القاهرة 25 اكتوبر 2022 الساعة 10:03 ص

تأليف: إيتالو كالفينو
ترجمة: شيرين النوساني
فى يوم من الأيام كانت هناك أسرة مكونة من أب وأم وطفلين وفتاة. وكان الأب يتنقل بحكم عمله من مكانٍ لآخر. وذات يوم وبينما كان الأب خارج المنزل قال الطفلان للأم: سنذهبٌ عند أبينا. فقالت الأم: لا مانع، اذهبا.
وعندما وصل الطفلان إلى الغابة، أخذا يلعبان. وبعد قليل شاهدا أباهما قادما من بعيد فهرعا إليه وتعلقا بساقيه. وقالا: أبانا، أبانا، يا أبانا! وفي ذلك اليوم كان مزاج الأب عكرا، فقال: اتركاني في حالي! حتى لا أغضب منكما! ولكنهما لم يستمعا إلى ما قال أبوهما وظلا يتعلقان بساقيه.
وإذ كان الأب غاضبا ساعتها فقد صرخ فى وجهيهما قائلا: لعنة الله عليكما، ليأخذكما الشيطان بعيدا عني! وفى تلك اللحظة ظهر الشيطان وحمل الطفلين بعيدا دون أن ينتبه الأب إلى ذلك.
وحينما رأت الأم الأب وقد عاد إلى المنزل بدون الطفلين، بدأ القلق يتسرب إلى نفسها وأخذت تبكي فقد قال الزوج، فى أول الأمر، إنه لا يعلم شيئا عنهما، لكنه حكى لها بعد قليل أنه دعا عليهما، وأنه لم يرهما منذ تلك اللحظة.
فقالت الفتاة: أريد أن أذهب للبحث عنهما، حتى وإن دفعت حياتى أنا أيضا ثمنا لذلك. وعلى الرغم من رفض أبويها، حملت الفتاة معها بعض الطعام ومضت إلى الغابة.
ووجدت الفتاة فى طريقها قصرا بابه من الحديد، فدخلته. وورأت فيه رجلاً فسألته: ألم تر أخواي اللذين اختطفهما الشيطان.
فأجابها الرجل: أنا لا أعرف. ولكن يمكنك أن تسيري في هذا الاتجاه: وستجدين عنبرا فيه أربعة وعشرين سريرا. ابحثي عنهما هناك، فقد تجدينهما على أحد هذه الأسرة.
وبالفعل عثُرت الفتاة على أخويها وكانا يرقدان على أحد هذه الأسرة فغمرتها السعادة. وقالت لهما: يا أخواي الحبيبان، أخيرا وجدتكما! أنتما بخير إذن؟!
فردا عليها: تعالي لتري وتحكمي بنفسك إن كنا بخير أم لا. فلما رفعت عنهما الأغطية شاهدت أسفلها ألسنة مشتعلة من اللهب. صاحت الفتاة: ويلي عليكما، يا أخواي! ماذا أستطيع أن أفعل لأنقذكما مما أنتما فيه؟
فأجاباها: -لو التزمتي الصمت لمدة سبع سنوات فسوف ننجو، ولكن انتبهى إلى أنك سترين أهوالا لا طاقة لك على تحملها.
قالت الفتاة: أنا موافقة، اطمئنا، فهمت كل شيء، وذهبت إلى حال سبيلها. ومرت من أمام ذلك الرجل وأشار لها بأن تقترب منه، ولكنها هزت رأسها ورشمت علامة الصليب ومضت فى طريقها.
سارت الفتاة واستمرت فى سيرها، حتى وجدت نفسها داخل غابة وراحت فى سبات عميق من شدة التعب والإرهاق.
خرج أحد الملوك فى رحلة صيد فى الغابة فعثر عليها مستغرقة فى النوم هناك.
فقال فى نفسه: ما هذا الجمال الفاتن! وأيقظها وسألها عن سبب وجودها فى الغابة. فأشارت له برأسها أنها لا تحتاج لأي شيء. سألها الملك: هل تحبين أن تأتى معى؟ فأومأت الفتاة بالموافقة. كان الملك يحادثها بصوتٍ مرتفع ظنا منه أنها صماء وبكماء ولكنه أدرك بعد ذلك أنها تسمعه أيضا حينما يحدثها بصوت خفيض.
ولما وصل الملك إلى مسكنه أنزلها من العربة. ثم أخبر أمه أنه عثر على فتاة بكماء نائمة فى الغابة وأنه سيتخذها زوجة.
قالت الملكة الأم:
لكن أنا لا أوافق! فرد عليها: ولكنى أنا صاحب القرار هنا، وتزوج الملك الفتاة
كانت الحماة امرأة قاسية القلب فأذاقتها الأمرين، إلا أن الفتاة ظلت تتحملها ولم ترد إليها الإساءة قط. وفى تلك الأثناء حان الوقت الموعود الذى تنتظر فيه قدوم مولودها. فخططت الحماة حتى يصل إلى ابنها خطابا مكذوبا دفعه لأن يتوجه على وجه السرعة إلى مدينة بعينها بادعاء أن هناك أشخاصا يقومون بالاستيلاء على ممتلكاته.
ترك الملك عروسه على تلك الحالة ورحل. وأنجبت العروس طفلها. ولكن الحماة، بالاتفاق مع صديقتها المقربة، أحضرت كلبا ووضعته بجانبها على الفراش.
ثم وضعت المولود داخل علبة وحملته فوق سطح القصر. كانت الشابة المسكينة ترى وتسمع كل شيء ويتملك منها اليأس ولكن لم يغب عن فكرها لحظة ذاك العقاب الذى لحق بأخويها فكانت تُجبر نفسها على التزام الصمت.
كتبت الحماة من فورها خطابا لابنها أبلغته فيه بأن عروسه قد أنجبت كلبا. فقال لها الملك إنه لا يريد أن يسمع أي كلام عن العروس مرة ثانية؛ وطلب منها أن تعطيها بعض المال الذى يكفيها للعيش بكرامة وأن تطلب منها مغادرة القصر قبل عودته.
غير أن العجوز أمرت واحدا من خدمها بأن يحمل الشابة إلى خارج القصر ويقتلها ويلقى بجثتها فى البحر ثم يعود إليها بثيابها.
وحين وصل الخادم إلى شاطىء البحر قال لها: الآن اخفضى رأسك يا مولاتى لأننى مضطر لقتلك. فألقت الشابة بنفسها على الأرض وركعت على ركبتيها وعقدت يديها متضرعةً وقد اغرورقت عيناها بالدموع، فأشفق الخادم عليها. وأحجم عن قتلها، واكتفى بقص شعرها ونزع عنها رداءها وأعطاها بدلاً منها قميصه وسرواله.
ظلت الشابة وحيدة على الشاطئ حتى شاهدت بعد طول انتظار سفينة تمر من أمامها فلوحت لها. وكانت سفينة حاملة جنود، وسألها الجنود من تكون إذ ظنوا أنها فتى.. فشرحت لهم بالإشارة أنها كانت تعمل كبحارٍ على متن أحد القوارب وهى الشخص الوحيد الذى نجا بحياته عند غرق القارب. فقال الجنود: لا بأس، ستحارب معنا، حتى وإن كنت أبكما.
ودارت رحى المعركة وأخذت الفتاة تطلق نيران المدافع مع الجنود، فلما لاحظ الرفاق شجاعتها منحوها على الفور رتبة عريف. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها طلبت منهم الفتاة السماح لها بترك الخدمة فلبوا لها طلبها.
فعادت الفتاة إلى البر مجددا لا تعلم إلى أى مكان تتجه، غير أنها رأت فى عتمة الليل منزلاً مهدما فدخلته. وعند منتصف الليل سمعت وقع أقدام، فتنصتت ورأت ثلاثة عشر لصا يخرجون من الباب الخلفي لأحد المنازل فانتظرت إلى أن خرجوا ثم ذهبت لتتفقد المكان الذى خرجوا منه. فإذا بها تجد مائدة كبيرة عامرة بأفخر أنواع الطعام وعليها أطباق تكفى لثلاثة عشر فردا، فراحت تأكل كمية قليلة من كل طبق حتى لا يفطن اللصوص لوجودها.
ثم عادت واختبأت ولكنها نسيت الملعقة فى أحد الأطباق. ولما عاد اللصوص إلى المنزل مرة أخرى فى جوف الليل، شاهد أحدهم الملعقة فقال:
ما هذا! يظهر أن بيننا شخصا خائنا! وقال آخر: إذن، فلنخرج من البيت، ويبقى واحد منا يراقب المكان، وهكذا فعلوا.
خرجت الفتاة من مخبئها إذ ظنت أنهم خرجوا جميعا فأمسك بها اللص وقال لها: ها قد وقعت فى يدى، يا جبانة! وسترين الآن ماذا سنفعل بك.
فأشارت له الفتاة، والذعر يملأ قلبها، بأنها صماء، وبأنها دخلت هذا المكان لأنها لا تعرف لها مكانا تأوى إليه. فهوَن عليها اللص وقدم لها طعاما وشرابا. وحينما عاد أفراد العصابة الآخرون وسمعوا حكايتها قالوا لها: ما دمت موجودة هنا فلا ضرر أن تبقى معنا، وإلا فسوف نضطر إلى قتلك.
أومأت الفتاة بالموافقة وظلت معهم.
ولم يكن اللصوص يتركوها بمفردها أبدا. وذات يوم قال لها زعيم العصابة: غدا عند حلول الليل سنتوجه جميعا إلى قصر ذلك الملك، (وأخبرها باسم الملك المقصود)، لكي نسرق أمواله. ولا بد أن تأتى معنا أنت أيضا.
كان الملك المقصود هو زوج الشابة فكتبت له خطابا نصحته فيه أن يقوم بتسليح بيته تسليحا قويا لأنه عُرضة للخطر. وحينما وصل اللصوص، عند منتصف الليل، إلى بوابة القصر قام الخدم بقنصهم الواحد تلو الآخر بعد أن تحصنوا واختبأوا بالداخل. وهكذا مات زعيم العصابة وخمسة آخرون منهم؛ ولاذ الآخرون جميعا بالفرار من هنا وهناك وتركوا الفتاة هناك بمفردها، وهى ترتدى زى العصابة. فأمسك بها الخدم وقيدوها وألقوا بها فى السجن.
ورأت الشابة من داخل محبسها الخدم ينصبون لها المقصلة فى الميدان. ولم يكن يتبقى سوى يوم واحد فقط على انتهاء مدة الأعوام السبعة.
فطلبت منهم بلغة الإشارة السماح بتأجيل إعدامها لمدة يوم واحد ومنحها الملك ما طلبت.
وفى اليوم التالى حملها الخدم فوق الخشبة فأشارت لهم، وقد صعدت أول درجة فى السُلم، بأن ينتظروا إلى الساعة الرابعة بدلاً من الثالثة.
ولبى لها الملك هذا الطلب أيضا. ولما دقت الساعة الرابعة، وأثناء صعودها ثانى درجة فى السُلم، أقبل عليهم محاربان وقدما نفسهما للملك وطلبا منه الإذن بالحديث.
فقال الملك: تكلما.
فسأله المحاربان: لماذا ستنفذون حكم الإعدام فى هذا الشاب؟ فشرح الملك لهما الأمر. فقالا: دعنا إذن نخبرك أنه ليس رجلا، بل هى أختنا. وروى الشابان للملك كيف لزمت الصمت لمدة سبعة أعوام. وقالا لها: هيا تكلمى! فقد نجونا.
حرَر الخدم الفتاة من قيودها وقالت الفتاة فى حضرة كل أفراد الشعب:
أنا عروس الملك وبسبب قسوة قلب حماتى تم قتل صغيرى. اصعدوا إلى سطح القصر واحضروا تلك العلبة وتحققوا إن كنت قد أنجبت كلبا أم طفل. فأرسل الملك خدامه لإحضار العلبة وعثروا بداخلها على عظام طفل صغير.
وعندئذ راح كل أفراد الشعب يصيحون:
فلتُرفع الملكة وصديقتها على المقصلة بدلاً من الفتاة! وهكذا تم إعدام العجوزتين شنقا، وعادت الشابة إلى القصر مع عريسها وصار أخواها كبيري رجال البلاط الملكي.
|