القاهرة 17 مايو 2022 الساعة 12:17 ص
د. هويدا صالح
" بلبل ليتوانيا..أشعار سالوميا نيرس" ديوان مختارات شعرية جديدة للشاعرة الليتوانية سالوميا نيرس ترجمها الشرقاوي حافظ، وصدرت مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. يضم الكتاب مجموع قصائد من دواوين : " مبكرا في الصباح" و " خطوات فوق الرمال"، و " فوق الجليد الرقيق" حيث تجمع الشاعرة بين ما هو ذاتي وإنساني، يتحدث عن مشاعر إنسانية تصف الحب والشغف والحزن والقلق الإنساني نحو الوجود، وما هو قومي يتحدث عن الوطن والدفاع عنه، والأحداث الجسام فى حياة شعبها، فلقد كان لها صوت الرعد كمدافعة عن حقوق شعبها فى تلك اللحظات الحرجة . بعد تطور أدواتها الشعرية ، يجد القارئ سيرة حياة ذاتية لإنسان من أول ابتسامة فى الطفولة لدموع أم يائسة وقعت فريسة لعاصفة الحرب.
إن " سالوميا نيريس " تُعدُّ الشاعرة الغنائية الأولى فى ليتوانيا إحدى دول البلطيق فىشمال أوروبا، فقد كان الجنود اللتوانيين ـ بحسب ما جاء في مقدمة المترجم ـ يحفظون شعرها عن ظهر قلب.
إن الشاعرة تعتقد أن التاريخ جندها فى صفوف المناضلين فاستجابت له من خلال شعرها الذى عبر عما يعانيه وطنها من أحداث وحروب. في قصيدة " عودة للوطن" تستنهض روح المقاومة ي شعبها، حيث تناجي بحر البلطيق، وتماهي بينه وبين صورة الوطن:"تستمر مياه البلطيق كقطرات دموع
تمشي عيوني الباكية..تذوب من خلفي أجراف السويد
وابتدأ ساحل وطني في الارتفاع
تزمجر الطائرات على المحيط...فمتى سيبتسم وطني".
كان لنيرس صوت قوي مدافع عن عن حقوق شعبها في المعارك التي خاضها، فتلوم الشاعرة بحر البلطيق التي جعلته رمزا للوطن قائلة:"
لماذا أنت هادئ...
يا بحر البلطيق،
يا جمال الشمال
هل نسيت أنك كنت قادرا
على الرقص الماجن في نزوة قوية".
لقد أعلنت الشاعرة أنها ضد مقولة " الفن للفن" فنشرت في المجلة الأدبية المتقدمة(الجبهة الثالثة) إعلانا تقول فيه:"سأكون وبكل وعي ضد هؤلاء الذين يستغلون الطبقة العاملة، وسأجعل عملي لصالح الجماهير المستغلة، وسيكون شعري سلاحا معهم في نضالهم، معبرا عن طموحاتهم وأهدافهم في الكفاح".
تواصل في قصيدة " العودة للوطن" قولها:"
في البحر المجنون لن ينجو إلا البحار القوي
بعد العاصفة
بعد المعركة
لا يكاد يفهم أحد
في الصمت المذهل اللاحق
أين ليتوانيا". من الحكايات التي تروى عن أثر شعرها في الجنود الموجودين في أرض المعارك، وقد ذكرها المترجم في المقدمة، حيث يحكي عن شغف الجنود بشعرها، لدرجة أن أحد الجنود حينما لقي حتفه برصاصة في صدره، وجدوا في جيب سترته ورقة ملطخة بالدم، وإذا بهذه الورقة جزء من قصيدة لسالوميا:"
إننا نحب أرضنا بالفعل،
لا بالكلمات،
بالنار التي تشتعل في قلوبنا،
بالحب الذي نهبه لها".
وحين عرفت سالوميا بأن أحد الجنود مات وبجوار قلبه قصيدة لها تأثرت بهذا الموقف وكتبت قصيدة بعنوان" غَنِّ يا قلب" حتى أن أحد تلاميذها ـ بحسب المترجم ـ قال:" إن سالوميا نيرس أعدتنا للحياة لا للموت". تقول في قصيدة "كشجرة كرز تتفتح":"
كما شجر الكرْز هذى الحياة
إذا لبست زهر السرور
تمر السنون، بوقع سريعْ
تحلق من حولنا ثم تمضى
فدعنا نحاول ألا تضيعْ
ولكن نسايرها فى الحياة
فأيامنا كغناء الطيورْ
وبيضاء أيامنا مثل أشجار كرز
كما شجر الكرز هذى الحياة
إذا لبست زهر السرورْ".
في قصيدة الليلك تطرح الشاعرة ذات الرؤية التي تستنهض بها روح المقاومة في جنود بلادها، وترى أن البعد عن الوطن يعتبر موت روحي لمن يعشق وطنه، فلا حياة في الغربة لإنسان ارتبط بحب هذا الوطن:"
بعيدا عن الوطن
طرق تبتعد ُ
دروب تمتد ُ
أغرتنى بأغانيها
قلت : وداعا يا وطنى
تتلقفنى أيدى الكون بقوة
مع ذلك ، لو حتى طفل نظر إلىّ
بوجه مبتسم
ليخفف عنى ألمى
وهو ينادينى بعذوبة صوت رنان
ما كنت أعود
فأنا وطنى البحر بغير حدود"
لقد كانت قصائد سالوميا نيرس توزع على الجنود من الطائرات لتشعل حماسهم، ولقد قامت بزيارة الجنود في مواقعهم تلقي عليهم قصائدها لكي تبث فيهم روح التحدي والكفاح وهم يستمعون لها باشتياق وحب للموت؛ فهي التي قالت كلمتها الخالدة التي حفرت في وجدانهم:" إنكم ذاهبون للموت؛ لكي تنتصر الحياة".
في قصيدة "كيف تموت النسور" تقول:"
تحت نيرٍ ثقيل
فى سلاسل ذات رنين وطقطقة
ينهض الشعب
فى الحلم، شعبى، بأجنحة ذات قوة
وصباحاتنا مثل تنين
تنشر همًّا كبيرًا
أين أنتم، وأين شجاعتكم يا رموز البطولة
كى تنقذونا أخيرًا
إنهم فيك، فىّ، نيام، برغم جميع المحن
وضربات المنبه فى الليل توقظنا كى نحارب
رغم أن الحياة مضت فى المنام
إننا ، مع ذلك، مثل النسور التى لا تخاف
سنقدر عند المعارك نلقى المنون".
إن شعر سالوميا الغنائى لهو خليط متفرد من الدراما الصارمة والرقة العاطفية، ومن الثقافة الشعرية العالية والإخلاص للتقاليد المحببة للنفس. في قصيدة أرضى" تبحث عن الوطن، ولو في معاني صغيرة، حيث تقول:"
وطنى صغير، إنما هو مهجتى
وكأنه من كهرمان خرزة متوهجة
أنغام ماضيه تعاودنى فتوقظ بهجتى
وسعادتى فى فنه المنقوش فوق الأنسجة
خذها كذكرى، خرزة من كهرمان
ساقها لشواطئ البلطيق موج،
واسم ليتوانيا عليها يبرقُ
كالشمس ـ يومًا من يديك ـ ستشرقُ
صوت السعادة سوف يعلو
فى بلاد جمّعت أوصالها فى وحدة أخوية
ويدق فى كل الأماكنْ
لن يستفز صمودها سلبٌ
ولا نهبٌ
لأن جناحها العملاق
يُأوى كل شىء تحته
فالكل آمنْ".
بعد تطور أدوات الشاعرة الفنية، نجدها تخرج عن الخط العام الذي بدأت به، حيث التثوير والمقاومة والقضايا الكلية إلى ما هو ذاتي وإنساني، فكأنها تسعى لكتابة سيرة حياة ذاتية لإنسان من أول ابتسامة الطفولة إلى دموع أم يائسة وقعت فريسة لعاصفة الحرب. تقول في قصيدة " شباب":"
من أثر الشمس كقطعة فحم
حافية الأقدام
حقًا داكنة الجلد
فتاة ترعى الأغنام
كسماء لامعة تتلألأ عيناك
واآسفاه
لا شيء لدىّ سواك
لا قرط ولا ذهب
ولا أحجار كريمة
لا ثوب عليك له قيمة
إلا النسمة فى وجهك تبرق
وضفائرك المزدانة بالزهر الأزرق
فإلى أين تعاريج ممرك تسرى
هل من أحد يدرى
إنك فى وجهى، وبسخرية تبتسمين
فكما جئت ستمضين"
الجدير بالذكر أن سالوميا نيرس ولدت فى كرساى عام 1904 ، وتخرجت من جامعة ليتوانيا ودرست اللغة الليتوانية والألمانية، وقبل عملها كمدرسة أصدرت ديوانها الأول عام 1927، وبعد تخرجها عام 1928 عملت مدرسة للغة الألمانية حتى 1931 وساهمت فى منشورات الكاثوليكية والوطنية
فى عام 1931 انتقلت سالوميا للعيش فى كوناس لتعمل بالتدريس حيث أصدرت مجموعتها الشعرية الثانية " أثر أقدام على الرمال " ، وبدأت فى تلك الفترة تنشر فى مجلة أدبية داعمة للشيوعية أعمالا تتسم بالثورية. وكانت سالوميا نيرس عضوا فى الوفد الذى اتجه للاتحاد السوفيتى للمطالبة بضم ليتوانيا عضوا فى الاتحاد. ولقد حصلت على جائزة " ستالين"، وقضت فترة الحرب العالمية فى الاتحاد السوفيتى ، ثم عادت لكوناس لتسقط مريضة بسرطان الكبد حيث ماتت عام 1945
|