القاهرة 25 اغسطس 2012 الساعة 12:02 م
تبدأ فصول واحدة من روايات صاحب «الدون الهادئ»، ميخائيل شولوخوف، بخطاب لستالين وتنتهي بخطاب آخر له. اسم الرواية «الأراضي المستصلحة» وكتبت في عام 1932، في زمن كان فيه «أبو الشعب الصغير»، و «ملهم شيوعيّي العالم أجمع»، قد بدأ حملته على رفاق ثورته قبل أن يبدأها على أي طرف آخر، وشرع في المحاكمات/ المذابح الموسكوفية الشهيرة وفي التخلص من الكتّاب والفنانين الحقيقيين، وصولاً إلى إلغاء كل حسّ ثقافي وكل أمل ثوري عند الناس. وفي رواية كاتب سوفياتيّ آخر معاصر لشولوخوف هو أوستروفسكي عرفت على نطاق شيوعي عربي واسع باسم «والفولاذ سقيناه»، ليس ثمة في هذا العالم من يستحق اسم إنسان سوى البلاشفة. هاتان الروايتان اللتان كانتا، وأمثالهما، الغذاء الروحي التربوي لعشرات ملايين الشيوعيين في شتى أنحاء العالم (ولا تزالان كذلك كما يبدو حتى أيامنا هذه لدى الكثر من ستالينيّي العالم العربي)، تنتميان معاً إلى لون أدبي بات - لحسن الحظ - منسياً بعض الشيء ولدى قطاعات عريضة من المثقفين في العالم اليوم، هو اللون الذي كان يسمى «الواقعية الاشتراكية». والحقيقة أن حسبنا لكي نفهم ما كانت تعنيه هذه الواقعية أن نعود إلى ما كتبه الروائي الروسي الكبير فاسيلي غروسمان (صاحب «الحياة والمصير» التي يمكن اعتبارها من دون لبس أو مواربة واحدة من أعظم روايات القرن العشرين) عن تلك الواقعية، حيث قال إن كلمتها الأولى: «الواقعية»، تعني الكذب واختراع شخصيات لا علاقة لها بالواقع لا من قريب ولا من بعيد، ومواقف بطولية مزيفة ومشاعر وأفكار لا وجود لها، لدى الناس في الحقيقة، ناهيك بأن الأمكنة التي تعيش فيها هذه الشخصيات مجرد شقق وهمية، أما كلمتها الثانية «الاشتراكية» فليست، وفق غروسمان نفسه، سوى تمجيد أخرق وكاذب للزعيم ولحزبه، وكلام أيديولوجي لا سند له في الواقع. > طبعاً، فاسيلي غروسمان كتب هذا الكلام باكراً، ودفع ثمنه، يوم كان شيوعيو العالم يمجدون ستالين وينددون بتروتسكي وغيره من الذين يقول لنا التاريخ غير المزور أنهم كانوا الصنّاع الحقيقيين لثورة عام 1917، وينسون لينين وماركس باكراً. لاحقاً، وفي تأخر دام عقوداً عدة من السنين، سيرى كثر ما رآه غروسمان... ليصبح بعض «روائع» الأدب والفن «الواقعي الاشتراكي» جزءاً من مزبلة التاريخ المنسي. ومن هذه الأعمال روايات للكاتب فيدور غلادكوف، كانت الواحدة منها تطبع من جانب اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي وتوزع بعشرات ملايين النسخ - ومن ثم تترجم إلى الكثير من لغات العالم لتطبعها وتنشرها مؤسسات ستالينية مثل «دار التقدم» فتصبح أناجيل مقدسة لدى أنصاف المثقفين من شيوعيي العالم أجمع - لتُقرأ كدروس في السياسة والاقتصاد والمجتمع والأخلاق... ولكن أكثر من هذا كفنّ يحتذى و «أمثولة في وصف البشر وحياتهم»، وكيف «يجب أن يكونوا تحت إشراف الحزب الشمولي الواحد»، و «من أجل غد الاشتراكية المشرق»! > من أشهر أعمال غلادكوف هذا، رواية عنوانها «الإسمنت» صدرت في عام 1925، أي بعد عام من وفاة لينين واستيلاء ستالين على السلطة، وقبل سنوات قليلة من بدء الحملة على الفنانين والكتاب الحقيقيين، تلك الحملة التي قادت كثراً من هؤلاء (مثل يسنين ومييرهولد وماياكوفسكي وترتياكوف) إما إلى الانتحار أو إلى الاختفاء. من هنا، يمكن أن يقال إن غلادكوف كان له الفوز في السباق، ما أهّل روايته لأن تنطق رسمياً باسم الأدب المطلوب واسم الفكر المنشود... ومع هذا كله، لأن غلادكوف كتب روايته باكراً أي قبل أن تتضح صورة القمع تماماً، لم تخل تلك الرواية من بعض اللحظات الانتقادية القلقة، ما دفع الكاتب نفسه، في أعمال لاحقة له إلى أن «يصلح» مساره، ويكون أكثر تحفظاً أي ستالينية باتالي. من هنا، يظل ذلك الجانب الانتقاديّ بخجل و «غير المقصود» على الأرجح في بنية عمله، فريداً في مساره... والغريب أن الطبعات اللاحقة من الرواية لم تعدل الأمور. وربما كان السبب أن الانتقادات الباهتة التي توردها، تتناول حقبة من الزمن كانت سابقة على مجيء جوزف ستالين، بمعنى أنه كان لا بأس من التوقف عند الانتقادات طالما أن «الرفيق» ستالين سيعود ليصلح الأمور بعد ذلك (!). ومن هنا، نجد كيف أن البروباغندا الستالينية، لم تقصر، حتى في استغلال هذا الجانب وإدراكه، وهو أمر يسلينا أن نلاحظه كثيراً في الآداب والفنون التي تنتج في أنظمة أيامنا هذه، الشمولية، حيث يتناول انتقاد التأريخ، غالباً مراحل سابقة على بروز السلطة الآتية فيصرف النظر عنه، إن لم يشجع أصلاً. > المهم أن رواية «الإسمنت» لفيدور غلادكوف، تدور أحداثاً، خلال الفترة اللاحقة مباشرة للحرب الأهلية الروسية، التي تلت نجاح ثورة 1917 مباشرة. والشخصية المحورية في الرواية هي شخصية العامل الشيوعي الذي كان قد ترك المصنع الذي يعمل فيه، مثل غيره من العمال، ليلتحق جندياً في الحرب. وها هو الآن يعود إلى بلدته وإلى مصنعه، فيفاجأ بأن يد الخراب طاولت المصنع الذي كان مفخرة المنطقة بإنتاجه الإسمنت والمواد الكهربائية. ويدرك غليب بسرعة أن تخريب المصنع والحياة في البلدة كلها لم يكن صدفة، بل من عمل الجيران والأعداء الذين فككوا ودمروا كل شيء ليعتاشوا من بيع المعدات وقطع الغيار في السوق السوداء... وهم دمروا وباعوا في طريقهم بيوت المقاتلين وكل ما وقعت عليه أيديهم. من هنا، في إزاء هذا الوضع، رأى غليب أن ليس أمامه من مهمة يقوم بها الآن سوى إعادة المصنع الضخم إلى حاله الأولى لكي يستأنف إنتاج الإسمنت والكهرباء. وهو يدرك منذ البداية أن هذا العمل البطولي، لا يمكنه أن يكون إنجازاً فردياً - حتى وإن كان غليب مؤمناً ككل حزبي مخلص بالبطل الإيجابي و «بالإرادة الشيوعية» التي تصنع المعجزات، كما تقول بروباغندا الحزب - ومن هنا، يجد الرجل أن أول مهماته العمل على تجييش رفاقه العمال وضخ المعنويات في صدور السكان، شيوعيين كانوا، أو كانوا في طريقهم لأن يصبحوا، على يديه شيوعيين. والحال أن غليب يتمكن في الشروع في مشروعه هذا على رغم كل العقبات التي سيصادفها في طريق مسعاه، والتي يشكل وصفها والحديث عن مقاومتها، جزءاً أساسياً من فصول الرواية، وفي مقدمها المجاعة المستشرية والهجمات التي يقوم بها «البيض» من أعداء الثورة، بين الحين والآخر، ناهيك بهبوط المعنويات العام لدى الرفاق من الذين - أمام ضخامة العمل - تستبد بهم سوداوية مهلكة... بيد أن هذا كله ليس شيئاً أمام عقبات من نوع آخر، هي هنا بيت القصيد بالنسبة إلى الجانب النقدي «الذاتي» في رواية «الإسمنت»: وهذه العقبات تتمثل هنا في البيروقراطية السلطوية والحزبية المستشرية والتي، إذ كان مطلوباً منها أن تعين المشروع وتساعده، ها هي تعرقله بتطفّلها وعقليتها البائدة وسيطرتها على كل مركز إداري، من طريق ولائها للحزب لا من طريق كفاءتها، ما يمكّنها من شلّ كل النيات الطيبة. > في هذه الرواية، التي ستكون خاتمتها سعيدة كالعادة على أي حال، وستشهد انتصار غليب في مشروعه، عرف الكاتب كيف يمجّد من اعتبرهم «البلاشفة الطيبين العاملين لخير الوطن»، موجهاً سهام نقده إلى «بلاشفة» آخرين يختبئون خلف الهرمية الحزبية لتحقيق مآربهم الخاصة. والكاتب، بين هؤلاء وأولئك رسم في حقيقة الأمر، صورة لا ممالأة فيها للوضعية التي كانت عليها الأحوال في الاتحاد السوفياتي خلال عاميه الأولين أي... قبل وصول ستالين إلى السلطة. وفي هذا السياق عرف فيدور غلادكوف (1883 - 1958) في رأي الباحثين كيف يصور بطله إنساناً مكافحاً... لكنه قلق ويطرح أسئلة كثيرة (بمعنى أنه لم يتسم بثنائية الأبيض/ الأسود، الخير/ الشر، الشهيرة والتي طغت دائماً على هذا النوع من الأبطال في الأدب الاشتراكي الواقعي)... خصوصاً أن غليب، إذ انتصر اجتماعياً ونضالياً في نهاية الأمر، دفع الثمن فشلاً في حياته الشخصية. والحال أن هذه السمات، سيعود غلادكوف صاغراً وينفيها عن الأبطال الإيجابيين الذين ستمتلئ بهم روايات لاحقة له من النمط نفسه، منها «الطاقة» و «حكايات طفولتي» و «الأحرار» و «الأزمنة الشريرة»...
نقلا عن الحياة اللندنية
|