القاهرة 22 يونيو 2022 الساعة 01:36 ص
د. هويدا صالح
إن الربيع واعتدال الجو، كان مما يدفع المصري القديم إلى الاحتفال، الفرح بمجيئ النسمات العليلة، التي لا تشفي الأجساد فقط، بل تشفي الأرواح أيضا، فبدخول الربيع من كل عام، حيث يتساوى الليل والنهار، ويعتدل الجو فلا هو كبرد الشتاء القارس ولا حر الصيف الخانق يخرج المصريون إلى الحدائق العامة، حاملين معهم طعامهم الذي يتكون غالبا من: "بيض" و"فسيخ" و"بصل أخضر" وكان المصري القديم يعتقد أن له قوة شافية من كثير من الأمراض هو والثوم. وثمة أسطورة وردت في بردية من البرديات تحكي عن طفل أحد الملوك أصيب بمرض غامض، فوضع له الكاهن ثمرة بصل تحت رأسه، فقام في الصباح يلعب بجد ونشاط، مما كرّس للقوة الشفائية له.وكذلك "الملانة"( حمص أخضر)و"الخس"الذي عُرف ابتداء من الأسرة الفرعونية الرابعة حيث ظهرت صوره من سلال القرابين التي يقربونها لآلتهم بورقه الأخضر الطويل وعلى موائد الاحتفال بالعيد، وكان يسمى الهيروغليفية (حب) كما اعتبره الفراعنة من النباتات المقدسة الخاصة بالمعبود (من) إله التناسل، ويوجد رسمه منقوشا دائما تحت أقدام الإله فى معابده ورسومه. أجريت أبحاث في العصر الحديث على نبات الخس، وأثبت علماء سويديون أن ثمة علاقة بين الخس والخصوبة الجنسية، وأن زيته يزيد من القوة الجنسية لاحتوائه على فيتامين (ه) بالإضافة إلى بعض هرمونات التناسل وما تيسر لهم من خضروات تتنوع ما بين"الجرجير" و"البقدونس" وغيرها.
يخرج المصريون إلى الحدائق العامة للاحتفال بعيد شمّ النسيم الذي يأتي غالبا بعد أعياد"القيامة" و"أحد السعف" أو"أحد الشعانين" للمسيحيين. ويربط كثير من العامة بين عيد الربيع أو"شمّ النسيم" والأعياد المسيحية، ولا يدركون أن عيد الربيع لا يتربط دينيا أو عقديا بالديانة المسيحية إنما هو عيد مصري قديم احتفل به المصريون القدماء منذ آلاف السنين،حيث كانت ترتبط معظم أعياد الفراعنة بالتغيرات في الطبيعة والظواهر الفلكية، فبالنسبة للمصري القديم هذا العيد يعبر عن فرحته بدخول هذا الفصل المعتدل، حيث يتساوى فيه الليل والنهار وقت حلول الشمس في برج الحمل. ويأتي حسب التقويم المصري القديم في أواخر شهر"برمهات"، الذي وصفه المصريون في مثل شهير ما يزال فلاحو مصر يرددونه حتى يومنا هذا، حيث تجد فلاحة مصرية تعبر لك عن فرحتها بدخول شهر "برمهات" قائلة بفرح:"برمهات روح الغيط وهات من كل الحاجات" وتأتي كلمة الحاجات في نهاية المثل لتحدث جرسا موسيقيا يسهل حفظ المثل، فالحاجات التي يأتي بها المصري من "الغيط" أو الحقل هي كل ما تجود به الأرض المصرية من خضروات وفاكهة تنضج ويحين وقت قطافها في "برمهات" بداية دخول فصل الربيع، حيث يعتقد المصري القديم أن ذلك اليوم، هو أول الزمان وبداية الخلق.وتأتي التسمية الحديثة"شمّ النسيم" من الاسم المصري القديم"شموش" أي بعث الحياة، وتغير الاسم مع مرور الزمان إلى"شمّ"، ثم أضيفت إليه كلمة النسيم، أي الهواء اللطيف الذي يصاحب فصل الربيع.
الاحتفال الرسمي بعيد الربيع
احتفل المصريون القدماء بعيد الربيع منذ عصر ما قبل الأسرات، حيث قسّم المؤخرون عمر الحضارة المصرية إلى مرحلة ما قبل الأسرات، ثم الدولة القديمة التي بدأت بنشأة الأسرات الحاكمة الفرعونية، ثم الدولة الوسطى،وأخيرا الدولة الفرعونية الحديثة، لكن بدأ الاحتفال به رسميا في عام 2700 ق.م.
ومن خلال الرسوم والنقوش على جدران المعابد وبعض البرديات نتعرف على طريقة الاحتفال بالعيد، ومن المثير للدهشة أن هذه المظاهر لا تختلف كثيرا عما يفعله المصري في عام 2017، حيث توضح الرسوم جماعات من المصريين القدماء يخرجون إلى الحدائق والحقول والمتنـزهات في جماعات؛ ليكونوا في استقبال الشمس عند شروقها، وقد حملوا سلالا مصنوعة من الخوص وسيقان نبات البردي وسعف النخيل مملوءة بالأطعمة التي كانت عادة تتنوع بين السمك المجفف(الفسيخ) والطازج، وغالبا يميل الناس للسمك المجفف؛ لأنه يتوافق مع اعتقادهم في الرجوع بعد الموت؛ ليجدوا طعاما قادرا على الصمود حين رجوعهم، وهذا ما لا يحققه السمك الطازج. كذلك البيض المسلوق والنباتات العشبية الخضراء. وكانوا يلونون البيض بألوان طبيعية مثل وضعه في منقوع ورق البصل ليعطي اللون الأحمر، ومنقوع بعض الزهور الصفراء والبنفسجية ليعطي ألوان تتنوع ما بين الأصفر والبنفسجي والبرتقالي. وقد ورد وصف لطريقة تلوين في بعض البرديات يؤكد على الحرص على استخدام الزهور غير السامة في التلوين حتى لا تنتقل السميات إلى البيضة عبر الطبقة الكلسية التي تتجمد بالحرارة، وهذا لا يختلف كثيرا عن الأبحاث الحديثة التي تؤكد أن الطبقة الكلسية تسرب للبيض ما يتم سلقه فيه.
كانت الفتيات المصريات تتزين في هذا اليوم حسب حالتها الاجتماعية، فالفتيات اللاتي ينتمين إلى طبقات أعلى أو أكثر ثراء كن يرتدين ثياب من الكتان الذي يتمّ تبييضه مع وضع عقود من زهور اللوتس البنفسجي وزهور الرمان الحمراء النارية حول العنق والذراعين، ويلبسن أحذية مذهبة بأشرطة ذهبية أو فضية حسب القدرة الشرائية للأسرة التي تنتمي إليها الفتاة. أما بنات الفقراء، فكن يرتدين أنسجة أقل قيمة من الكتان، وإن كانت البرديات أظهرت أن زوجة الحاكم أو الفرعون كانت تهدي للنساء أثواب الكتان في بعض الأعياد المحلية ، مثل عيد جلوس الحاكم على العرش أو أعياد الآلهة التي تختلف وتتنوع حسب كل مدينة أو قطر أو بلد.
ويحمل الفتيان والصبية أعواد السعف وسنابل القمح المجففة، حيث كان يحفظ القمح في أعواده بعد الحصاد، ويظل طوال العام يأخذ المصري حاجته من القمح المحفوظ في السنابل حتى لا يفسد أو يهلكه السوس والحشرات القارضة.
الاحتفال بالموسيقى
تعزف الفتيات والفتيان الموسيقى على آلات مصنوعة من منتجات البيئة ومن جلود الحيوانات وأمعائها الدقيقة، فنجد العازفين والعازفات يعزفن الهارب وهو آلة وترية تصنع أوتارها من أمعاء الحيوانات،وصناعة الأوتار لبعض الآلات من أمعاء الحيوانات مستمر حتى الآن، فالعود المصنوعة أوتاره من أمعاء طبيعية هو أغلى ثمنا من العود المصنوعة أوتاره من مواد بلاستيكية مصنعة. كذلك يعزفون على الناي والأرغول اللذين كانا يصنعان من أعواد اللوتس الجافة، كما كانت الفتيات يعزفن على مزاهر إيزيس وهي آلالات جرسية.ويغنون أناشيد الربيع الخاصة، وبعد الانتهاء من العزف يلعبون المباريات الرياضية الفردية والجماعية.
ويعتبر المصري القديم أن عيد الربيع هو عيد طهارة القلوب، حيث يتصالح المتخاصمون، ومن يريد أن يصالح جاره كان يقدم إليه في هذه المناسية فطيرة مزينة بالفواكه والزهور عربون المحبة والمصالحة.
ولم يكن العامة فقط هم من يحتفلون بشمّ النسيم، فقد دأب الملوك، حسبما ورد في البرديات الفرعونية على الاجتماع أمام الواجهة الشمالية للهرم الأكبر؛ليشهدوا غروب الشمس، فيظهر قرص الشمس وهو يميل نحو الغروب مقتربا من قمة الهرم، حتى يبدو للرائي أن قرش الشمس يقف على قمة الهرم.
.
ويرتبط بشمّ النسيم عادة وضع الكحل في العيون، وهي عادة مصرية قديمة أيضا، حيث تأخذ المرأة المصرية حجر الإثمد وهو حجر فضي اللون، يتم سحقه في مدق من النحاس أو الخشب، مع خلطة من عرق الذهب وحجر "الشبّة" وسكر النبات وجوزة الطيب، ويخلط الخليط، ويصفى بقطعة من الشاش الأبيض المصنوع من الكتان، ثم يوضع في مكحلة،تصنع من النحاس أو البللور أو الزجاج، ويصنع لها غطاء على هيئة مرود يتم التكحل به، ويتنوع ما بين اللون الأسود واللون الأخضر.
وكان المصري يعتقد أن للكحل فوائد طبية في حماية العين من أمراض الربيع، أو ما يُسمّى حديثا بالرمد الربيعي، فيصبح للكحل فائدة علاجية؛ ليضمن قوة الإبصار ويُشفي من أمراض العيون التى كانت منتشرة في مصر القديمة؛ فالكحل لا يحفظ العين فقط، بل يقوي بصيلات الأهداب، فيحفظ الرموش فتطول أكثر، وبذلك تزداد قدرتها في حفظ العين من أشعة الشمس، والغبار والأوساخ، فتزيد الرؤية وضوحاً وجلاء.وما تزال المرأة المصرية حتى اليوم، وخاصة في الريف والقرى والمناطق الشعبية، حيث تجهز الكحل بنفس الطريقة القديمة، وتسميه" كحل الحجر"، وتستخدمه النساء بنفس المرود الفرعوني الذي كانت تستخدمه النساء قبل سبعة آلاف عام.
فلا تتعجب حينما تجد الجدة أو الأم في المناطق الشعبية أو الريف تجهز كحل الحجر وتغمس المرود أولا في ثمرة "بصل" ليخرج بعصارة البصل، ثم تضعه في المكحلة، وبعدها تكحل به كل أطفال العائلة، بنات وأولاد من أجل حماية عيونهم من أمراض الربيع.
إن الباحث في التاريخ الأنثربولوجي في ممارسات المصري اليوم يجد جذوره ممتدة في مسارب التاريخ حتى مصر الفرعونية، حتى الأدوات الزراعية التي يستخدمها الفلاح المصري اليوم، هي نفس الأدوات التي استخدمها الفلاح الفرعوني، وربما هذا ما اعطى الحضارة المصرية هذا التميز ، فهي حضارة مرتحلة عبر الزمن، مختلطة بالجينات الوراثية للمصريين، على عكس حضارات أخرى كثيرة اندثرت وماتت لأنها لم ترتحل مع أبنائها في الزمان.