القاهرة 29 يونيو 2022 الساعة 01:37 ص
د. هويدا صالح
إن العلاقة بين التاريخ والموروث الشعبي ودور كل منهما في تفسير الظواهر التاريخية وفهمها، وصورة مصر في الأساطير العربية، وكيف نظر إليها المؤرخون هو ما يطرحه كتاب " مصر في الأساطير العربية، دراسة في كتابات الرحالة والمؤرخين المسلمين" للباحث عمرو عبد العزيز منير والذي صدر مؤخرا عن المجلس الأعلى للثقافة المصرية. ثمة مقولة مركزية في هذا الكتاب وهي أن مصر نشأت مع خطوات التاريخ الأولى، والباحث في الميثولوجيا والتاريخ الأنثربولوجي لمصر يدرك أن لها مكانة كبيرة في الأساطير العربية. يحاول عمرو منير أن يثير التساؤلات، بل يحاول أن يكرس لوعي جديد، أو استعادة الوعي كما أشار في المقدمة، بأهمية مصر في التراث الحضاري، وهي دراسة تصدر عن رؤية تلتمس في الماضي التفسير الشعبي للتاريخ، أو ما يمكن أن نسميه بـ (البعد الثالث) للدراسات التاريخية؛ أي التفسير النفسي والوجداني ورؤية الجماعة الإنسانية لذاتها وللكون والظواهر والأحداث من حولها.
يقدم للكتاب الباحث العراقي فاضل الربيعي، والباحث المصري عبده قاسم، ويكشف كلاهما عن رؤيته لوضعية مصر في الأساطير العربية ،بل ويؤكدا على العلاقة الملتبسة والجدلية بين الموروث الشفاهي أو ما يسمى بالفلكلور والتأريخ، كفعل توثيقي للأحداث.يرى فاضل الربيعي أن قمة تأمل يجب أن يحدق لإشكالية التاريخي والإسطوري في ثقافتنا العربية المعاصرة، وكأنها إشكالية ثقافية خاصة بنا- نحن العرب- وحدنا دون سائر الأمم، وأننا – وحدنا- من يخلط التاريخي بالأسطوري في الروايات القديمة، ويفشل في التمييز بين بنى ومستويات السرد التقليدي، وهذا محض انطباع خاطئ. الأمر يتعلق من وجهة نظرنا في إخفاق مناهج وأدوات المدرسة الأنثروبولوجية القديمة التي اعتمدناها في دراسة ثقافتنا القديمة، وفشلها في تقديم حلول عملية لهذه الإشكالية .. وقد يكون أمرا ً مفاجئاً لأتباع المدرسة الاستشراقية التي لا تزال مهيمنة وسائدة في الثقافة العربية، أن يشاهدوا محاولات عربية جريئة، تصدر من هنا وهناك، لاقتحام أسوار مدرستهم وتحديها بتقديم منظور جديد، يعيد رواية تاريخ العرب بصوته الخاص لا بصوت المستشرقين".، وثمة فرضية أخرى يطرحها الباحث عن الأدب الشفاهي العربي وهي أنه لم يلاقَ بالقيمة الفنية الاعتبارية اللائقة به على المستوى الرسمي، وظلَّ، بعد معرفته الطويلة، مهمشاً ومنبوذاً، وبعيداً عن التناول والدرس، والبحث والتقصي لأسباب عديدة، في طالعها: عدم اهتمام أولي الأمر، الولاة والأمراء، والملوك، وأصحاب الأدب.. به لأنهم جميعاً عدّوه أدباً للعامة، يحتفي بالصعاليك، والشذّاذ، والجواري والقينات، والمعارك الوهمية، وطقوس السحر والشعوذة، وفنون الاحتيال والمداورة، والتشاطر الكاذب (من الشطارة)، وبالحكايات التي لا تؤهلها خرافاتُها أن تدوّن وتسجل في القراطيس، ومن ثم لأن منشئي الأدب الشعبي كانوا يحتفون بالسجع، والترادف، والتوازن، والإطناب، والتطويل، والالتفات، وبصياغات بعيدة عن نهج البلاغة العربية، ومن بعد هذا كله لأن مصنفي الأدب العربي وناسخيه عدّوا الأدب الشعبي بلا قيمة أحياناً لما فيه من سلوكيات وأساليب بعيدة عن الأخلاق وتوجهاتها، وأحياناً لأنه يدور في عوالم الخيال والإضافات كالغولة، والعفاريت، والبحور السبعة،.. الخ. وإضافة إلى ما سلف اقتنع مصنفو الأدب العربي أن الكثير من الأدب الشعبي أدبٌ وظيفي- شفهي، حاضنته الأساسية، بل موزعته الأساسية هي الجدات اللواتي ابتدعن الخرافات، والحكايات من أجل السمر في الليالي، وهدهدة الأطفال وتخويفهم حصراً من الليل والعتمة.لذا يعمد الباحث إلى أن يتلمس خيطاً أو عقداً فريداً يربط فصولها. إذ أنها تعالج فكرة محددة فحواها أن التاريخ والموروث الشعبي وجهان متوازيان يفهم أحدهما بواسطة الآخر مما يسر على الباحث أن يتخذ المنهج التاريخي والتحليلي في رصد الأساطير والحكايات الشعبية والخرافية في كتابات الرحالة والمؤرخين القدامى وما نفذ إلى النصوص المتعلقة بمصر من مضامين فكرية ذات محتوى أسطوري موروث من المرحلة الغيبية السابقة التي كانت تشكل أراء التاريخ وموضوعاته على الرغم من صياغتها صياغة تاريخية فنية على يد الرحالة والمؤرخين إلا أن أصولها لم تستغلق مستفيداً من أشتات المعلومات الدينية والتاريخية الممزوجة بالحكايات الشعبية والخرافات والأساطير المتناثرة عن مصر في بطون الكتابات التاريخية والجغرافيَّة.
ويرى عبده قاسم أن أهمية الدراسة تكمن في أنها الدراسة الأولى التي بحثت في منطقة الحدود بين التاريخ والموروث الشعبي . وفي هذه الدراسة يقارن الدكتور عمرو بين القراءة الأكاديمية العلمية للتاريخ والقراءة الشعبية للتاريخ. وفي هذه الدراسة الفريدة في بابها أظهر عمرو منير موهبة وقدرة تنبئ بباحث واعد في مجال ما يزال جديدًا إلى درجة البكارة . ويشير في المقدمة إلى وضعية مصر في أنها ومنذ أن جاء الإسلام تصحبه اللغة العربية ؛ امتزج ما جاء به الإسلام بتراث مصر العريق . ولم يتنكر العلماء والباحثون المسلمون لتراث مصر القديم – كما يفعل بعض السفهاء اليوم بزعم أنه تراث وثنى – وإنما انبهروا به وتبنوه ، وأظهروا إعجابهم بالحضارة المصرية القديمة ونسجوا حولها الأساطير التي أضافوها إلى رصيد مصر الثقافي ، ولأن الأساطير تحمل الذاكرة الاجتماعية وتعبر عن العقلية التي صاغتها فقد كان طبيعيا أن نجد في الأساطير العربية التي حملتها كتب المؤرخين المسلمين أصداء تتعلق بأرض مصر ، ونيلها واصول شعبها ، ورؤية المصريين لأنفسهم. ومن الواضح أن العرب الفاتحين قد بهرتم مصر مثلما بُهر بها الغزاة من فرس وآشوريين ويونان ورومان، وهذا ما انعكس في كتابات الرحالة والمؤرخين، مؤكدًا أن الأساطير والحكايات المرتبطة باسم مصر كالنهر لا تكف عن السريان التنازع على نسبة أصول المصريين سواء إلى الحاميين، أو اليونانيين، أو العرب.
ولقد اتخذت الدراسة من (مصر) محوراً بوصفها نموذجاً طيباً يمثل العنصر الثابت – نسبياً – في أركان العملية التاريخية (المكان) فضلاً عن أنها اكتسبت في مخيلة الرحالة و المؤرخين والكُتاب أبعاداً ودلالات اقتربت من الأسطورة والخيال , وأخذ هذا التصور يتمتع في تلك المخيلة بصفة تكاد تكون "نمطية " تنطوي على الصدق حيناً , وعلى الكثير من التصورات والأوهام الغامضة في أحيان أخرى , ولعل هذه التصورات التي راحت تتضخم عبر العصور هي التي اجتذبت باقة من أعلام الشرق والغرب ؛ أدباء ومؤرخين وفلاسفة ورحالة وشعراء وغيرهم. فأقبلوا بأقلامهم وريشاتهم مشوقين إلى روائع الماضي في مصر, بما تحمله من دلالات جغرافية وتاريخية تمثل نمطاً فريداً مفعماً بالعلوم والفنون والسياسة والحكم, ومحوراً للعلاقات القائمة بين أفريقيا وآسيا.. بين أوروبا والشرق بين ذاكرة الماضي والواقع الفعلي ومسرحاً لأهم الأحداث التاريخية العالمية.
هذه الدلالات كلها كانت الأرضية التي استند إليها عمرو منير في عرض مبادئ الدراسة الموزعة على تسعة فصول رئيسية ومقدمة؛حيث أُفرد الفصل الأول للحديث عن أبعاد العلاقة بين التاريخ والأسطورة, وأوجه الائتلاف والاختلاف فيما بينهما, وعرضنا لتعريف كلٍّ من التاريخ والأسطورة ومدلولهما , وجاءَ الفصلُ الثاني منها عن الأساطير والحكايات المرتبطة بأصل اسم مصر , وأصول المصريين أنفسهم, وما حملته تلك الحكايات الخيالية عن اعتزاز المصريين ببلادهم ,وعن تنازع نسبة أصولهم إلى الحاميين , أو اليونانيين أو العرب والكشف عن أن هذه الاتجاهات الثلاثة في "الموروث الشعبي" كان يرضي حاجة ثقافية/اجتماعية لشرائح بعينها في المجتمع المصري آنذاك .
وخُصصَ الفصل الثالث لعرض المادة الفولكلورية التي تدور حول "فضائل مصر " باعتباره نوعاً من التأليف نشأ بداية من القرن الثالث الهجري جمع بين التاريخ والأساطير والموروث الشعبي ,وكان إفرازاً للتفاعل القائم بين ما جاء به الإسلام , واللغة العربية , والموروثات الثقافية المحلية في كل مصر من أمصار دار الخلافة . أما الفصل الرابع فيتناول الأساطير والحكايات التي تناولت الحضارة المصرية القديمة وإنجازاتها والتي تشي بمدى إعجاب أصحاب هذه الحكايات وجمهورهم بإنجازات الحضارة المصرية القديمة التي بقيت رغم عوادي الزمن.وتم تخصيص الفصل الخامس للحديث عن الأساطير والحكايات التي تناولت الدفائن والكنوز المصرية القديمة وفراعنة مصر . والتي كان الحديث فيها عن الكنوز يحمل بعضها ثمة من الحقيقة, علي حين حمل البعض الآخر رائحة المبالغة. كما حاولنا أن نكشف عن صورة ملوك مصر القدامى التي تاهت في كتابات الرحالة والمؤرخين التي حفلت في بعض موضوعاتها بالخيال الواسع .وعرض في الفصل السادس لأساطير أصول المدن المصرية القديمة , بما تحويه من أخبار العجائب والغرائب والذي يدل على مدى إعجاب الرواة وانبهارهم بانجازات الحضارة المصرية القديمة وهو الأمر الذي بدا واضحاً من خلال تلك القصص الخيالية عن الأعمال الإعجازية لملوك مصر القديمة .
أما الفصل السابع جمع بين الحديث عن عمران مصر وما دار عنه من حكايات شعبية إضافة إلى الحديث عن العجائب الموجودة على أرض مصر على نحو يكشف عن حجم الخيال الذي غلف تاريخ مصر وتكشف عن عجز الرواة عن الوقوف على تاريخها الحقيقي والتي كانت تحاول أن تقدم إجابات "تاريخية " عن حضارة تليدة مضت ولكن آثارها مازالت ماثلة أمام عيون الناس ,والتي تنسب الكثير من منجزات هذه الحضارة إلى أعمال السحر والخوارق . بيد أن بعض هذه الحكايات كانت تحمل ظلاً, أو نواة من الحقيقة التاريخية في غالب الأحوال. في حين أن الفصل الثامن الأساطير والحكايات التي تناولت النيل ومصادر المياه في مصر. حيث أحب المصريون بلادهم وعشقوا نيلهم, وصاغت أساطيرهم وحكاياتهم الشعبية هذا الحب وهذا العشق صياغة جميلة ومثيرة. أكدت أن حياة المصريين ووجودهم اعتمدت على النهر النبيل اعتماداً مطلقاً, وأن إحساسهم بهذا كان كبيراً للغاية. وأُفرد الفصل الأخير عن الموروث الشعبي المتعلق بالشخصية المصرية التي ظلت عرضة للأخذ والرد وتضارب الآراء والتحليلات عند المؤرخين عبر عهود مختلفة والتي جاءت كتاباتهم متسمة ببعض المبالغة أحيانا والواقع أحيانا أخرى . وتلك هي مفردات الخطة التي اهتديت إلى وضعها آملاً أن تكون مستوفية موضوع الدراسة من الجوانب كافة ,ومتكفلة بتحقيق النتائج المرجوة لي في هذا المجال, وهى أيضاً خطوة لا تخلو من نقص ضروري, يدعوني إلى المزيد من الحرص على البحث, والتنقيب والتأمل والتسلح بطموح ورغبة في الفهم والتساؤل.
اتسمت لغة الكتاب بالسردية الفنية التي تجذب القارئ وتجعله مقبلا على قراءة عمل يبحث في تلك المساحات الملتبسة بين الأدب الشفهي والأساطير في مقابل التاريخ كوثيقة رسمية مدونة، وربما هذا ما نحن بحاجة إليه من إعادة النظر في هذا الموروث من الأدب الشفهي والأساطير لنكمل فراغات التاريخ والمسكوت عنه فيه، انطلاقا من مقولة أن التاريخ يكتبه المنتصرون، وأن تاريخنا القديم والحديث هو تاريخ الحكام والملوك فقط، لكن تاريخ الشعوب الحقيقي نستطيع أن نكتب ونملأ فراغاته من الأساطير. علينا أن ندرس الأساطير وغيرها بروح الباحث النزيه المريد للحقيقة، القادر على التدبّر واكتشاف ما بين السطور، ولن يكون ذلك للباحث إلا بعد أن يؤمن أولا بفكر أولئك الأوائل وعقلانيتهم ويُسلّم أنّ ما بين يديه هو صورة من نتاج الفكر الإنساني، ويعتقد ثانيا بأنّ الفكر الإنساني ذات طبيعة واحدة ويمتلك نظام صياغة واحدة .