القاهرة 02 فبراير 2021 الساعة 10:18 ص
كتب: إبراهيم حمزة
"كتابة الرسائل معناها أن يتجرد المرء أمام الأشباح وهو ما تنتظره تلك الأشباح في شراهة، ولا تبلغ القبلات المكتوبة غايتها ذلك أن الأشباح تشربها فى الطريق".
هذه العبارة الواردة في رسالة من "كافكا" إلى "ميلينا" ربما هي التى منحت لكتاب "عزمى عبد الوهاب" اسمه، فأطلق عليه "أشباح فى طريق البيت" جامعًا فيه ببراعة واقتدار ثنائيات أضاءت سماء الثقافة والفكر فى العالم، وقد قدم ثماني قصص حب عربية لنبيلة إبراهيم وعز الدين إسماعيل، ثم فدوى طوقان وأنور المعداوي، ثم جبران وماري هاسكل، ثم غادة السمان وغسان كنفاني، والماغوط وسنية صالح، إلخ كما قدم الكتاب ثلاث عشرة علاقة بين كاتب وكاتب، بينما انفرد نجيب محفوظ بعلاقته بالناشر ليمثل وحده ثنائية متفردة.
• مقدمة لا غنى عنها:
جاءت مقدمة الصحفي المتميز مصطفى عبادة مؤكدة قيمة هذه المقالات الصحفية التي ظل الشاعر عزمي عبد الوهاب مترفعًا عنها باعتبارعمله الصحفي عملًا يوميًّا لا يرقى للجمع في كتب، لكنه يقرر من خلال معرفة طويلة بعزمي عبد الوهاب أنه لا يكتب إلا إذا كان لديه جديد، أوإضافة لم يلتفت لها أحد، أوإنارة زاوية غابت عن البعض غرضًا أومرضًا. والحقيقة أن مقدمة الكتاب التي كانت شهادة حقيقية بحق الكاتب لا يمكن فصلها عن الكتاب، فضلًا عن اقتناص المؤلف لفكرة ممتدة عبر صفحات كاتبه التي قاربت مائة وخمسين صفحة، تتناول العلاقات والثنائيات في الأدب والحياة.
يقول الكاتب – مثلا – عن ظاهرة أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام: "ثنائيات الحياة تتسع للجميع -رجالًا ونساء- وهي هنا ترتبط باثنين: شاعر وفنان، منذ أن بدأ ظهورهما معًا في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وهما يشكلان ما أطلق عليه المثقفون (ظاهرة إمام ونجم)، ويعتبر المفكر فؤاد زكريا هو أول من أطلق على هذا الثنائي وصف (ظاهرة)، فقد كتب في مجلة (الفن المعاصر) التي كان يترأس تحريرها، في عدد يناير 1969 مقالًا عنوانه (ظاهرة الشيخ إمام) موضحًا ذلك بأنه لم يجد لفظًا أكثر ملاءمة يعالج من خلاله هذا الموضوع الحي، والذي يمثل بالفعل حدثًا مفاجئًا في حياتنا الثقافية، عجز البعض عن فهمه، وفسره غيرهم تفسيرًا متعسفًا، ووقف الكثيرون أمامه صامتين مكتفين بإبداء نوع من التعاطف الذي لا يخلو من ترفع وتعال".
• معجزة العم محفوظ:
بهذه الحرفية يكتب "عزمى عبد الوهاب" معتمدًا على رؤية ووجهة نظر وذائقة تحدد خياراته، كذلك يعتمد على أسلوب رشيق، كأنها مشاهد سينمائية، غير مغرقة فى التفاصيل، مثلما عرض لعلاقة نجيب محفوظ بناشره سعيد السحار، يقول الكاتب "في شهادة خاصة عن بداية تعرف نجيب محفوظ إلى سعيد السحار، نقرأ ما كتبه السحار: "تعرفت بالأستاذ نجيب محفوظ -أول معرفتي به- سنة 1943 ذلك أن شقيقي الأديب الراحل عبد الحميد جودة السحار، حضر إليّ في المكتبة التي أملكها- مكتبة مصر بالفجالة- وقدمه إليّ باسم نجيب محفوظ، وقال لي إنه يحمل معه رواية من تأليفه، يرجو أن أقوم بطبعها ونشرها له، وقدم إليّ نجيب محفوظ روايته "رادوبيس"، وهي ليست أول رواية يكتبها، فقد كتب قبلها رواية "عبث الأقدار"، وكان قد طبعها ونشرها له الأستاذ سلامة موسى".
لم تكن علاقة محفوظ بالناشرين تتضمن أسبابًا مادية، منذ أن نشر كتابه الأول، حتى إنه عقب فوزه بجائزة "نوبل" لم يفكر في تغيير ناشره "مكتبة مصر"، ولم تفلح إغراءات كبرى دور النشر معه، فهو لم يسع لحظة لجمع المال، ولم يناقش هذه الأمور مع ناشره، ولم يضع شروطًا لنشر كتبه، كما يفعل آخرون، فعندما نشر له "سلامة موسى" أول كتاب ترجمه عن مصر القديمة، وبعدها رواية "عبث الأقدار" لم يحصل منه على مقابل مادي.
أبدى السحار استعداده وترحيبه لطبع الرواية ونشرها، يقول: "اعترضتني عندئذ مشكلة الحصول على الورق، الذي تطبع عليه الرواية، فقد كانت الحرب العالمية الثانية في عنفوانها، والورق معدوم تمامًا من السوق، ومهما يكن من أمر فقد حصلت على كمية من الورق من الجيش البريطاني، وطبعت عليه الرواية - 500 نسخة فقط- بناء على نصيحة نجيب محفوظ، الذي كان يخشى أن يعرضني للخسارة، بألا تستوعب السوق عددًا أكبر".
يدرس "عزمى" موضوعه بشكل استقصائى، ويقدمه بأسلوبه السلس الرشيق، بأقل عدد من الكلمات تبعًا لطبيعة الصحافة التي ربطت الكاتب بعدد معين من الكلمات، فضلا عن حرصه على رشاقة العرض، ربما اعتمد على كتب عديدة للحصول على سطور قليلة، لكنه لا ينسى وجهة نظره فى الطرح، يقول مثلًا عن ارتباط الشاعرين الفلسطينيين محمود درويش وسميح القاسم: "ما يعنينا أيضا ارتباط الشاعرين الكبيرين بضفيرة واحدة، أو على الأقل يمثلان ثنائية من ثنائيات الشعر والحياة". وذلك بعد أن بدأ مقاله بأسلوبه العذب اللمّاح بقوله: "اللهاب، كما تسميه العرب، أغسطس الحار الذي اختاره كتاب كبار للرحيل عن دنيانا، إلى دار الخلود، وما يعنينا من هؤلاء، محمود درويش وسميح القاسم، فقد رحل الأول في 9 أغسطس/آب 2008، بينما توفي الثاني في 19 أغسطس/آب2014، وعلى يديهما تحولت الخانة المكتوبة أمام هوية الفلسطيني من (لاجئ) إلى (مقاوم)".
يقول بعض الباحثين إن من يملك المعلومة يملك كل شىء، وهو كلام -فى مجمله- عفا عليه الزمن، بل ربما هو عين ما قصده الإمام أبو عمر عثمان بن بحر -الجاحظ- وهو يقول: "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في اقامة الوزن، وتمييز اللفظ وسهولته، وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع، وجودة السبك"، فالمعلومات أكثر من أن تحصى، يبقى الكاتب القادر على طرح وجهة نظر، وعلى إمتاع القارىء، فهل كان الجاحظ يصف عزمى عبد الوهاب وهو يقول: "وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه.. فإذا كان المعنى شريفًا واللفظ بليغًا، وكان صحيح الطبع، بعيدًا عن الاستكراه ومنزهًا عن الاختلال، مصونًا عن التكلّف صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة؟!