القاهرة 24 مايو 2022 الساعة 10:57 ص
تأليف: إيتالو كالفينو
ترجمة: شيرين النوساني
فى يوم من الأيام نشر أحد الملوك إعلانا قال فيه:
من سينجح فى تصنيع قارب يسير فى البحر وعلى البر سأزوجه ابنتى.
وفى تلك البلدة كان يعيش أب مع أبنائه الثلاثة وكل ما يملكه من حُطام الدنيا هو حصان وحمار وخنزير صغير. وما أن سمعوا بالإعلان حتى قال الابن الأكبر لأبيه: يا أبي، بع الحصان واشترى لي بثمنه الأدوات التى تستخدم فى تصنيع المراكب، وأنا سأستخدم هذه الأدوات اللازمة لتصنيع المراكب فى تصنيع مركب يمشى فى البحر وعلى البر وأتزوج ابنة الملك.
ظل الابن يكرر طلبه ويلح على أبيه ليل نهار حتى باع الأب الحصان كي يستريح من إلحاحه. واشترى له بثمنه الأدوات. استيقظ الابن فى ساعة مبكرة وحمل معه الأدوات وتوجه بها إلى الغابة لتقطيع الأخشاب اللازمة لتصنيع القارب.
وعندما انتهى من تصنيع نصف القارب مرَ عليه رجل عجوز وسأله: -ماذا تعمل، يا ولدى؟
فأجابه: -أعمل الشيء الذى يعجبنى.
فقال العجوز: -وما هو الشيء الذى يعجبك؟
فرد عليه قائلا: -ألواحا خشبية لبراميل الخمر!
قال الرجل: -لتجد اذن الألواح الخشبية اللازمة لتصنع براميل الخمر جاهزة، وذهب الرجل إلى حال سبيله.
وفى صباح اليوم التالى عندما عاد الشاب إلى الغابة، حيث ترك القارب الذى انتهى من تصنيع نصفه مع ما تبقى من الأخشاب والأدوات، لم يجد سوى كومة من الألواح الخشبية اللازمة لصنع البراميل. فعاد إلى منزله باكيا كمن ضاعت آماله وحكى لأبيه عن المصيبة التى حلت به.
وتصوروا حالة الغضب الشديد التى انتابت الأب بعد أن باع حصانه حتى يُرضي نزوة ابنه، فقد استشاط غضباً حتى أوشك على الفتك به.
وقبل أن يمضى شهر عادت من جديد نفس الفكرة تُلح على أخيه الأوسط، بأن يُجرب هو الآخر تصنيع نفس القارب. فأخذ يُلح على أبيه ويندب حظه ويتنهد حتى اضطر أبوه أن يتنازل عن الحمار ليشترى بثمنه الأدوات اللازمة. وحمل هو الآخر الأدوات وتوجه إلى الغابة لتقطيع الأخشاب.
ولما انتهى من تصنيع نصف القارب مرَ به نفس الرجل العجوز وقال له: ماذا تعمل يا ولدى العزيز؟
فرد عليه: أعمل الشىء الذى يعجبنى.
فسأله العجوز: وما هو الشىء الذى يعجبك؟
فأجابه: مقابض مكانس.
-لتجد مقابض المكانس التى تعجبك جاهزة!، وذهب إلى حال سبيله.
وفى المساء عاد الشاب إلى منزله وتناول طعامه ونام. وفى فجر اليوم التالى عاد من جديد إلى الغابة، فوجد نفس ما وجده أخوه الأكبر: وجد كومة من مقابض المكانس فقط. فصرخ الأب فى وجهه عندما عاد إليه هو الآخر يائسا يحكى له ما حدث له وقال: هذا جزاؤك! هذا جزاؤكم كلكم بأفكاركم السخيفة هذه! وأنا أيضاً أستحق لأنى أطاوعكم!
وحينئذ قال الأخ الأصغر الذى تابع هذا الحوار: اذن يا أبتى، ما دمنا خسرنا كل ما نملك فلنجرب مرة أخرى، اتركونى أجرب حظى أنا أيضا. فلنبيع الخنزير ونشترى بثمنه الأدوات اللازمة، ومن يدرى فقد أنجح أنا فيما فشلوا هم فيه.
وخلاصة القول تم بيع الخنزير الصغير واشترى الأخ الأصغر الأدوات اللازمة وذهب بها إلى الغابة. وكان قد انتهى من تصنيع نصف القارب عندما مرَ به نفس الرجل العجوز وقال له: -ماذا تعمل يا ولدى الحبيب؟
فرد عليه: -ابنى مركبا يمشى فى البحر وعلى البر.
وعندها قال العجوز: -لتجد مركباً يمشى فى البحر وعلى البر، وذهب إلى حال سبيله.
وفى المساء عاد الولد إلى منزله وتناول طعامه ونام. وفى الصباح الباكر عاد إلى الغابة فوجد القارب وقد تم صنعه بالتمام والكمال ووجد شراعه مفروداً، فركب فيه وقال: يا مركبى، امشى على البر، وشرع القارب يسير عبر أرجاء الغابة بسهولة ويسر وكأنه يسير على صفحة الماء واتجه به إلى منزله، فلما رأه أبوه وأخواه انتابتهم حالة من الذهول الشديد.
واستمر الابن الصغير يقول: -يا مركبى، امشى على البر، وتوجه نحو قصر الملك. وكان القارب يطفو على صفحة الماء عندما يمر فى طريقه بنهر ويسير بخفة على الأرض عندما يمر على سهول أو جبال.
وعندئذ أصبح الشاب يمتلك القارب ولا ينقصه إلا أفراد الطاقم. فلما وصل إلى أحد الأنهار، وعند الموضع الذى كان يتدفق فيه نهر أصغر منه لم تكن مياه النهر الصغير تصل إلى النهر الكبير بسبب وجود رجل عملاق كان جاثياً على ركبتيه أعلى ضفة النهر ويشرب مياهه كلها.
فقال له الولد: يا خبر! ما هذا الحلق الواسع يا رجل يا طيب! هل تحب أن تأتى معى؟ سأخذك إلى قصر الملك.
فرشف الرجل العملاق رشفة ماء أخرى، محدثاً صوت أثناء احتسائه لها وقال: الآن لا مانع فقد رويت بعض عطشى، وصعد إلى القارب.
وسار القارب فى الماء، وسار على الأرض حتى وصل إلى مكان به رجل عملاق يدير عصاه فوق النار وقد علق عليها جاموسة ضخمة الحجم.
فقال الولد من على سطح القارب: -أنت يا...! هل تحب أن تأتى معى فأخذك إلى قصر الملك؟
فأجابه هذا الرجل: بكل سرور ولكن انتظر حتى انتهى من التهام هذا العصفور الصغير.
فرد عليه: تفضل طبعاً.
فتناول الرجل العملاق الجاموسة المغروزة فى العصا والتهمها وكأنها طائر سمان. ثم صعد إلى القارب واستأنفوا الرحلة.
وسار القارب عبر بحيرات وعبر قرى حتى وصل عند رجل عملاق آخر كان يستند بكتفيه على جبل.
فقال له صاحب القارب: -أنت يا...!هل تحب أن تأتى معى إلى قصر الملك؟
فأجابه الرجل: -لا أستطيع أن أتحرك.
فسأله: -ولماذا لا تستطيع التحرك؟
فقال الرجل: لأنى أسند الجبل بكتفايَ وإلا فسيقع.
-اذن فلتتركه يقع.
فأزاح الرجل الجبل بيده وقفز فى القارب؛ وبمجرد أن تحرك القارب سمعوا صوت دوى انفجار، فقد وقع الجبل.
وسار القارب عبر طرق وعبر تلال حتى وصل إلى قصر الملك فنزل منه الولد وقال: -أنا يا جلالة الملك المعظم نجحت فى بناء هذا المركب الذى يمشى فى الماء وعلى الأرض وهكذا يتحتم على جلالتك الآن أن تفى بوعدك وتزوجنى ابنتك.
فشعر الملك بخيبة أمل فهو لم يتوقع قط أن يحدث هذا وتنَدم على نشر ذلك الإعلان. فبموجبه سيضطر أن يُزوج ابنته لصعلوك مثل هذا، لا يعرفه حتى.
فرد عليه الملك وقال: -سأزوجك ابنتى بشرط أن تنجح أنت ورجالك فى تناول الغداء الذى سنقدمه لكم دون أن تتركوا منه حتى جناح دجاجة أو حبة عنب.
-اتفقنا. وما موعد هذا الغداء؟
-موعدنا غدا، وأمر الملك خدمه بإعداد طعام يتكون من آلاف الأصناف، إذ فكر فى نفسه وقال: "من المؤكد أن هذا الصعلوك ليس عنده عدد كبير من الرجال يمكن أن يستهلك كل هذا الطعام".
وحضر مالك القارب بصحبة شخص واحد من رجاله: ذلك الرجل العملاق الذى كان يلتهم كل الجاموسات وكأنها طيور سمان. فأخذ يأكل ويأكل والتهم عشرة أصناف، الصنف تلو الصنف، ثم ابتلع مائة صنف، ثم ازدرد ألف صنف فانتفض الملك الذى كان جالساً أمامه يراقبه دون أن ينبس ببنت شفة. وقال للخدم: -ألم يتبق أى طعام آخر فى المطبخ؟
فأجابوه: -تبقى لدينا قليل من الطعام.
ووضعوا كل ما تبقى من طعام أمامه على المائدة وكانت معدة الرجل لا تزال تتسع لالتهام الكسرات أيضا.
فقال الملك: -لا خلاف على أنك ستتزوج ابنتى، هذا مفهوم. ولكني أحب أولاً أن أقدم لرجالك كل النبيذ الموجود فى مخزن القصر وبشرط أن تشربوه عن آخره ولا تتركوا منه ولا حتى قطرة واحدة فى قاع الكأس.
وحضر ذلك الرجل الذى كان يشرب الأنهار وبدأ بشرب برميل ثم برميل آخر ثم زجاجة كبيرة وانتهى به الأمر بالاستحواذ أيضاً على زجاجتين صغيرتين من النبيذ الأبيض كان الملك قد أخفاهما ليحتفظ بهما لنفسه فشربهما أيضاً.
فقال الملك، فليكن واضحا تماما أننى ليس عندى مانع من تزويجك ابنتى ولكن سأعطيك مع ابنتى مهرها: خرانات الملابس والبوفيهات والسرير والأحواض والمفروشات وصناديق الأموال وكل ما نملك فى بيتنا. ويجب عليك أن تحمل كل هذه الأشياء دفعة واحدة ودون تأخير وتحمل ابنتى على قمة هذه الأشياء كلها.
فقال الولد للرجل العملاق الذى كان يسند الجبل بكتفيه: -هل تستطيع أن تقوم بمجهود بسيط؟
فأجابه: -يا ليت! فهذه هوايتى المفضلة!
وذهبا أسفل القصر وسألا الشيالين: -هل أنتم مستعدون؟ فقالوا: نعم. قالا لهم: اذن هيا بنا نضع الأمتعة على كتفيه.
وبدأوا فى تحميل دواليب وموائد وصناديق مجوهرات حتى حمَلوه بجبل على ظهره كاد أن يصل إلى السقف واضطرت ابنة الملك أن تصعد فوق البرج حتى تعتلى القمة. وبعد أن جلست ابنة الملك فوق القمة قال لها الرجل العملاق: تمسكى بقوة يا مولاتى الأميرة، وبدأ يعدو حتى وصل بكل هذه الأحمال إلى القارب وصعد إليه.
قال الولد: -والآن طير، يا مركبى.
وسلك القارب طريقه عبر الميادين وعبر الطرقات وعبر القرى.
وصاح الملك الذى كان يطل من مقصورته وقال: -اسرعوا يا رجالى المخلصين واتبعوهم وامسكوا بهم واحضروهم إلىَ مكبلين بالسلاسل.
فانطلق الجنود بعد أن كلفهم الملك بذلك ولكنهم لم ينجحوا سوى فى سف التراب المتصاعد من القارب وتوقفوا فى منتصف الطريق مقطوعي الأنفاس.
واطمأن قلب والد الشاب عندما وجد ابنه الصغير يعود بالقارب وقد امتلأ بالثروات عن آخره وعلى متنه ابنة الملك وهى ترتدى فستان العرس. وأمر الولد ببناء قصر بديع الجمال وخصص طابقا منه لأبيه وأخويه وطابقا لكل رجل من رجاله واحتفظ بالباقي لنفسه ولعروسه ابنة الملك.
|