القاهرة 27 يونيو 2022 الساعة 09:43 ص
بقلم: مصطفى عبد الله
"أنساك ده كلام أنساك ياسلام.. أهو ده اللي مش ممكن أبدا ولا أفكر فيه أبدا"..
كلمات من نصيب الشاعر الكبير الراحل مأمون الشناوي، صاحب الكلمات الخالدة عبر الزمان، الرانة في آذاننا في لحظات الحب، وسكرات العشق وما أدراك ما العشق، بحرقته وخوف القرب وقسوة البعد، تلك الأحاسيس التي تأخذك لتسأل نفسك سؤالا: "كل ده كان ليه" فلا تجد تفسيرا أو تدبيرا لما هو قادم، مأمون الشناوي واحدٌ ممن أبحروا في كلمات الهوى وأخذ قاربه ببطء يفتش عن أصداء الحب في البحار وفي جنبات الظلمات صال وجال لتعرفه الأحرف فتلين من رقته وبراءته، فتلبسها ثوبًا فاخرًا في اختيارات الكلمات.
أُنزل الشاعر الغنائي الكبير مكانة مع كبار مطربي العالم العربي وشارك في صناعة نجوميتهم، لتصل مخطوطاته إلى محطات مهمة في حياة الكبار، كوكب الشرق أم كلثوم وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، وأسمهان، وفايزة أحمد، وليلى مراد.. الشاعر الكبير هو من محافظة المنصورة وأحد رواد الشعر الغنائي الحديث، كان دائمًا يقدم وجوهًا جديدة إلى ساحات الفن ولعل أبرزهم سيد مكاوي وهاني شاكر ماوصل إلينا، ولكني أشك في أنه يكون قدم أكثر من تلك المواهب العظيمة في باحة الغناء، بعد أن أطلعت على العدد الصادر من مجلة أبولو في نوفمبر 1934فقد كتب الشاعر الكبير مقالا عن أهمية ضخ دماء جديدة وتقديم مواهب في الفن باعتباره أمرا لا يقبل النقاش وعلق على الثبات في الفنون وعدم تطورها بالرجعية، هكذا قالها "رجعية"، في حقبة الثلاثينيات والأربعينيات لم تفرز الضغائن بين المطربين كبائرها مثل الخمسينيات والستينيات، فكثير من الشائعات تدوالتها الصحف بين كبار المطربين مثل أسمهان وخلافها مع أم كلثوم وصراعات عبد الحليم حافظ، ليظل الشاعر الكبير على مقربة من الجميع بنفس العلاقة وعلى خط متساو، فمأمون الشناوي كتب أغنيات لمطربين على خلاف مع بعضهم البعض ولكن فضل هو أن يكون في أواصل الجميع، ولم يجرؤ أحد أن يملي عليه شروطه بعدم العمل مع فلان لأنه يكتب له.
الشاعر الرائد في الأغنية المصرية الحديثة أتى من ثوب شعبي ومحب لتراب الوطن فنشأته كانت في الإسكندرية وكان أبوه يعمل قاضيًا شرعيًّا وعمه كان شيخًا للأزهر الشريف، كانت العائلة كثيرة التنقل، لطبيعة عمل الأب كقاض وتنقله بين المحاكم في المحافظات، حتى نزل بالقاهرة وعمل صحفيًا بجريدة روزاليوسف، شاركت الهوية والانضباط الأسري مناخ نشأة الشاعر، فتشبعت كلماته في نسيج وطني وشعبي، فجاء بعدد كبير من الأوبريتات والأغاني الشعبية والوطنية، ولعل أبرزها "زود جيش أوطانك" لعبد الوهاب وأغنية "الجهاد" وغيرها من الأغاني التي من خلالها تستطيع أن تجسد الحقبة الزمنية التي كانت تمر بها مصر.
كتب الشناوي الهوية المصرية ومزج بكلماته الحنين المصري والشوق واللوع والحماس، لم يلقب كشاعر الشعب ولكن في حقبة الكبار كان العم الجميل، كتب للمغني الشاب في مطلع مشواره الفني "أنا لك على طول خليك ليا"، الأغنية التي حركت نجوميته ونقلتها، "النيل والليل بعتوني علشان أقابلك اشتاقت إليك وحشتني عنيك مش عارف أهرب فين منك"، كلمات رقيقة ولكن تحمل كل قسوة في طياتها، من هنا تستطيع التعرف على الشاعر الكبير، أي عاطفة تذوقها الشاعر الكبير وأعاد تدويرها لنا؟ كثيرًا أسال نفسي ذلك السؤال، فإنني أؤمن أن الشعر وليد التجربة، فمن هي أميرته؟ التي كتب فيها كل ذلك العشق والولع؟
أحب الشناوي فاطمة بنت الجيران بعد قصة عنيفة بينهم وظل يثبت لها حبها إلى أن تأكدت من حبه، فالشاعر الراحل كان ينشر أشعارًا ومقالات لها بمجلة أبولو، "خسارة ياجارة"، "بيني وبينك أيه"، "نعم ياحبيبي"، "حلو وكداب"، "بيع قلبك"، أغاني نجمت العندليب وعشقها الكبير والصغير، تزوج الشناوي قبل أن يصل إلى الثلاثين من عمره، كانت فاطمة حاضرة في العديد من الأغنيات الخالدة المرسخة في وجداننا.
أثر عمل مأمون الشناوي في بداية مشواره كصحفي بمجلة روز اليوسف عليه كثيرًا وكان له فضل كبير في مشواره الفني بعد أن قدمه مصطفى أمين إلى موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، ليغير طريقه إلى كتابة الشعر بجانب الاحتفاظ بكتابة مقال ونشر قصائده الشعرية بعد أن تم إيقافه من الكتابة كما أشيع في عام 1962 بسبب أنه يصدر نكاتا على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، أَعجَب موسيقارا لدرجة أنه كان ينتظر كتاباته، "جاية بطبلتها"، هكذا كان يرى الملحنون كتابات مأمون الشناوي، شعريًّا كلما حَسُن الوزن وجدَت الموسيقى براحا وبرع الملحن في التحليق بموسيقاه، هكذا تعلمناها، للشعر ذائقة يوصفها الملحن بموسيقاه.
تهل اليوم ذكرى وفاة العبقري الشاعر الكبير مأمون الشناوي ليذكرنا بالهوية المصرية الخالصة التي قدمناها للشعوب فاهتدت بها، ولا أستطيع أن أغلق مقالي قبل أن أتحدث عن التجربة الوحيدة للشاعر الكبير مع إسماعيل يس في فيلم كتبه بعنوان "العبقري"، الشناوي ساهم في كتابات العديد من الأفلام الغنائية بأشعار ميزت السينما المصرية وجعلتها في مقدمة صفوف العالم، سلامًا للعبقري مأمون الشناوي في يوم مولده ورحيقًا موصولًا رغم الفراق، بقي معي خط قلمك بين أجنبي واسترشد بغناك.
|