس بداخله عجوزا ضعيفا وضئيل الحجم ذا لحية طويلة. وكانت لحيته بيضاء وتكاد تكون أطول منه. وفي الظلام الحالك للسجن كان ينبثق ضوء خفيف يترك شعورًا ما عند القتلة والمحتالين وعديمي الرحمة المسجونين بالداخل. ولكن بسبب الظلام لم يدرك العجوز في البداية أن في ذلك المكان الأشبه بالكهف المظلم قد يكون هناك أُناس آخرون وصاح:" هل هناك آحد؟" فردت عليه العديد من الأصوات الساخرة والهمهمة. وبالتالي وفقًا لآداب المكان بدأ التعارف.
صدر صوت غليظ يقول: "ريكاردو مارسيلو، سطو كبير".
وقال صوت آخر أجش: "بيزيدا كارميلو، نصب واحتيال".
ثم توالت الأصوات:
"مارفي لوتشيانو، اغتصاب".
"لافاتارو ماكس، بريء".
وحينها دوت أصوات الضحكات الكثيرة في المكان. ففي الواقع كانت نكتة مضحكة جدًا؛ حيث إن الجميع كانوا يعرفون "لافاتارو" كواحد من أشهر قاطعي الطريق وسافكي الدماء.
ومن ثم استمروا في التعريف بأنفسهم:
قال صوت مرتجف وبه قشعريرة فخر: "اسبوزيتو اينيس، قتل".
وقال صوت آخر ذو نبرة انتصار: "موتيروني فينسينزو، قتلت أبي.. وأنت أيها البرغوث العجوز؟".
فردّ السجين الجديد: "أنا.. لا أعرف بالضبط. هم قد أوقفوني وطلبوا مني أوراق هويتي ولكني لم أمتلكها يومًا".
قال أحدهم باستحقار: إذا تشرد، عجبًا! وماذا عن اسمك؟"
"أنا.. أنا (مورّو) ومعروف أكثر بالعظيم".
علّق شخص ما غير مرئي من الخلف: "مورّو العظيم! اسم ليس سيئًا علي الإطلاق. إن اسم مثل هذا كبير جدًا عليك. لابد أن تكون أكبر بعشر مرات".
قال العجوز بلطف شديدً: "بالضبط هكذا، ولكنها ليست غلطتي. لقد أطلقوا علي هذا الاسم بهدف السخرية مني. وليس بيدي حيلة. كما أنه سبب لي بعض المشكلات. ذات مرة علي سبيل المثال... ولكنها قصة طويلة جدًا...".
شجعه بشدة آحد هؤلاء الأشرار: "هيا هيا يا رجل اخرجها. ليس لدينا سوى الوقت".
وافقه الجميع؛ ففي ملل السجن الكئيب أي وسيلة إلهاء تعد حفلة.
أخذ العجوز يحكي: "حسنًا.. ذات يوم كنت أتجول في مدينة ما حيث ربما من الأفضل الالتزام بالصمت، وحيث رأيت قصرًا كبيرًا والكثير من الخدم الذين يأتون ويذهبون من أبواب القصر محمّلين بجميع خيرات الرب. ظننت أن هناك حفلة واقتربت لأطلب صدقة. ولكن لم يمض الوقت حتي وجدت رجلًا عملاقًا طوله مترين يمسكني من رقبتي".
بدأ في الصياح: "ها هو هنا اللص. إنه اللص الذي سرق بالأمس غطاء الخيل الخاص بسيدنا. ولديه الجرأة ليعود إلي هنا مجددًا. الآن نحن من سنحطم لك عظامك!
فأجبت: "أااا أااا أنا؟ ولكن أنا بالأمس كنت علي بعد ثلاثين ميلًا علي الأقل من هنا. كيف يمكن ذلك؟".
قال: "لقد رأيتك ببؤبؤ عينيِّ هاتين، لقد رأيتك وأنت تهرب بالغطاء على كتفك" ثم أخذ يسحبني إلى فناء القصر.
نزلت على ركبتيِّ وقلت: "بالأمس كنت على بعد ثلاثين ميلًا على الأقل من هنا. لم أكن في هذه المدينة من قبل، هذه كلمة (مورّو العظيم)".
فقال الرجل الصخم وهو يحدق بي: "ماذا؟!"
أعدت كلامي: "هذه كلمة (مورّو العظيم)"
فانفجر ضحكًا فجأة ذاك الضخم الذي كان غاضبًا.
وقال: "(مورّو العظيم)؟ تعالوا تعالوا لرؤية هذا الصعلوك الذي يخبرني أن اناديه بـ "مورّو العظيم"، ثم نظر إلي وقال: "ولكن هل تعرف من هو (مورّو العظيم)؟ فأجبته: "لا أعرف شخصًا آخر غيري".
قال العملاق: "(مورّو العظيم) ما هو إلا سيدنا العظيم. وأنت أيها الحثالة تتجرأ أن تسلبه اسمه. الآن استعد فها هو قادم".
وهذا صحيح. فقد استدعت الصرخات سيد القصر الذي كان قد جاء بنفسه إلى الفناء.
كان تاجرًا غنيًا جدًا. كان الرجل الأغني في المدينة، بل ربما في العالم. كان يقترب وهو ينظر ويسأل ويضحك. كانت تبهجه فكرة أن فقيرًا بسيطًا مثلي يحمل اسمه. لقد أمر الخادم أن يتركني ودعاني للدخول وأراني القاعات المكتظة بالكنوز.
واصطحبني حتى وصلنا إلى غرفة محصّنة، حيث كان هناك الكثير من أكوام الذهب والأحجار الكريمة. جعلهم يطعمونني ثم قال لي: "إن هذه الصدفة أن يكون هناك متسول عجوز يحمل اسمًا مماثلا لاسمي أدهشتني أكثر؛ لأنه قد صادفني الشيء نفسه أثناء رحلتي في الهند. إذ ذهبت إلى السوق من أجل التجارة وبينما كنت أبيع الأشياء الثمينة التي كانت معي، التفّ حولي الكثيرون وسألوني من أنا ومن أين جئت".
أجبتهم: "أنا (مورّو العظيم)".
فقال هؤلاء ذو الوجه الداكن: "(مورّو العظيم)؟ هل يمكن أن تتحلى أنت بالعظمة أيها التاجر الفظ؟ إن عظمة الرجل تكمن في رجاحة عقله. هناك شخص واحد فقط يُدعي (مورّو العظيم) وهو يعيش في هذه المدينة. إنه عقل ونظام دولتنا وأنت أيها المخادع ستدرك الآن أنك تتفاخر"
أخذوني وقيدوني واصطحبوني إلى هذا (المورّو) الذي كنت أجهل وجوده. كان عالِمًا وفيلسوفًا وعالم رياضيات وفلكيًا ومنجمًا ويتم احترامه وتقديره كإله. ولحسن حظي أنه فهم على الفور سوء الفهم الذي حدث وأخذ يضحك، وجعلهم يحرروني، ثم اصطحبني لرؤية معمله ومختبره وأدواته العجيبة التي صنعها بنفسه.
وفي النهاية قال لي: "أدهشتني أكثر هذه الصدفة أيها التاجر الأجنبي النبيل؛ لأنه قد صادفني الشيء نفسه أثناء رحلتي في جزر ليفانتي. كنت أسير هناك نحو قمة بركان كنت أنوي دراسته. عندما اشتبه مجموعة من الحراس في ملابسي الغريبة وأوقفوني لمعرفة من أكون. وفي الوقت الذي نطقت فيه اسمي كبّلوني وسحبوني إلي المدينة".
قالوا لي: "(مورّو العظيم)؟ هل يمكن أن تتحلى أنت بالعظمة أيها المعلم الجاهل؟ إن عظمة الرجل تكمن في أعماله البطولية. هناك واحد فقط يدعى (مورّو العظيم). إنه سيد هذه الجزيرة والمحارب الأشجع الذي يقاتل بشجاعة ويلمع سيفه في الشمس.
والآن سيقطع رأسك".
في الواقع اصطحبوني إلى سيدهم الذي كان رجلا ذا هيئة مروعة. ولحسن الحظ نجحت في أن أشرح له الأمر وأقدم نفسي. وحينها أخذ المحارب المخيف يضحك من هذه الصدفة العجيبة، وجعلهم يحرروني، وأعطاني ملابس فاخرة، ودعاني للدخول إلى قصره والتطلع في الأدلة المدهشة علي انتصاراته علي كل الشعوب القريبة والبعيدة عن الجزيرة".
وفي النهاية أخبرني: "أدهشتني هذه الصدفة أكثر أيها العالم اللامع ذو الاسم المطابق لاسمي؛ لأنني قد صادفني أنا أيضًا الشيء نفسه عندما كنت أقاتل في أرض بعيدة جدًا يُطلق عليها "أوروبا". في الواقع كنت أسير مع جنودي في إحدي الغابات، حيث قابلت بعض القرويين الفظّين الذين سألوني: "من أنت يا من تُحدث ضجيجا عاليا بأسلحتك في غاباتنا الهادئة؟".
فقلت: "أنا (مورّو العظيم)". وكنت أظن أن اسمي فقط سيفزعهم. ولكن على العكس ابتسموا ابتسامة شفقة وقالوا: "(مورّو العظيم)؟ هل تريد المزاح؟ هل يمكن أن تتحلى أنت بالعظمة أيها المحارب المغرور؟ إن عظمة الرجل تكمن في بساطة هيئته وسمو روحه. هناك شخص واحد فقط في العالم يُدعي (مورّو العظيم) والآن سوف نقودك إليه حتي ترى عظمة الرجل الحقيقية".
"في الواقع قادوني إلى قرية صغيرة ومنعزلة وهناك في كوخ حالته مذرية كان يسكن عجوز بلحية بيضاء مرتديًا ثوبًا من الخِرق ويقضي وقته -كما قالوا لي- وهو يتأمل الطبيعة ويعبد الرب. ويجب أن أُقر بصراحة أنني لم أر قط إنسانًا أكثر هدوءًا وحيوية وربما أكثر سعادة منه. ولكن بالنسبة إليّ? كان قد تأخر الوقت لأحيد عن طريقي ولأغير نهج حياتي".
"هذا ما حكاه ملك الجزيرة القوي للعالم الحكيم وما رواه العالم فيما بعد إلى التاجر الغني وما قاله التاجر إلى العجوز الفقير الذي جاء لقصره لكي يطلب صدقة. وكان يُطلق على جميعهم "مورّو" ويُطلق على جميعهم "العظيم"، منهم من كان بسبب عقله ومنهم من كان لسبب آخر".
في تلك اللحظة داخل السجن المظلم، بعدما انتهى العجوز من سرد قصته، سأل أحد هؤلاء المخادعين: "وهكذا إذا لم أكن غبيًا، ذلك العجوز البائس في الكوخ، والذي هو أعظم من الجميع، ليس سوى أنت؟".
غمغم ذو اللحية البيضاء دون أن يرد:" إيييهه يا أعزائي. لا نعم ولا لاء! إن الحياة أمرها مضحك للغاية".
ثم بعد ذلك ولبضع لحظات صمت السجناء الذين كانوا قد استمعوا له؛ لأن هناك بعض الأمور تمنح حتى أكثر الرجال شرًا وقتًا للتفكير فيها.
|