القاهرة 23 يناير 2022 الساعة 04:10 م
د. هويدا صالح
إن البحث في"هوية النص الإبداعي الجديد" وعلاقته بمعطيات التكنولوجيا التي تمثلت في "مواقع التواصل الاجتماعي" و"شبكات الإنترنت" و"النشر الإلكتروني" و"الوجود الفيزيقي" للمؤلف على هذه الشبكات وتأثير هذا الوجود على مشروعية وجود نصه الإبداعي ومستقبل الكتاب الورقي في مواجهة الوجود العاتي لما هو إلكتروني كل هذه أسئلة تناوش العقل وهو يتابع لحظة بلحظة الوجود الأدبي للنصوص على صفحات الويب والميديا الحديثة، والوجود الفيزيقي للمؤلفين، متحققين أو في سبيلهم للتحقق، في محاولات مستميتة لتأكيد جمالية النص الإبداعي!
الوجود الفيزيقي للمبدع
إن الوجود الفيزيقي للمبدع، أيا كانت هوية النص الإبداعي الذي يكتبه أو حتى المستوى الجمالي لهذا النص، على مواقع التواصل الاجتماعي كأحد إفرازات العولمة الجديدة التي قرّبت المسافات؛ منح المبدع جملة من الامتيازات منها: توسيع مجالات الحرية الكاملة في التأمل والتعبير، والتجرؤ على الخروج على مركزية المتن الإبداعي ومنح هوامشه الإبداعية فرصا عادلة في الوجود، كذلك تحقيق سرعة الانتشار والتفاعل المباشر مع قارئ نصه .
ولا شك أن كل هذا تحقق بفضل العولمة الثقافية Global Culture ، حيث صار لشبكة الإنترنت دور بالغ الأهمية كوسيط نقل ما هو ثقافي ومعرفي إلى أكبر قاعدة قرائية يمكن أن تتفاعل مع النص الإبداعي في وجوده الرقمي الجديد، تقرأه وتصنع له امتدادا جديدا إما بالتعليق عليه أو الإضافة التشعبية له؛ مما يفتح المجال أمام النص الجديد ليكوّن شريحة جديدة من القراء يتمايزون عن الشريحة التقليدية للكتاب الورقي.
إن من يراهن على أن التاريخ سوف يفرز ويُبقى ما يستحق الخلود ويُنسى ما يستحق النسيان مستدلا على ذلك بأن نجيب محفوظ كان يشاركه في زمنه مئات من الكتاب الذين كانوا يحققون انتشارا واسعا بل وحتى مقروئية تفوق مقروئية نجيب محفوظ في زمنه، وأن الزمن تمكن من الغربلة والتصفية والانتقاء فبقي نجيب محفوظ ونُسي من لم يكن وجوده أصيلا يستحق الخلود إنما لا يعرف آليات إنتاج النصوص الجديدة وآليات اشتغالها حتى تصل إلى المتلقي المختلف نوعه عن متلقي النص القديم في شكله التقليدي.
يتيح الوجود على شبكات التواصل الاجتماعي للكاتب الخروج على سلطات متعددة تمارس سطوتها على نصه الورقي: الخروج على سلطة الناشر( الذي يحدد وقت إصدار الكتب وكيفية إصداره كما يحدد طرق التسويق والتوزيع مما يؤثر على مساحة المقروئية التي يستهدفها الكاتب) والرقيب( المراقبة السلطوية التي تمارس على الكتب رقابة عدم الخروج على تابوهات المجتمع الثلاثة) والمؤسسة الثقافية( وما تمارسه من انحيازات قد تكون مع كاتب ما على حساب كتاب آخرين وقد تكون مع صيغ إبداعية ما على حساب صيغ إبداعية أخرى. ولعل ما حدث من دور سلبي للمؤسسة على قصيدة النثر على ناضلت عقودا من أجل الوجود لا يغيب عن الأذهان).
صار الوجود الجسدي للمبدع على الشبكات السيبرانية مقترنا اقترانا حتميا بوجود نصه، فالمبدع حينما ينشر نصا ما عبر حسابه على "الفيس سبوك" مثلا، ويتابع تعليقات القراء على النص.وتمثل هذه العملية اختبارا لوجودين متوازيين، الوجود الأول هو النص الذي يستقطب قارئه المنحاز لجمالية ما توفرت فيه، كما ينتج تفاعلا متوقعا من خلال التعليقات والردود بين منتج النص ومتلقيه من ناحية وبين المتلقين أنفسهم من ناحية ثانية حينما يتم الاشتباك والتفاعل حول النص.
الوجود الثاني الذي يتمّ اختباره هو وجود الكاتب نفسه، حيث يكتشف الكاتب الذي تحرر من كل قيود النشر الورقي أن الكتابة كرسم سيميائي للتعبير عن المعني ليست هي الوسيلة الوحيدة، فثمة وسائل أخرى أكثر نجاعة وقدرة على الوصول إلى القارئ، فلديه مثلا الصوت، حين يمكن له أن يقرأ نصه الإبداعي وهو في منزله من خلال غرفة يتمكن من إمدادها بأقل الإمكانيات، ويحولها لأستوديو مجهزا صوتيا ومن ثم يرفع التسجيل الصوتي على الشبكة الإلكترونية، ومن ثم يتيحها لقاعدة جماهيرية أكثر اتساعا، وقد يطور الكاتب الأمر، ومن خلال ذات الأستوديو المنزلي المجهز يمكن أن يعرض نصه في فيديو يجهزه بالموسيقى وشرائح يعرض عليها النصوص عبر تقنية(power point )، ومن هنا يتحول الخطاب المكتوب إلى خطاب منطوق.
هل ساعدت مواقع التواصل الاجتماعي على تطوير البنى الإبداعية؟
رغم أن النص التفاعلي الجديد كان ينتظر منه أن يقوّض البنى التقليدية القارة ويستعيض عنها ببنى جديدة تناسب الوسيط الجديد، لكن واقع الحال أن الوسيط الجديد لم يغير من البنى الإبداعية، فظلت كما هي على حالها، لكنها انتقلت من الكتابة على الورق إلى الكتابة على الشاشة الزرقاء، وحتى بعد أن تتحول إلى صوتي مسموع أو مرئي تظل مرتبطة بتقليدية بناها، فالمبدع يقرأ نصه الذي بناه حسب البنية التي ارتضاها.
وكان من المتوقع أن تحدث انزياحات جمالية لصالح تجديدا ما في النص الإبداعي؛ من أجل أن يُبنَى على معطيات الحياة العولمية السريعة واللاهثة؛ فيطور نصه من الناحية التعبيرية انطلاقا من رؤى جمالية محايثة لواقع الحياة الجديدة الني يعيشها المبدع. لكن واقع الحال أن هذه المواقع الرقمية لم تحدث تغييرا في البنى الجمالية، هي أتاحت فقط سرعة النشر واتساع مساحته، لكنها أيضا ساوت في الوجود بين الغث والثمين، فلم يعد هناك تقييم جمالي من أي نوع، فقد ينشر نص ما أقل ما يوصف به أنه لا يتوفر له الجماليات الفنية اللازمة ويحقق مقروئية وانتشارا لافتا، ربما ساهم في كل ذلك وجود المبدع نفسه وتكوينه جماعات ضغط تحيط بالمبدع ونصوصه يمكن أن تُسمّى(ألتراس) تساعد على الترويج للمبدع بغض النظر عن مستوى النص الفني.