القاهرة 16 اغسطس 2022 الساعة 08:52 ص
كتب: صلاح صيام
ازدهر في أوائل القرن الماضي فن من فنون الأدب وهو فن الرسائل الأدبية، وكانت الرسالة قطعة أدبية لأن الأديب يكتبها وهو في حالة صفاء ذهني فتخرج العبارات أنيقة غاية في التجويد والاتقان، وأبسط تعريف للرسالة الأدبية أنها عبارة عن نص نثري سهل يوجه إلى إنسان مخصوص، ويمكن أن يكون الخطاب فيها عاما فهي صياغة وجدانية مؤنسة، وللأسف فإن هذا الفن الجميل فقد بريقه وأوشك علي الاندثار بسبب التقدم المذهل في وسائل الاتصالات الحديثة من حاسب آلي وإنترنت ومحمول وغيرها.
وللأسف أيضا إن ما نشر من رسائل الأدباء يعد ضئيلا مقارنة بما لم ينشر، لأن تلك الرسائل تحتوي على أسرار لا يجوز إفشاؤها لما يسببه نشرها من حرج لمرسلها علاوة على أن معظم الأدباء يرون أن نشر المؤلفات وتدبيج المقالات أهم من نشر الرسائل التي قد تجلب عليهم بعض المشكلات مع أصدقائهم ولا تعود بالفائدة على القارئ، وهناك من يطالب بإعدام الرسائل الأدبية باعتبارها أوراقا خاصة، من هذا الفريق وديع فلسطين الذي يقول: "مذهبي الذي لا أريد أن أغيره أن البريد الأدبي حتى وإن تناول شئونا أو شجونا عامة، فهو في النهاية مكاشفة شخصية بين صديقين لها خصوصيتها الحميمة الذي لا يسعني تجاهها إلا الدعوة إلى طي هذا البريد ودفنه بإكرام".
وهناك من يرى خلاف ذلك مثل نقولا يوسف الذي يقول: "لست من القائلين بإعدام هذه الرسائل باعتبار أنه لم يقصد بها النشر فهي بعض من آثاره لا يقل قيمة عن ملابسه المحفوظة في المتاحف مثلا ومازلت أرى في نشر ما لدي من رسائل الأدباء فوائد أدبية للدارسين والنقاد والقراء جميعا".
ومن أشهر الرسائل الأدبية في العصر الحديث، الرسائل المتبادلة بين الأستاذ مصطفى صادق الرافعي وتلميذه محمود أبو ريه، فقد امتدت المراسلة بينهما أكثر من عشرين عاما في الفترة من 1912حتى 1924، وقد عهد "أبو رية" بعد رحيل أستاذه إلى نشر تلك الرسائل في كتاب بعنوان "من رسائل الرافعي" صدرت طبعته الأولى عام 1950، ثم أعيد طبعه عام 1969 بعد أن أعاد ما حذفه في الطبعة الأولى من عبارات جارحة كان قد كتبها الأستاذ الرافعي في بعض حالات ضيقه وتبرمه من الناس والحياة، وقد أحسن "أبو رية" صنعا حينما طبع تلك الرسائل الثمينة في كتاب حفظها من الضياع أو الاندثار فبقيت شاهدا على بلاغة وأسلوب الرافعي الذي أفاض في الحديث عن أسرار حياته وأحوال معيشته ومؤلفاته المطبوعة والمخطوطة
ويعتبر جبران خليل جبران من الأدباء الذين أثروا فن المراسلة عند العرب بما تركه من رسائل لفتت نظر الباحثين وأثارت فضولهم فولجوا عبرها إلى عالم جبران المليء بالرموز والأسرار، لقد فتح جبران فتحا جديدا ورائعا في دنيا الأدب العربي عندما تحول من التأليف بالعربية للتأليف بالإنجليزية، وقصته مع مي زيادة مثال رائع للحب الفريد في تاريخ الأدب وسير العشاق، ومثال للحب النادر المتجرد من كل ما هو سطحي ومادي، لقد دامت هذه العاطفة بينهما زهاء عشرين عاما دون أن يلتقيا إلا في عالم الفكر والروح والخيال الضبابي فكان جبران في مغارب الأرض مقيما، وكانت مي في القاهرة، لم يكن حب جبران وليد نظرة فابتسامة فسلام فكلام، بل كان حبا نشأ ونما عبر مراسلة أدبية طريفة ومساجلات فكرية روحية ألفت بين قلبين وحيدين وروحين مغتربين ومع ذلك كان أقرب قريبين وأشغف حبيبين.
جبران عشق مي 20 عاما على الورق ومصطفى صادق الرافعي كشف أسرار حياته وتلميذه نشرها كاملة
فمن إحدى الرسائل المتبادلة بينهما رسالة مي لجبران:
جبران
لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتخير كلمة الحب، إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية رهيبة.
ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به؟ ولكنى أعرف أنك محبوبي وأنني أخاف الحب أقول هذا مع علمى بأن القليل من الحب كثير.. الجفاف القحط واللاشيء بالحب خير من النذر اليسير كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا. وكيف أفرط فيه؟ لا أدري. الحمد لله أنني أكتبه على ورق ولا أتلفظ به. لأنك لو كنت حاضرا بالجسد لهربت خجلا بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمنا طويلا، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى.. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحيانا لأني بها حرة كل هذه الحرية
رد جبران على رسالة مي:
ما ألطف قول من قال
يا مى عيدك يوم.. وأنت عيد الزمان
ما أغرب ما تفعله كلمة واحدة فى بعض الأحيان. إنها تحول الذات الخفية فينا من الكلام إلى السكوت، تقولين أنك تخافين الحب؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مد البحر؟ أتخافين طلوع الفجر؟ أتخافين مجئ الربيع؟ لماذا يا ترى تخافين الحب؟
أنا أعلم أن القليل في الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني، أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل نحن نريد الكمال.. الكثير، كل شيء لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة.
ومن النماذج الأخرى رسائل محمد كرد علي إلى الأب أنستاس ماري الكرملي حققها وعلق عليها الأستاذ حسن محمد العجيل ورسائل بدوي الجبل نشرها صديقه أكرم زعيتر ومن رسائل العقاد نشرها محمد محمود حميدان ورسائل الخليل وهي الرسائل التي تلقاها من بعض أدباء عصره نشرها نجله عدنان مردم ورسائل بدر شاكر السياب نشرها ماجد السمادائي ووثائق من كواليس الأدباء نشرها توفيق الحكيم.
والحقيقة أن الرسائل المتبادلة بين الأدباء والشعراء والمثقفين ذات قيمة تاريخية فهي تعد من وجهة نظر المؤرخين من المصادر المهمة في كتابة التاريخ وحبذا لو اهتم الشباب بمثل هذه المصادر من خلال جمعها وتوثيقها ودراستها.
|