القاهرة 09 مارس 2021 الساعة 08:47 ص
طلعت رضوان
لجأ الأديب المُـبدع نجيب محفوظ (11ديسمبر1911-30 أغسطس2006) إلى حيلة (شديدة الذكاء) ليـُـعبــّـربها عن رؤاه السياسية والاجتماعية..وهى رؤى (وإنْ بدتْ تهكمية وساخرة فى مظهرها المُـباشر) فإنها تتضمن (فلسفة) عميقة داخل عقول أبطال روايته (ثرثرة فوق النيل)
وكان محفوظ من الذكاء- أيضـًـا- عندما اختار شخصياته من المُـتعلمين، والأقرب (عند تصنيفهم اجتماعيــًـا) إلى الطبقة الوسطى..وكان من الذكاء- ثالثــًـا- عندما جعل (كبيرفلاسفة الحشاشين) أنيس أفندى الموظف بوزارة الصحة، مسئول (توضيب جلسة الحشيس) والذى وصفته الآنسة سمارة (فى مشروع مسرحيتها عن شخصيات العوامة بأنه ((نصف مجنون أو نصف ميت)) بينما هو كما ظهر فى الصفحات الأولى من الرواية، صاحب فلسفة مزج فيها السخرية بالتحليق فى فضاء الخيال، فعندما قال له رئيسه: لماذا تنظر إلى السقف يا أنيس أفندى؟ ورأى الشفقة فى عيون زملائه، حـدّث نفسه قائلا: ((فلتشهد النجوم على رثائى لنفسى، حتى الهاموش والضفادع تــُـعاملنى معاملة أكرم)) وفجأة يقفز بخواطره قفزة غير متوقعة حيث قال: "أما الحية الرقطاء فقد أدّت خدمة لا تتكرّر لمملكة مصر القديمة".
وعندما سمع زملاءه يتحدثون عن الترقيات، بينما هو لا يهتم، وصفهم ساخرًا: "يا أولاد الأقدمية المُـطلقة. أنتم فى انتظار حلم لن يتحقق..وأنا بينكم معجزة تخترق الفضاء الخارجى بغيرصاروخ".
وعندما ضبطه رئيسه يكتب بقلم خالٍ من الحبر قال له:" كيف تكتب بقلم لايكتب؟ فقال أنيس لنفسه: وكيف دبــّــتْ الحياة لأول مرة فى طحالب وفجوات الصخور؟"
وأعتقد أنّ هذا التمهيد فى الفصل الأول عن شخصية أنيس أفندى، يـُـعتبرالمدخل للعبور نحو العوامة التى يجتمع فيها أصدقاء سهرات الحشيش.
وسط هذا المجتمع الصغير فإنّ محفوظ فى تقديمه لحارس العوامة (عم عبده) جدله بخيوط الأحداث والشخصيات..ولكنه أقرب إلى الشخصية الأسطورية..فهو ضخم عريق فى القدم، هيكل عملاق يـُـناطح رأسه سقف العوامة..وهو رمز حقيقى لمقاومة الموت..ويرى ما يحدث من فسق وفجورداخل العوامة..ويرى كل رجل يختلى بعشيقته فى غرفة من غرف العوامة..وبالرغم من ذلك فهوعندما يكتمل عدد صلاة الجماعة (من زملائه حرّاس العوامات أمثاله) يكون هوالإمام..وعنما سأله أنيس: هل يـُـعجبك عملك يا عم عبده؟ قال: أنا العوامة، لأنى أنا الفناطيس والحبال..وإذا سهوتُ عما يجب عمله لحظة واحدة غرقتْ..وجرفها التيار..ضحك أنيس وقال له: صوتك جميل وأنت تؤذن للصلاة..ولستَ دون ذلك وأنت تذهب لتجيىء بالكيف، أوتغيب لتعود بفتاة من فتيات الليل..ولما غادره الرجل قال أنيس لنفسه: إنّ الإفرط فى الجنس كان السبب فى أنّ أكثر خلفاء المسلمين لم يعمروا طويلا يا خفير اللذات..ووصفه بأنه عملاق حقــًـا.. يعمل كل شيىء ولكنه لايكاد يتكلم إلاّ فيما ندر..ويـَـصْـدق عليه أى وصف..فهو قوى وهو ضعيف..وهو موجود وغير موجود..هو إمام المصلى. وهو قواد..ولما طلب منه أنيس أنْ يبحث له عن فتاة ليل..قال له لقد توضأتُ لصلاة الفجر..فقال له بأسلوبه الساخر: أتطمع فى خلود أخلد مما أنت فيه؟!..وفى ليلة أخرى قال لمن طلب منه العثورعلى فتاة ليل: قبل الوضوء أو بعده فالذنب سيقع عليك..وعندما قال له أنيس: أنت يا عم عبده ((هارب فى الإيمان)) قال الرجل ببساطته العفوية: لقد جئتُ إلى هنا فوق عربة قطار..فقال أنيس لنفسه: وربما أنت يا عم عبده من بقايا ثورة1919.
الشخصية الوحيدة التى وضعها المُـبدع من خارج شلة المساطيل هى الصحفية (سماره بهجت) التى حـدّثها رجب القاضى عن شخصيات العوامة..وأغراها بأنهم (مادة ثرية) لعمل تحقيق صحفى عن (مجتمع مستقل) يـُـعبــّـرعن نفسه بعيدًا عن المجتمع الرسمى السائد..وبناءً على ذلك تحمّـستْ للفكرة، فدخلتْ العوامة..ولكنها ظلــّـتْ مُـحتفظة بمسافة بينها وأعضاء العوامة، فلم تندمج مع عالمهم..ورفضتْ شرب البيرة أو تدخين الجوزة أى- بتعبيرمجازى بديع من المبدع- أصرّتْ على الاحتفاظ بوعيها، حتى تتمكن من رصد تصرفات هؤلاء المساطيل وتحليل كلماتهم.
وعندما خرجتْ من العوامة ذات ليلة وقد نسيتْ حقيبة يدها، فإنّ أنيس أفندى (فيلسوف العوامة ووزير الكيف) دفعه حب الاستطلاع أنْ يفتح حقيبتها، فعثرعلى (نوتة صغيرة) ولما فتحها صُـعق عندما قرأ ما كتبته الفتاة تحت عنوان (مشروع مسرحية) عن مساطيل العوامة..وكتبت فيها: مما يجب دراسته هو مشكلة المتدينين العابثين، فإنهم لاينقصهم الإيمان..ولكنهم يسلكون فى الحياة العملية مسلك العبث، فكيف نــُـفسر ذلك؟ أهو سوء فهم للدين؟ أم إنه إيمان غيرحقيقى؟ روتينى بلا جذور، يتخفى وراء ستارة لممارسة أبشع أنواع الانتهازية والاستغلال؟
وفى الصفحة التالية كتبتْ: ولكى أبسط المسألة أقول إنّ الإنسان واجه (قديمًـا) العبث..وخرج منه بالدين..وهو يواجهه اليوم، فكيف سيخرج منه؟ ولا فائدة تــُـرجى من مخاطبة إنسان بغيراللغة التى يتعامل بها..وقد اكتسبنا لغة جديدة..هى لغة العلم..ولاسبيل إلى توكيد الحقائق الكبرى أو الصغرى إلاّ بها..وليكن لنا فى العلماء أسوة ومنهج..والعلم الحقيقى هو الذى يفرض أخلاقيات نقيضة لأخلاقيات عصر تدهور الأخلاق..ومسرحيتى تقوم على فكرة أنّ فتاة تغزومجموعة من النساء والرجال لتــُـغيرهم. ولابد أنْ يكون ذلك بطريقة فنية: فتاة جادة ومساطيل مغيبون عابثون.
وفى تخطيطها لشخصيات مسرحيتها (كما كان يفعل محفوظ) كتبتْ عنهم بالترتيب التالى: 1- أحمد نصر: موظف كــُـفء..ذو خبرة مذهلة بالحياة العملية..مُوفق فى حياته الزوجية..متدين روتينى..ولكن لماذا يـُـدمن الجوزة؟..ولندع جانبـًـا ما يـُـقال عن البواعث الجنسية، فهل عنده ما يهرب منه؟ أم أنّ الجنس (خارج مؤسسة الزواج) وإدمان الحشيش، مظهر من مظاهر الهروب من إحساسه الذى يطارده بالتفاهة؟
2- مصطفى راشد: محامٍ لا بأس به..متزوج من امرأة لا يـُـحبها..وتزوجها طمعـًا فى مرتبها..ويزعم أنه يبحث عن نموذجه الأنثوى الذى لم يعثرعليه..وهويتطلع إلى المستحيل..وبلا منهج ولا جهد حقيقى..مُـعتمدًا على التأمل المسطول..كأنّ المطلق- الذى ينشده- هو المـُـبرّر للإدمان.
3- على السيد: أزهرى النشأة، له زوجتان..وهو كثيرًا ما يذكر أنه بفضل قلبه الكبير أبقى على زوجته الأولى..ولكنه خنزير كما تشهد بذلك علاقته بسنية كامل. وكناقد فنى فهو وغد كبير لأنه يؤسّـس قيمه الجمالية على المنفعة المادية، فيحيد عن الحق..ويطارده الإحساس بالتفاهة والخيانة والعبث، فيلجأ إلى الحشيش، فيتعامى عن قيم الأخلاق النبيلة، تحت تأثيرالضباب المُــنبعث من دخان الجوزة.
4- خالد عزوز: ورث عمارة فضمنتْ له حياة رغيدة..وجد مهربه فى الحشيش والجنس..والفن الهلامى الذى يفضح ما تنطوى عليه نفسه من انحلال وإباحية..ومن أمثلة قصصه التافهة قصة الزمارالذى انقلب مزماره حية تسعى..ولا أستبعد أنْ يطل علينا ذات مساء من ((شرفة اللامعقول))
5- رجب القاضى: أبوه حلاق ولا يزال يمارس مهنته فى قريته..وذلك بالرغم من ثراء ابنه ونجوميته..ورجب يـُـمكن وصفه بلا مبالغة بأنه (رجل الجنس) يعتبر نفسه إلهـًـا من الآلهة..وهو كآلهة العشق لا يخلو من قسوة..وهو كالآخرين بلا عقيدة ولا مبادئ.
6- أنيس زكى: موظف خائب. زوج سابق. أب سابق. صامت ذاهل ليلا ونهارًا. مثقف ولا يملك من الدنيا إلاّ مكتبة دسمة. يخيل إلىّ أنه نصف مجنون أو نصف ميت. يمكن أنْ تطمئن إليه كما تطمئن إلى مقعد خالٍ..وهو قابل للاستغلال الكوميدى.
وكان من رأى سمارة- كما كتبتْ- اختزال الشخصيات النسائية فى إثنتيْن: سناء الرشيدى بحيث يكون دورها (شحن) بواعث العاطفة دراميـًـا..وهى شخصية فتاة مراهقة عصرية، خليقة بأنْ تــُـضفى على المسرحية روحـًـا جذابة..ولا ضرورة لشخصية سنية كامل التى تــُـمارس تعدد الأزواج على طريقتها الخاصة..ولا إلى المُـترجمة الشقراء العانس التى تتوهم أنها ((رائدة وشهيدة)) بينما هى مُدمنة مُنحلة.
أما بطلة المسرحية فهى من خارج شلة العوامة..وكانت الصحفية سمره بهجت تقصد نفسها، بمراعاة أنها ستكون محور الصراع (العاطفى) بينها والفتاة الدلوعة (سناء) نظرًا لأنّ الممثل الشهير(رجب) بدأ يبتعد عنها..وأولى كل اهتمامه بالصحفية الجادة وانجذب إليها..وهى بدورها رأتْ أنه لا بأس من دخول اللعبة.
يرى كثير من النقاد أهمية (المكان) فى أى عمل إبداعى، لدرجة صدورعدة كتب عن هذا الموضوع..ولذلك أعتقد أنّ محفوظ كان موفقــًـا عندما اختارعوامة على النيل لتكون مسرحــًـا لثرثرة الحشاشين..ولإبراز فلسفتهم التى جمعتْ بين السخرية..وإسقاط رؤاهم الاجتماعية والسياسية والفلسفية، فأنيس أفندى يتساءل: لماذا أحيا؟ وعندما قال له مصطفى راشد: يمكن تلخيص فلسفتك بأنها بدلا من شعار(من فوق لتحت) تكون (من تحت لفوق) فقال: أنا لا أتفلسف..((وأشد أعداء الكيف التفكير)) هنا يبدو أنيس (بالفعل) ليست له فلسفة خاصة..ولكنها خدعة ومراوغة لأنه أضاف: (ولا شيء يبدو راسخ الإيمان كشجرة البلخ).وهكذا ربط قوة الإيمان ورسوخه بتلك الشجرة المُـعمّـرة..وبالرغم من دخان الجوزة فإنه- بلا مناسبة- يتساءل بمرارة: لماذا توقفتْ غزوات التتار؟ وكأنه بهذا التساؤل يـُـعبرعن سخطه على الأوضاع السائدة فى الأنظمة العربية، لأنه فى موضع آخر قال لشلة الحشيش: تذكروا كيف استقبل الفرس أول خبر عن الغزو العربى..ومرة أخرى كتب محفوظ عنه ((تلاطمتْ فى رأسه خواطرعن الغزوات الإسلامية والحروب الصليبية)) (ص101من طبعة مكتبة مصرعام1965)
وعندما وقف فى شـُـرفة العوامة وأنعشه النسيم قال: الأبراص والفئران وماء النهرعشيرتى..ولا شاهد إلاّ الدلتا..وتخيل حوارًا بينه وذاته التى سألته عن سنه، فقال: وُلدتُ بعد مولد الأرض بألف مليون سنة..وأنا برومثيوس مسطولا(ص175)
لم يكن أنيس وحده صاحب تلك الفلسفة العبثية/ الاسقاطية..وإنما شاركه فيها كل شلة المساطيل..ومن أمثلة ذلك ما قاله رجب لسمارة: كما أنّ الطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين، فإنّ مسرح العبث للعبثيين..وفى هذه العوامة تردّدتْ تساؤلات مزجتْ العبث بحقيقة التطورالعلمى..ومنها- كمثال- تأملوا يا حشاشين المسافة التى قطعها الإنسان من الكهف إلى الفضاء..وعندما نــُـهاجر للقمر سنكون أول مهاجرين هربـًـا من لا شيء..وقال رجب لأنيس: من يـُـصـدّق أنك الصامت طوال الجلسة، فقالت ليلى لعله يجتر كتابـًـا عن تدهور الحضارة..فقال أنيس إنّ الحاكم بأمر الله كان يقتل بلا حساب.
وتلك الخواطر تمتزج بالسياسة، فعدما سأل الحشاشون عن لائحة العقوبات الصالحة للحكومة قال أنيس: خير ما يصلح للحكومة لائحة الوصايا العشر خاصة بند السرقة..وعن تجاهل الحكومة لرأى الجماهير قال على السيد: السفينة تسير دون حاجة لرأينا أومعاونتا..والجماهيريخشون الاعتقال..وأنيس عندما فتح حقيبة سماره أخذ منها خمسين قرشـًـا..وقال لها: أنا مدين لك بها..ولما عبـّـرتْ عن دهشتها قال: نحن نعتبرجميع ما تقع عليه اليد فى العوامة من القطاع العام (ص131) وعندما أعلن رجب عن عزمه رفع أجره فى الفيلم إلى خمسة آلاف جنيه، هنــّـأه خالد عزوزوقال له: أنت بذلك تــُـثبت ولاءك للاشتراكية العربية.
ولكى يؤكد محفوظ أنّ العوامة صورة مُـصغرة للمجتمع السياسى والاجتماعى، أنهى الرواية بغرق العوامة، بعد أنْ قتل الحشاشون رجلا بسيارتهم..وتركوه فى الطريق..ورفضوا مساعدته..ولكن الصحفية سماره تــصر على تقديمهم للعدالة، وينضم إليها أنيس..وعندما سمع عم عبده صراخهم وعلم بجريمتهم، فكّ سلاسل العوامة لتغرق بمن عليها..وكأنّ محفوظ الذى كتب الرواية عام1965كان يتنبـّـأ بكارثة يونيو1967.