القاهرة 23 اغسطس 2022 الساعة 10:20 ص

قصة: إيليو فيتَورينى•
ترجمة: د. شيرين النوساني
ماتت ميركا وماتت خالتي وقريبتها وارتدينا السواد وأصبحنا أحرارا في ظل دكتاتورية جدي الذي أوشك على أن يصيبه البله. أصبحنا أحرارا فى التجول فى أرجاء المدينة الخاوية المكتظة بإعلانات الوفيات والتى علقت على أبواب منازلها الأشرطة السوداء. وأذكر أن تلك الأشرطة كانت ترفرف على أبوابها وكأنها أشرطة قبعات رجال البحرية. كان جدى يرسلنا لنقف أمام باب البلدية فى طوابير لشراء السكر والخبز والتبغ اللازم لغليونه. وكان الجنود يضربوننا فى بعض الأحيان ويداعبوننا فى أحيانٍ أخرى. فى كل يوم، بل فى كل ساعة كانت اللعنة تتزايد...
كنت أرى سيوف الملائكة اللامعة تتفجر فى سماء الطريق ولكننى كنت أعتقد أن الرب قد اصطفانا نحن الأطفال وأنه سيتركنا نكبر حتى نقيم معبد سليمان من جديد.
كنت أصغى إلى ركلات القصف فى المطبخ فى جنح الظلام. وكانت الكرات الخشبية الضخمة وأصوات الرعد الهادرة تعصف بألواح السقف وأجراس البيوت وأزاميل الأقفال المعدنية. وكنت أتساءل: ما هى طلقة المدفع؟
فكان يُخيل إلى أن فرسا سيخرج من داخله بعد انفجاره، فرساً أسود اللون ليس له رأس مثل فرس طفولتى الأخرى التى قضيتها فى سيراكوزا. كان يخرج من دقات الساعة عند منتصف الليل فيركض ويركض فى طرقات المدينة حاملاً فوق صهوته شبحاً فارع الطول.
خيول وأفراس بحر وأفراس كبيرة تدق الأرض بأقدامها فتقلب القراميد وتسقط ثم تنهض وتجتاز أحلامى من صوب إلى صوب بأصوات صهيلها الصارخ كأنه صوت صفارات إنذار. كان الليل يعج بها من أعلى السحب وإلى قيعان الآبار. وفى الصباح عند ذهابى لاحضار قدح اللبن، ويداى فى جيب ردائى، كنت أشاهد حطاماً تتصاعد منه الأدخنة فى الهواء وسط صمت مخيف فأخاله أوانى أو طاسات منسية فوق النار على كل الأرصفة بعد ليلة عربدة قضاها شعب يلوذ بالفرار.
وماتت أيضا الخادمة لوسَيا التى قصت علينا من قبل حكاية يوسف فى الجليد وأسطورة تريكورنو. هاجمها المرض فجأة بينما كانت تُعد لنا بعض الشرائح المشوية من لحم لا أعرف نوعه، قبيل العشاء. قالت أنها تشعر بدوار ولا ترى أحداً مع أن عينيها مفتوحتان ومصوبتان نحونا فلم نستطع أن نتمالك أنفسنا من الضحك. وتمددت على كنبتى ذات الخطوط الحمراء والصفراء وأخذت تتقيأ الكثير من الحساء التى تفوح منه رائحة البول المتعفن. ولهذا السبب كلما مررت على ميدان تصطف فيه عربات الحنطور، وخصوصا أمام محطات السكك الحديدية، تعود الرائحة فتقهرنى كساعتها، أى أنه لم يكن قهرا جسمانيا فقط. ثم إنها اضطرت لقضاء حاجتها بيننا لعجزها عن الذهاب إلى المرحاض. ولم يكن هناك إلا وعاء واحد فقط فبدأت القاذورات تتدفق منه شيئا فشيئا على الأرض فخجلت وراحت تشكو وتتساءل: ماذا أكلت..ما الطعام الذى أكلته فسبب لى كل هذا الألم؟ فتمتم جدى بقسوة: اذهبى إلى الجحيم. أراهن أنك اُصبت بالكوليرا وأنك تصارعين المرض.
وانتهى فى تلك الليلة آخر ما لدينا من شموع وكان التيار الكهربائى قد انقطع منذ فترة فكنا نسمع فى الظلام أصوات حشرجتها التى تعلو وتنخفض وكأنها دِلاء من ماء فى بئر. وقد احتمينا نحن الأطفال داخل مملكة رعاة البقر فوق كنبة بوريس. كانت تلك الأصوات تصلنا أحيانا من ناحية وأحيانا من ناحية أخرى. وكانت تقترب منا أكثر فى كل مرة وكأن لوسيا تطاردنا بموتها.
وصاحت ايميليتا مختنقة بالبكاء: أتسمع؟...اسمع، اسمع، إنها الآن فى ماتو جروسو.
وأضاف بوريس: هى الآن فوق كيمبوراسو.
فتمتمت أنا مرتعدا: نعم ويبدو لى أنها فوق فوهته تحديدا.
وعند الفجر رأيناها هادئة متجهة بوجهها نحو الحائط. فقال بوريس: إنها نائمة. ولكى نطمئن أنها نائمة ناديناها. فانتفض جدى وتساءل فى فزعٍ شديد: نائمة نوم عميق! من هى النائمة؟ ونهض بملابسه الداخلية واقترب منها وأخذ يهزها ثم قال: نوم ماذا؟ واضح أنها ميتة.
وسرعان ما أصبحت الجثة ملكا لنا فقد تركها لنا جدى نفعل بها ما يحلو لنا فقمنا بتغسيلها وألبسناها ثيابها ونحن مسرورين بتقليد ما كانت تفعله هى معنا من قبل. قمنا بتنظيف وجهها وبغسل يديها. وأصرت إيميليتا على غسل أسنانها أيضا بالفرشاة ودهنت لها وجهها بكريم وردى اللون وصنع لها بوريس إكليلاً من أوراق التين. وفى النهاية سحبنا جثتها إلى خارج البيت وجررناها على الكنبة إلى الشارع. كانت برودة الجو تسبب لنا ألما في أيدينا وأنوفنا، وأذكر أننا رغم ذلك قمنا بترتيل المزامير والأناشيد الدينية لوقتٍ طويل وأحرقنا مشاعل ضخمة من الورق أثارت فزع القطط، حتى مرت دورية عسكرية، كان كل جنودها سكارى، وهددونا بالاعتقال. فهربنا إلى داخل البيت ولم نعرف بعدها أى شىء عن جثة لوسيا.
أصبحت الكافيتريا والمخزن والمطبخ مرتعا لنا، فجدى لم يعد يهتم بنظام محتوياتها وتقبل الوضع الجديد التى فرضته عليه نزواتنا. وصارت إيميليتا هى المسئولة عن إعداد الطعام: خبز مقلى، حساء من التين وأعشاب طبية وصلصة من القهوة. وكنا نذهب أنا وابن خالى بوريس للصيد فى الفناء وأيضا فى المدينة، كنا نصطاد القطط والأرانب والدجاج المهمل. كنا ننهض ونخرج فى الصباح الباكر لكى نفاجىء القطط على جوانب الطريق وأدخنة الجليد تتصاعد من أيدينا، والرياح تصفر من فوق رؤوسنا. وكنا نصطاد الحيوانات بإلقاء الحجارة عليها وطرحها أرضاً أوكان آخر ديك يصيح من داخل عشش الفراخ متهللاً لرؤية أناس.
فى ذلك الحين تم الاكتشاف الكبير وكان بوريس هو صاحبه.، إذ اتجه هو نحو الشمال أما أنا فتوجهت نحو أحياء كاستيللو وسمعت صيحة نداءه يتردد صداها من جهة الميدان الكبير، فجريت نحو الشاطىء ظنا منى أن ابن خالى بوريس يتعرض للخطر على الضفة الأخرى للنهر الواسع. ولكننى وجدته جالساً على درج أحد المحال (وكان اسمه، على ما أظن، برنت، موبيليفيتشى) ينتظرنى، وعيناه تلمعان بسر كان يخفيه.
وقال وهو يشير بيده إلى شىء ما وراء كنيسة سانت انياتسو: أتعرف؟ وجدت مدافع هنا. وأخذنا نجرى كالفهود بخطى مسرعة. كانت فى الميدان ماكينتان للقهوة الإكسبريسو موضوعتين بين أشجار كستناء الهند وقاطرتان وسفينتان: مدافع؟ أترى؟ إنهم يطلقون نيران مدافعهم على الإيطاليين من هنا. وداعبنا الجرارين الناعسين واجتاحتنا رغبة جامحة فى تفكيكهما واكتشاف طريقة تصنيعهما، ثم انطلق صوت من بعيد ارتجت له الشمس والهواء وسقط شىء غريب بين أوراق الأشجار وكان شيئاً لامعاً، كأنه قرد أو مرجل.
أقبل شهر مايو علينا وكان قد مضى عام على بداية الحرب. وقد أدركنا هذا من تغريد الطيور وازدهار الأشجار ومن السحب التى تصطف فى السماء وكأنها أغصان أشجار تتحرك فى الهواء وكلها عادت من جديد. حتى الصغار لاحظوا عودتها واحتفلوا بها. وتحدثنا نحن عن عامنا الذى قضيناه فى الحرب واندهشنا من أننا لم نذهب إلى المدرسة لوقت طويل، وقتا طال حتى أثار فينا حزنا كحزن من انتهت إجازته. ولكن سرعان ما جاء الصيف بساعاته المشمسة التى تخلو فيها المدينة من الناس أكثر من القرية بسبب شدة القيظ التى كانت تطمأننا أن الإجازة مستمرة وأنها ستستمر على الأقل حتى حلول الخريف وموسم جمع العنب والأمطار وموسم جمع الكستناء كما تقول الأسطورة المدرسية الجميلة.
كان جدى يقضى أوقات فراغه فى الفناء، تحت شجرة التين، ويحدثنا عن مزرعته فى اوسلافيا ويقول: سأزرعها بأشجار التين وستصبح مزرعة غنَاء. فلا يوجد مكان فى العالم كله يضم ذلك العدد الكبير من أشجار التين مثل ذلك المكان الذى رأيته فى إحدى المرات فى صقلية. وأنا أريدها كصقلية وسوف ترون أى صقلية سيصنع لكم جدكم. ولم يكن جدى يتطرق قط إلى الحديث عن خاليَ المسافرين أو الميتين وكأنهما لم يعرفا الحياة أبداً وكان كل كلامه ينصب على أمى فقط وكأنه لم ينجب ابنة غيرها، وكانت هذه الابنة الغالية تتحول فى حديثه عنها إلى ملكة صقلية المتوجة.
أصبح جدى يعيش وحيدا ويصنع لنفسه وسائل راحته بيديه، وبأغرب الوسائل والطرائق، فأقام لنفسه حصنا صغيرا حول فراشه صنعه من الصناديق القديمة وصنع لنفسه غطاءً للرأس من الفرو يحميه من برودة الشتاء وكان يرتدى السجاجيد والخيام وفوق كل مكان من أماكن جلوسه على مائدة الطعام أو بجوار المدفأة كان يفتح المظلات فى الهواء. وكان هو أول من أشعل المدفأة فى فصل الشتاء باستخدام حشوات المراتب والأشجار المنهارة فى الفناء وبفحم الكوك الذى لا نعرف من أين جاء به، وكان يشتهى ما نُعد من طعام وليس لديه أى رغبة فى الخروج من البيت. وقد طالت لحيته بشدة لدرجة أننا أصبحنا نخاف من الاقتراب منه. أصبحنا نراه على أنه غول أو روبنسون كروز. وأصبحت ايميليتا تصر على مرافقتنا فى غاراتنا لتتحاشى البقاء معه بمفردها.
فاحتج بوريس وقال: إنه خطر...ماركو يضرب ولا يُميز...
فردت ايميليتا باكية: لا، ليس صحيحاً، ماركو يعرف تماماً أننى إيطالية.
كان ماركو هو مدفع إيطاليا وكان يحيط المدينة من فوق تل سان ماركو بقصفات بطيئة، قاطرات بطيئة تروح فتنفجر بعيداً كما لو كانت تدخل فى جسر من الحديد بصورةٍ مفاجئة. فضحكنا منها وقلنا لها: إنك حقا بلهاء! ومع ذلك كنا نأخذها معنا ونحن مسرورين لأنها كانت صاحبة أجمل جولات نقوم بها. كانت تصيح من الفرحة وتتعقب صرارات الليل وتقطف زهرات المشمش التى تنمو فى شقوق الطرق. لقد عشقتها فى الخفاء وعندما كان بوريس يقسم الدورية إلى قسمين من أجل إتمام الاستكشافات الكبيرة كنت أحرص دائما على اصطحابها معى وأشعر بسعادة حين ترتعش يدها الصغيرة كحيوان صغير وهى تلتف حول ذراعى.
وفى يوم من الأيام صعدنا إلى القلعة بعد أن قمنا بالطواف حول المدينة المهجورة التى لا يُسمع فيها صوت وطأة قدم، فالحياة فى طرقاتها أشبه بحياة الغابات والمراعى. ثم بدت أمامنا كل حشائش التل من وراء أسقف منازل الميدان الكبير. كانت الشمس ساطعة فى الأعلى والفراشات تملأ السماء ونادانا من بعيد شىء بدا كأنه هاتف سعيد. كنت أشعر بأن السعادة ستغمرنى وأنا أسير بين النباتات الحقيقية وحشائش الخشخاش ونبات العوسج وتسلقنا المنحدر فوصلنا إلى منطقة بها شمس هادئة أشرفت على المغيب. لم نلتق فيها بأى جندى حتى بدا لنا أن الحرب قد انتهت وكأننا أصبحنا فى مزرعة اوسلافيا. وما كنا نرى هناك غير سحب بنفسجية اللون تهبط بعيداً عن الجبال.
فهتفت إيميليتا: كيف تعلمت السحب أن تمشى على الأرض؟ فأجابها بوريس: إنها سحب معارك. ولكنه عجز عن القول ما إذا كانت تحارب فعلاً هى الأخرى أم لا.
كانت الشمس تغيب عن الحقول شيئا فشيئا، فتنسلخ بفعل الهواء أوراق أشجار الظل العريضة وتتساقط على الهضبة خلسة. ولكن زجاج القلعة ظل محتفظا ببريقه ولمعانه. ثم تصاعدت أصوات جاءت من ناحية الوادى وكأنها أبواق الصيادين فسألتنا ايميليتا: ما هذه الأصوات؟ فتملكتنى رغبة فى الرد عليها بأنه رولان ينادى على فرسانه ويطلب منهم النجدة. فى حين كنت أعرف فى الواقع حقيقة تلك الأصوات. وصرخ بوريس، وهو يثب فوق الحشائش وكأنه جدى صغير، قائلا: إنذار..أجراس إنذار. كان ذلك هو الإنذار الكبير، الذى طال انتظاره والخوف منه، والذى يعلن الهجوم المباشر على المدينة. ففى تلك الأيام كانت تصل رسالة كل شهرين أو ثلاثة أشهر تنبأ بأن الإيطاليين يستعدون للاستيلاء على جوريتسيا فتدق أبواق البلدية حتى يسرع المواطنون إلى المخابىء. أما نحن فقد كنا نرى هذه الأبواق مجرد هتافات كهتاف يحيا الوطن. وقلت لايميليتا: أراهن على أنهم سينتصرون هذه المرة. كنت أشعر بالفخر وأنا أسمع صوت نبضات قلبى تدق تك تك بداخل صدرى. واحتشدت طيور سوداء على أجراس الكنيسة. وارتفع هزيم بحر من جهة الغرب وتعالى صوته. وأخذ البحر يتصاعد فهمست لى ايميليتا قائلة: أنا خائفة. وأضاف بوريس: لابد أن نجرى بعيدا فلو بدأ الهجوم سيقضوا على كل شىء.
وهبطنا من التل إلى الشاطىء، وقد عدنا نضحك ونلعب من جديد. وأخذنا نقلد بخطوات ركضنا الصغيرة خطوات الخيول والذئاب والديوك. وكانت أبواب منازل المدينة تنفتح فى شارعى راستللو وموناكيه ويخرج منها بعض الناس. خرج بعضهم فى عجلة إلى الطريق وكانوا ينادون فى اتجاه النوافذ. خيم الظلام على المكان وازداد هزيم البحر فى التصاعد والاقتراب وارتدت الأمواج وانكسرت على نفسها من شدة تيارالهواء. وفى شارع دوجانا كان الناس يهرعون حاملين فى أيديهم المصابيح الصغيرة وكأنهم يخرجون من داخل الكنائس. وارتفع فى السماء مواء قطط كبيرة وانزلق بالقرب منا حيوان رخو ذو عينين لامعتين. فصاحت احدى السيدات : ابتعدوا يا أولاد. قال بوريس: إنه حيوان الشرانبل. وإلتفتت ايميليتا ورائها لتشاهده وسألت: هل لحيوان الشرانبل منقار؟
طراخ...طراخ...طرااا...حيوانات أخرى وحيوانات أخرى، حتى بدا أن الطريق قد اصطدم بالتل وأنه يسقط. هيا أسرعوا...هيا. كم كان شكل البلدية مضحكاً وهى قابعة وسط جبل من الجوالات. وكانت تلك المرة هى أول مرة ترى فيها ايميليتا مشهد كهذا فانفجرت فى الضحك. ما الذى كانت تحويه هذه الجوالات؟ سكر، قطن، كان من الطبيعى أن يكون اعتلائها واللعب فوقها لعبة رعاة البقر شيئاً رائعاً. ودفع بنا الحشد نحو سلالم المخابىء، التى كانت تنعكس عليها الظلال والأضواء الخافتة.
قال بوريس: نحن هنا تحت الأرض فخافت إيميليتا وقالت: تحت الأرض؟ لا، أنا لا أريد أن أبقى تحت الأرض. وأوشكت على البكاء. فقال لها بوريس: اسكتى أيتها البلهاء. يجب أن نبقى هنا فالإيطاليون قادمون ولكى يصلوا إلى هنا لابد أن يطلقوا النار أولا. وأضفت أنا: الحياة تحت الأرض جميلة. فرعاة البقر يبنون بيوتا كبيرة تحت الأرض ليختبئوا فيها عندما يهاجمهم الهنود الحمر. ورغم ذلك فقد تعجبت لوجود تلك المخابىء الضخمة تحت الأرض، وربما تكون مخابىء لا نهاية لها وقد تؤدى إلى آخر بلاد الدنيا. وربما كان من الممكن الذهاب من خلالها إلى أمريكا وإلى مملكة رعاة البقر، بشرط ألا يشعر الانسان بخوف وأن يستمر فى السير فيها. كم يوم يلزم للوصول إلى هذه البلاد؟ وكيف يمكن عبور المحيط؟ ولكن ربما لا تكون هناك محيطات تحت الأرض. وبدا لى أكثر غرابة أن يقوم الكبار، الرجال الحقيقيون مثل أبى، بحفر كل هذه المخابىء...يالها من فكرة! وبكت إيميليتا وقالت: ولكنى لا أريد أن أبقى هنا فى الظلام. فرد عليها بوريس فى غضب: لابد أن نبقى هنا. فكرات النار هذه لو رأت نوراً ستدخل هنا وتحرقك. هل تريدين أن تحترقى؟
وبدا أن إيميليتا اقتنعت بكلامه. وأمسك كل منا بيد الآخر ورحنا نجلس بالقرب من أناس كانوا يحملون شموعا مشتعلة فى أيديهم. وكانوا يروون أحداثا عجيبة. قالوا إن قنبلة قد سقطت فقتلت جدتهم فى التو واللحظة وهى جالسة إلى ماكينة الخياطة. وكنا نرى أنه أمر عجيب أن يموت شخص وهو يحرك هذه الألة العجيبة. واتسعت عيوننا من الدهشة عندما تحدث آخرون عن انفجار قنبلة أخرى فى مقهى المسرح، إذ كان من المعروف أن هذا المقهى يتردد عليه بعض الناس ويكون مغلقاً عليهم فكيف لقنبلة أو حتى لشرانبل أن يدخل المقهى؟ وبعد ذلك تحدث رجل يضع نظارة على عينيه عن عملية الهجوم الجديدة وقال الجميع إن الإيطاليين سينتصرون فى هذه المرة وأنه ينبغى عليهم أن يحققوا انتصارا سريعا، فيما لا يزيد عن مدة يوم، إذا أرادوا لجوريتسيا أن تظل صامدة.
وفى تلك الأثناء كان الضجيج يتزايد فى الخارج: أبواباً من حديد تخبط بقوة وأجراساً تنهار فتدوى أصواتها فى الهواء وقاطرات تهوى من على الكبارى وأقفال تُخرق على حينِ غرة وكأن هناك عمالقة يتصارعون فى الطرقات. أيكون الإيطاليون وصلوا فعلا؟
.. يتبع
• إيليو فيتورينى (23 يوليو 1908- 12 فبراير 1966) ولد إيليو فيتورينى فى مدينة سيراكوزا بجزيرة صقلية عام 1908 وهو أحد كبار الروائيين الإيطاليين التى عرفتهم ميلانو فى العصر الحديث والذين اعتمدوا على موهبتهم فى تحصيل المعارف. كان فيتورينى مسئولا عن احدى السلاسل الروائية التى تصدرها كبرى دور النشر فى ميلانو ، دار نشر موندادورى.
عمل فيتورينى فى الصحافة الأدبية فى العهد الفاشيستى ولكن الفاشيون قاوموه ومنعوا نشر بعض أعماله حرصا منهم على اقتصار دور الأدب على معالجة القضايا الإقليمية وعدم الانفتاح على التيارات الفكرية والأدبية التى تولى اهتماما لقضايا الانسان بوجه عام.
ومن أشهر رواياته رواية "حديث فى صقلية" عام 1941، وتعد من عيون الأدب الإيطالى فى القرن العشرين، ورواية "رجال ولا رجال" عام 1949، و"نساء مسينا" عام 1949، وغيرها. وقد تمت ترجمة رواياته المتعددة إلى لغات كثيرة فى الغرب، كما أنه هو نفسه من كبار المترجمين عن اللغة الانجليزية. وتوفى الأديب الراحل فى مدينة ميلانو عام 1966.
|