القاهرة 26 يناير 2021 الساعة 01:32 م
كتب: طلعت رضوان
الزعيم الوطني مصطفى باشا النحاس (يونيو1879- أغسطس1965) اختاره سعد زغلول ليكون ضمن المؤسسين لحزب الوفد، والأكثر دلالة أنه اختاره ليكون (سكرتير الحزب) وأصبح الساعد الأيمن لسعد زغلول منذ يوليو1920، ورافقه في وفد المفاومات الذي سافر إلى لندن.
مذكرات النحاس حققها الأستاذ أحمد عز الدين، وقـدّمها بدراسة غاية فى الأهمية، وابتدع طريقة شيقة، فبعد كل جزء من المذكرات، يأتى بعده (تعقيبه بعنوان التحقيق) المذكرات صدرت عن هيئة الكتاب المصرية عام2020.
وفي المقدمة التي كتبها الأستاذ محمد كامل البنا (والذي عاصرعهد الملك فؤاد وعهد ابنه فاروق) ذكر أنه طبع خطبة النحاس، التي هاجم فيها الإنجليز ووزعها على الناس، في يوم (وقفة عيد الفطر) وعندما مات النحاس في أغسطس1965 شارك فى تشييع جنازته، وذكر أنّ بعض مندوبي وكالات الأنباء الأجنبية قـدّروا عدد المشيعين بما يقرب من مليون إنسان، بينما الصحف المصرية مـُـنعتْ من ذكر كلمة عنه إلاّ أنه مات فقط، ورغم أنه ظلّ طوال حكم يوليو 1952 بعيدًا عن الأضواء، ولايــُـذكراسمه، فإنّ الألوف خرجوا لتشييع جنازته.
وذكر أنه جمع ما أملاه عليه النحاس، "ومن حــُـسن الحظ أنّ زوار الفجر الذين هاجموا منزلي كثيرًا لم يعثروا على ما دونته"، وأنه عثر على نوتة بخط النحاس مدوّنة بتاريخ 1932، وقارن بينها وبين ما كان يــُـمليه عليه - فجاءتْ مطابقة تمامـًـا - وذكر أنّ النحاس رفض الكثير من المناصب، التي قد تؤثر على حقوق الوطن، وأنه حورب في رزقه وفي شخصه، ونـُـسب إليه الكثيرمن الأكاذيب.
وفي المذكرات (بخط النحاس) ذكر أنه تعرّض لإغراءات كثيرة من الملك فاروق، ومن الإنجليز فكان شرطه الاعتراف بحقوق مصر، وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، وعودة دستورسنة 1923، وعودة البرلمان وفي التحقيق الذي كتبه أحمد عزالدين ذكر أنّ النحاس كان صارمـًـا في مباحثاته مع الإنجليزبشأن السودان. وأنّ مبدأ الوفد أنّ السودان (جزء لايتجزأ من مصر) بينما أصرّتْ بريطانيا على استبعاد مصر، وأنها هي (بريطانيا) المسئولة (وحدها) عن السودان، ولكن النحاس أصرّ(في المفاوضات) على النص أنّ فاروق هو (ملك مصر والسودان وأنّ التاج المصري هو تاج السودان)، وتلقى رسالة من علي الميرغني (زعيم طائفة الختمية بالسودان، أشار فيها إلى أنّ ما يربط مصر بالسودان، ليس النيل والجغرافيا فقط، وإنما يربط بينهما ما هو أهم، أي اللغة والثقافة القومية (أكثرمن صفحة..وخصوصـًـا ص205).
علم النحاس أنّ الملك فؤاد سيلغي دستور إسماعيل صدقى وبرلمانه، وعودة دستور23، وأنه سيكلف النحاس بتشكيل الوزارة، والمطلوب منه تعديل مادة واحدة في دستور23، وهي الخاصة بولاية العهد، وأنّ الملك فؤاد في حالة صحية سيئة، ولن يعيش طويلا، وأنّ ابنه لايصلح للملك، والمادة في الدستور تنص على أنه سيكون الطفل هو الملك بعد أبيه، والمطلوب تعديلها بحيث تكون ولاية العهد للأرشد من أبناء محمد علي، وكل ذلك من أجل أنْ تكون ولاية العرش لسمو الأمير(محمد على توفيق) الذي زارالنحاس، وطلب منه تعديل المادة المذكورة، ولكن النحاس قال له: يؤسفني أنْ أقول لك إني لا أوافق على عرضك، والسبب أنّ الدستور ينص على أنّ تعديله لايكون إلاّ بمعرفة أعضاء البرلمان، وأنا لا أملك هذا الحق، وإذا كان الإنجليز جادين في عرضهم الذي أقنعوك به، فاذهب إليهم وقل لهم: أنْ يحترموا الدستور، وهذا الاحترام يكون بتنفيذه دون تلاعب.
وفي موقف آخر أصرّ النحاس على رأيه، في مواجهة الملك فاروق الذي انحاز لتعيين الشيخ الظواهري لمشيخة الأزهر، بينما النحاس يميل إلى الشيخ المراغي، الذي يكرهه الملك، ويثور كلما سمع اسمه، وحسم النحاس الموقف بأنه إذا كان الملك يــُـغريني بتشكيل الوزارة، فلابد أنْ يكون ذلك في إطار أحكام الدستور. وأضاف: لابد أنْ نراعي التطورات العصرية، ولذلك أرى أنّ المراغى (ربما) يكون هو الأصلح للنهوض بالأزهر وتطويره، ومن حاولوا إقناعه بوجة نظرالملك قال لهم: أخبروا جلالته أنّ النحاس لاينظر للدين من الزاوية الحزبية، ولكنه ينظر إليه من زاوية أنه دين سماوي، وليس له علاقة بالأحزاب وألاعيب السياسة.
ومن مواقف النحاس الوطنية أنه بعد معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا، التى نصــتْ على خروج قوات الجيش البريطانى من القاهرة، ليكون تمركز الجنود والضباط فى مدن القناة، فإنّ الانجليز اشترطوا أنْ تتحمل مصرنفقات بناء الثكنات، ونفقات كل سبل المعيشة، والتنقل والسفر.. إلخ فقال النحاس: مصر سوف تلتزم ببناء الثكنات (فقط) لأنها ستبقى في مصر بعد رحيل الاحتلال البريطاني، ورفض باقي الشروط البريطانية، ورضخ المفاوض البريطاني لموقف النحاس.
ومن مواقفه الوطنية (قبل أنْ يتولى زعامة حزب الوفد، وأثناء عمله بمهنة المحاماة) ترافع عن النقراشي وأحمد ماهر بعد القبض عليهما (بتهمة قتل بعض ضباط جيش الاحتلال البريطاني، وفي دفاع النحاس، استطاع أنْ يــُـفنــّـد إدعاء النيابة، وذكر(النحاس) أنّ ما فعله النقراشي وماهر شيء معترف به عالميـًّا في حالة مقاومة الاحتلال، وبعد أنْ أنهى دفاعه اقترب من منصة القضاء، وصاح: إنْ وافقتم على مذكرة النيابة، فخذوني قبلهما، وقـدّموا رقبتي للمشنقة قبلهما، فاهتزتْ القاعة، وبعد صدورالحكم بالبراءة، قال سعد زغلول: إنّ فرحتي بمرافعة النحاس، تعادل فرحتي ببراءة النقراشي وماهر(ص207).
ونظرًا لتوجهات النحاس الليبرالية، خاصة في سياسته القائمة على (مبدأ المواطنة) وأنّ الدين لا يجب أنْ يفرّق بين أبناء الوطن، فإنّ هذا الموقف كان يثير غيظ الملك فاروق، لدرجة أنه صرّح لبعض الصحفيين أنّ النحاس يعمل مع أنصاره الوفديين (على أنْ يقلبوا النظام ليكون جمهورية) (ص386).
وعندما تم القبض على سكرتير النحاس (كامل البنا) غضب النحاس، وعلم أنّ رئيس الوزراء (أحد خصوم حزب الوفد) هو الذي وقــّـع على أمرالقبض، ثار النحاس خاصة أنّ القبض كان في يوم (وقفة عيد الفطر) فاتصل بمنزله، وأيقظه من النوم، وخاطبه بلهجة عنيفة، فاعتذرالرجل، وقال: يبدو أنه قد حدث خطأ غير مقصود، وأنه سيحاسب من تسبب في هذا الخطأ، وأمر بالإفراج عنه فورا وبدون كفالة، هذه الواقعة حدثتْ فى بداية الليل، وأصرّالنحاس على أنه لن ينام إلاّ بعد الاطمئنان على سكرتيرمكتبه (ص389).
ربطتْ الصداقة العميقة بين النحاس، وكلٍ من الأب الروحي للشعب الهندى (المهاتما غاندي) وكذلك نهرو وابنته أنديرا، لدرجة تبادل الرسائل، حول سلاح (مقاطعة البضائع البريطانية)، وتشجيع الصناعة الوطنية، وتطوّرتْ الصداقة لدرجة وصول نهرو وابنته إلى مصر، وقد استقبلهما النحاس بالحفاوة الواجبة، وأثنى على أنديرا لأنها تلتزم بالزي الوطني (الساري) وكانت لاتزال فتاة صغيرة، وفي هذا اللقاء كانت السياسة الدولية على وشك الحرب بين ألمانيا وبريطانيا، فقال نهرو: لو دخلتْ بريطانيا الحرب، فإنّ الإنجليز سوف يــُـرغمون شعبنا الهندي على مساعدتهم ضد الألمان، وأضاف: ونحن لا نملك السلاح لمعارضتهم، إنّ سلاحنا الوحيد هومقاطعة بضائعهم، وهي المقاطعة التي بذرها زعيمنا غاندى، فأيده النحاس على رأيه، وأبدى رغبته في التعاون بين الشعبيْن المصرى والهندي، وطوال أيام الزيارة تحدث نهرو عن سياسة غاندى القائمة على المقاومة السلمية، وعن التسامح من منطلق التعددية الثقافية (ص384).
أشاد النحاس بموقف العقاد عندما تحدى المندوب السامي، الذي اعترض على القانون الذي وافق عليه حزب الوفد (قانون حرية الاجتماعات)، ولما علم أعضاء مجلس النواب بموقف مندوب الاحتلال ثاروا وأصروا على التمسك بالقانون. وقال الأستاذ العقاد: إننا على استعداد لتحطيم أعلى أكبر رأس في مصر تقف حائلا دون مضى البرلمان في عمله، أو المساس بالدستور الذي هوسيد القوانين، وبعد بلاغ النيابة صدرالحكم بحبس العقاد سنة مع الشغل، ولما خرج من السجن زاره النحاس في بيته، وهوما أغضب الملك وبطانته، وجاءه مندوب من السراي، وقال له إنّ الملك يعرض عليك تشكيل الوزارة، وعودة دستور 23 وانتخابات حرة، مقابل مطلب واحد، هو أنْ تفصل العقاد من الصحف، والهيئة الوفدية، فقال النحاس لمندوب السراي: إنّ العقاد تعرّض للسجن، ولم يرتكب جريمة، وكل ما قاله: إننا مستعدون لتحطيم أكبر رأس تحاول العبث بالدستور أو تعطيل الحياة النيابية، فإذا كان الملك لايؤمن بالدستور فكيف يــُـعيده؟ (ص75)، وبالرغم من موقف العقاد الوطني، وأمانة النحاس في تسجيل موقفه، فإنّ موضوعية النحاس جعلته يذكر بعض المواقف النقيضة، حيث إنّ العقاد كتب سلسلة مقالات عنيفة، وبها بعض الألفاظ المـُـعاقب عليها قانونــًـا ضد (توفيق دياب) رئيس تحريرصحيفة الجهاد، وروزاليوسف، فكتب دياب مقالا وصف فيه العقاد بأنه (مصاب بجنون العظمة والغرور، ومتقلب في آرائه، وبعد ذلك استمرالعقاد في هجومه على حزب الوفد وصحفه، وعرف الناس أنّ العقاد انحرف، وقد أشار البعض على النحاس بمقابلة العقاد، وتصفية الخلافات، وعند اللقاء قال العقاد للنحاس: أنت زعيم حزبي، بينما أنا كاتب الشرق بالحق الإلهي (ص182).
وبعد أنْ رفض طه حسين عرض الملك أنْ يرأس تحرير جريدة ستكون لسان القصر بعنوان (الشعب) اشتد الغضب عليه، وخاف المقرّبون منه الاجتماع معه، حتى لا يتعرّضون للفصل من أعمالهم، فإذا بالنحاس يزوره في بيته، وسمع ابنه (مؤنس) وهو يتلو بعض آيات قرآنية، فكان تعليق النحاس: فلماذا اتهمه شيوخ الأزهر بالزيغ في العقيدة، بعد معركة كتابه (في الشعرالجاهلى)؟ وبعد طرده من عمادة كلية الآداب للعمل بوزارة المعارف، وكان سلاح المكيدة اتهامه بأنه (على اتصال بجهات أجنبية) فخرج الطلاب والطالبات في مظاهرات مدافعة عن طه حسين، ومنددة بحكم الاستبداد، فإذا بخصوم طه حسين من الشيوخ يـتهمونه (بنشر الإلحاد والكفر داخل الجامعة، ويسمح للبنات بالجلوس بجانب الطلبة الذكور، وهذا الفعل الآثم (مخالف للقرآن).
كان تعقيب محررالمذكرات: هنا يبرز الفرق بين سعد زغلول الذي وقف ضد طه حسين في محنة كتابه: في الشعر الجاهلي سنة1926، وشبــّـهه بالبقر لأنه لم يفهم الإسلام، بينما كان موقف النحاس مختلفــًـا وساند طه حسين في كل الأزمات التي تعرّض لها (من ص89- 106).
وعن طلعت حرب اعترف النحاس بفضله عليه، حيث إنّ خصوم النحاس فى وزارة معادية للوفد (حاربوه في رزقه) حيث صدر أمر بتخفيض معاشه من 125 جنيهــًـا إلى 67جنيهــًـا، وهذا المعاش كان بالكاد يكفي تكاليف معيشة تسعة أشخاص هم شقيقته وأولادها الثمانية، وكان هذا الموقف من أصعب المواقف التي مرّتْ بالنحاس، وبدأ في التفكير في البحث عن حل: وبعد أنْ رفض كل الحلول التى قد تعرّضه لذل السؤال، لجأ لبنك مصر، وقابل طلعت حرب الذي- بمجرد أنْ عرف المشكلة طلب من سكرتيره تحويل مبلغ خمسة آلاف جنيه باسم مصطفى النحاس (مع ملاحظة أنّ هذا المبلغ كان فى سنة1930، عندما كان الجنيه المصري أغلى من الاسترليني، ويعادل خمسة دولارات) ولما قال النحاس ولكننى لم آت بضامن يضمننى لسداد هذا المبلغ الكبير، قال طلعت حرب: يا باشا إذا كانت مصر كلها ونحن من أبنائها ائتمناك على قضيتنا، فألا أئتمنك على عدة آلاف من الجنيهات؟
وفي واقعة ظريفة دخل النحاس مسجد عبدالوهاب الشعراني (بحي باب الشعرية) لأداء صلاة الجمعة، فإذا بكل سكان الحي يتجمهرون حول المسجد لتحية النحاس، وبعد انتهاء الصلاة، وعند الخروج من المسجد لم يجد النحاس ولا من معه أحذيتهم، وتبين أنّ العساكرقد أخذوها بأمر المأمور، واختتم النحاس هذه الفقرة قائلا (وخرجنا من المسجد حفاه) (ص99، 100).
ومن مظاهرالتعددية الثقافية التى أعقبتْ ثورة شعبنا فى شهربرمهات/ مارس 1919، أنْ شارك بعض المسيحيين فى كتابة دستور23 والأكثردلالة وأهمية أنّ يوسف أصلان قطاوي (رئيس الطائفة اليهودية المصرية) شارك أيضــًـا في كتابة الدستور(ص102) وذكر النحاس واقعة غاية في الأهمية تدل على النسيج القومي المصري، فعندما حدث خلاف بين حزب الوفد والحكومة، حول ضريح سعد زغلول، اجتمعتْ الهيئة الوفدية، بحضور ويصا واصف (رئيس مجلس النواب) الذي توجه (ومعه باقى الأعضاء) إلى مبنى مجلس النواب، فوجدوا الحرس البرلماني يسد عليهم الطريق، فطلب منهم ويصا واصف أنْ يبتعدوا عن طريقهم ففعلوا، ولكن عندما أمرهم بفك السلاسل الحديدية امتنعوا عن التنفيذ (خشية عقابهم من وزيرالداخلية) فإذا برئيس مجلس النواب (ويصا واصف) يبحث عن أي آلة حديدية، ويمسك بها ويحطم السلاسل، ومن هذا الموقف عــُـرف ويصا واصف بأنه (مـُـحطم الأغلال) ومن صورالنسيج القومي لشعبنا أنه عندما تعرّض النحاس لمحاولة اغتيال (وقد تكرّرت كثيرًا) ومنها تصويب سكينة حادة إلى صدره، وفي لحظة خاطفة تقـدّم (سينوت حنا) وتلقى الطعنة في صدره، وجـُـرح جرحــًـا بالغــًـا وعميقــًـا (ص63)، وعندما كتب متعصبون دينيـًا شكوى للنحاس مضمونها أنّ وزارته تنحاز للمسيحيين ضد المسلمين، ردّ عليهم ردًا قاسيـًـا، ونفى أي انحياز، وقال جملته الخالدة: "لا فرق بين مسلم ومسيحي لأننا مصريون قبل الأديان، ومصريون بعد الأديان"، وكان النحاس في هذا الشأن يعى خطورة استخدام (سلاح الدين) وتوظيفه لأغراض السياسة، وهوما طبقه الإنجليز في الهند (سلاح فرّق تسد) وحاولوا تطبيقه في مصرعندما أيــّـدوا شيوخ الأزهر حول (تتويج فاروق) باحتفال إسلامي، وتشجيع الأزهريين الذين هتفوا بأنْ يكون فاروق هو(خليفة المسلمين)، وهو نفس الأمر الذي فعلوه مع والده، كان الاقتراح أنْ يكون التتويج بمباركة شيخ الأزهر بحفل ديني في القلعة، ولكن الوفد رفض الفكرة، وقال النحاس: إنّ تتويج الملك لابد أنْ يكون عن الطريق الدستوري، أي من خلال البرلمان، ويحلف اليمين الدستورية أمام الأعضاء وموافقتهم (240).
وفي هذا السياق ذكر النحاس وهو يؤرّخ لعام 1937، أنه تلقى رسالة من الملك عبد العزيز آل سعود يعترض فيها على (تسييرالمحمل، وكسوة الكعبة من مصر إلى الكعبة، وأنّ تعاليم الإسلام لا تقبل احتفالا، ولا تسمح بالموسيقى والعزف والبدع التي تصاحب المحمل، وقال جلالة الملك أنه: إذا جاء المحمل بالموسيقى فسيرده من الميناء) وكان تعقيب النحاس أنه غضب واستاء من هذه الرسالة، وطلب من الأستاذ محمد البنا (مدير الشئون الدينية بمجلس الوزراء) بإعداد مذكرة للرد على الملك السعودي، متضمنة وجهة نظر مصر في هذا الشأن، وجاء في الرد: إنّ الاحتفال التقليدي بالمحمل، والذي يبدأ من القاهرة كعادتنا، وعلى رأسه مسئول مصري، وتظل الفرقة الموسيقية بالباخرة (بعد وصولها مكة) إلى أنْ ينتهى موسم الحج، وتعود الباخرة إلى مصر، والحل الوسط (كى نــُـرضي الملك السعودى) وهو تجهيز باخرة أخرى، وتقف فى الميناء المصري، وعليها فرقة موسيقية، وتعزف ما تعوّدنا عليه طوال سنوات (243).
ولكن هذا الزخم الوطني الذي لم يعترف بالتفرقة بين أبناء مصر، وقف ضده الإخوان المسلمون بقيادة حسن البنا، من خلال تعاملهم مع الملك فؤاد ثم مع فاروق، وتعاملهم مع رموز الاحتلال البريطاني، كما تعاملوا مع إسماعيل صدقي (رئيس الوزراء سيىء السمعة) وقمعه للجماهير، واستخدموا القرآن لتجميل صورة هذا المستبد فقالوا في مظاهراتهم (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه صادق الوعد) (ص158، 228) وجاءتْ الطامة الكبرى من شيوخ الأزهر الذين تعاونوا مع قوات الاحتلال، ولذلك اشترطوا على النحاس (عند تشكيل الوزارة) أنْ يختار وزيريْن (غير وفدييْن) (ص119)، وأنّ المراغي (شيخ الأزهر) يقوم بدور كبير للتشهير بحزب الوفد، وتشويه صورته (ص245)، ولذلك فإنّ بعض الصحفيين والسياسيين أطلقوا على الشيخ المراغى أنه ((راسبوتين مصر))(ص380) وهذه الصورة السلبية التى تحط من شأن شيخ الأزهر، جعلتْ كثيرين من رجال الأزهريعترضون على تصرفاته..وقالوا: إننا لانقرالشيخ المراغي على السيرفي ركاب فاروق، ولا نرضى عن تحريض طلبة الأزهرعلى القيام بمظاهرات تؤيد الملك، (وتهتف له في الشوارع، ونرفض أن يكون شيخ الإسلام ذليلا للملك، حرصــًـا على كرامة الأزهر) (ص387).
وبالرغم من أنّ النحاس اختلف مع السيدة فاطمة اليوسف صاحبة جريدة ومجلة (روزاليوسف) وكانت منتمية لحزب الوفد، ولكنها في مواقف عديدة رفضتْ سياسة الوفد، ومع ذلك فإنّ النحاس يعترف بدورها الوطني في مواقف كثيرة، ومن بين تلك المواقف أنها كتبتْ عن شخصية (على ماهر) أنه (هوالمسئول عن تدخل الملك في شئون الحكم، وعن إحاطته بحاشية من الحثالات، ومن مواقفها الوطنية، أنها رفضتْ طلب أحمد حسنين (رجل فاروق المقرب) أنْ تــُـقنع ابنها إحسان الطالب فى كلية الحقوق، بأنْ يتجسس على الطلبة، وينقل أخبارهم إلى القصر) (ص425) لم ترفض هذه السيدة الوطنية هذا الطلب المشين (فقط)، وإنما أعطتْ رجل فاروق درسـًـا فى قيم الأخلاق الفاضلة، وذكــّـرته بمواقفها ومواقف ابنها ضد سلطة الاحتلال البريطانى.
ومن بين ما سجله النحاس في مذكراته أنه أشاد بموقف المكة فريدة (زوجة فاروق المغضوب عليها، ووصفتها الملكة نازلي بأنها (فلاحة)، ولكن (هذه الفلاحة) امتلكتْ رؤية سياسية صائبة، وكثيرا ما حذّرتْ فاروق من بطانة السوء المـُـلتفة حوله، وكان من رأيها أنّ (على ماهر) أحد الذين أفسدوا فاروق (سياسيـًّا ودستوريـًّا) حيث علــّـمه التحكم فى بنية الحكم، وكيف يــُـجبر الوزارات على الاستقالة، وعلى حل البرلمان، والمفارقة أنه هوالذي حمل إلى فاروق (وثيقة تنازله عن العرش) في يوليو1952 (ص402).