القاهرة 12 يناير 2021 الساعة 08:42 ص
كتب: عاطف محمد عبد المجيد
حقًّا، نحن نواجه عالمًا زاخرًا بالمتناقضات، يتوازى فيه تكتل دُوَلِه مع تفتت دُويلاته، ولا يفوق نموه الاقتصادي إلا زيادة عدد فقرائه، وها هي شبكة الإنترنت التي أقيمت أصلًا لاتقاء ضربة نووية محتملة ربما أقدمَ عليها الخصم السوفيتي آنذاك، ها هي تلك الشبكة وليدة الحرب الباردة يروجون لها كأداة مُثْلى لإشاعة ثقافة السلام ونشر الوفاق والوئام بين الأنام.
إنها البشرية تمارس هوايتها الأبدية في مزج الآمال بالأوهام.
هذا ما يُصرح به د.نبيل على في كتابه "الثقافة العربية وعصر المعلومات.. رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي"، الذي صدر في طبعتين أولاهما عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت وثانيهما بالقاهرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة الثقافة الرقمية.
يتساءل د. نبيل علي بداية فيقول: ما كل هذا الضجيج حول الإنترنت وطريق المعلومات الفائق السرعة؟ وكيف أصبحت هذه الأمور ذات الطابع الفني قاسمًا مشتركًا في سياسات الحكومات وبرامج الأحزاب السياسية من الحزب الديمقراطي الأمريكي إلى حزب العمال البريطاني ومن حكومة سنغافورة إلى حكومة ساحل العاج؟
الزمان اختلف
ويواصل قائلًا: ما كل هذا الذي يجري من حولنا؟.. أليس لنا أن نصدق قول الشاعر أبو سنة: "آن لنا أن نعترف بأن الزمان اختلف". ولكن أين هي يا شاعرنا تلك الخيول التي كان وَقْع أقدامها يصنع الآمال؟! فلم يعد لهذه الخيول موقع قدم على طريق المعلومات الفائق السرعة ولينج بنفسه من يستطيع. ولا عاصم اليوم من إعصار المعلومات إلا بأن نلهث لنلحق بالمركبة فقد صار شعار هذا العصر: فلتلحق أو انبطح أرضًا ليدهمك الركب المنطلق. ثم يتساءل المؤلف: هل ستعيد تكنولوجيا المعلومات للمثقف مجده القديم؟ بعد أن همشت تكنولوجيا الصناعة دوره حتى كاد أن يصبح المثقف ديكورًا اجتماعيًّا أو خادمًا للسلطة أو مناضلًا بسيوفه الخشبية ينزف أحبارًا وألوانًا وأنغامًا يودعها سجون الأوراق واللوحات والشرائط والأقراص. ثم يواصل: هل ستعيد له مجده القديم أم ستحيله تكنولوجيا المعلومات وصناعة الثقافة وتسليعها إلى مُثمِّن ومروِّج أو في أحسن الأحوال إلى مورد للمواد الثقافية الخام ونصف المصنَّعة بعد أن أصبحت مسئولية التصنيع النهائي لمواد الثقافة مسئولية القابضين على زمام القوى الرمزية داخل المجتمع.
ظاهرة الإنترنت
ويكمل تساؤلاته قائلًا: أين يكمن جوهر العلاقة بين المثقف وتكنولوجيا المعلومات؟ ويجيب: وسيلتنا للوصول إلى هذا الجوهر هي إقرارنا بأن مهمة المثقف الحقيقية هي تطبيق الفكر على الواقع من حوله واقتراح تكتيكات عملية تعين جماهيره على التعامل مع تناقضات هذا الواقع من أجل تحسينه أو تغييره. وفي الاتجاه نفسه يكمل د.نبيل علي فيقول: لا شك في أن تكنولوجيا المعلومات يمكنها أن تكون خير عون للمثقف للإطاحة بواقعه واستخدام بدائل عديدة لابتكار تكتيكات جديدة ولنأخذ مثلًا من الإنترنت في كونها وسيلة فعالة لكي يجدد المثقف عُدّته المعرفية ويُحدِّث رصيد مهاراته ويشحذ قدراته التواصلية.
أما عن ظاهرة الإنترنت فيقول المؤلف: تحدث كثيرون مفكرون وإعلاميون وفنيون عن الإنترنت ذلك الماموث الشبكي الكوكبي ذي الفضاء المعلوماتي المتناهي الضخامة.. الدائم الامتداد والانتشار والذي يقدر عدد رواده حتى العام 2004 بثمانمائة مليون نسمة. إنها الغابة الكثيفة من مراكز تبادل المعلومات التي تختزن وتستقبل وتبث جميع أنواع المعلومات في شتى فروع المعرفة وفي جوانب الحياة كافة. وفي هذا الصدد يضيف المؤلف: على الرغم من انتشارها الهائل وتعدد استخداماتها ما زالت الإنترنت في مهدها. ومع عمرها القصير باتت تشكو من الاختناقات وفوضى المعلومات وتلوثها وأزمة قمامتها. هذا ويستطرد فيضيف: لقد فتحت الإنترنت بوابات الفيضان المعلوماتي على مصاريعها لتصبح مشكلة الإفراط المعلوماتي من أخطر المشاكل التي نواجهها حاليًا. وفي موضع آخر يقول المؤلف: تمثل الإنترنت بالنسبة لنا نحن العرب تحديًا ثقافيًا قاسيًا على الجهات جميعها، سواء فيما يخص مضمون رسائلنا الثقافية وقيمة تراثنا عالميًّا وفاعلية مؤسساتنا الثقافية الرسمية وغير الرسمية. أو فيما يخص أساليب حوارنا فيما بيننا ومع الغير. أصبحنا مهددين في ظلها بفجوة لغوية تفصل بين العربية ولغات العالم المتقدم، تنظيرًا وتعليمًا واستخدامًا وتوثيقًا. مثلما نحن مهددون بضمور شديد في إنتاجنا الإعلامي والسينمائي وإبداعنا الفني ومهددون أيضًا بسلب تراثنا من فنون شعبية وأغانٍ ومقامات موسيقية وأزياء وطرز معمارية. في المقابل، والقول للمؤلف، تفتح الإنترنت أمامنا فرصًا عدة لتثبيت دعائم ثقافتنا العربية بصفتها ثقافة إنسانية عالمية أصيلة وتعويض تخلفنا في كثير من مجالات العمل الثقافي.
الثقافة العربية
وعن صورة الثقافة العربية على الإنترنت يقول المؤلف: بداية نقول إنه لا يمكن أن تكون صورة الثقافة العربية على الإنترنت إلا انعكاسًا أو نتاجًا فرعيًّا للمشهد الثقافي العام، وموقف التأزم الحضاري الذي يسود عالمنا العربي، ولا يمكن لحوارنا مع الآخرين عبر الإنترنت أن ينفصل عن أحوالنا الداخلية وأوضاعنا السياسية أو الاقتصادية. فشبكة الإنترنت بوضعها الحالي ما هي إلا أداة لطرح نتاج الفكر وأنشطة المؤسسات الثقافية والعلمية. وهي بذلك تعد مرآة كاشفة لمدى حيوية المجتمعات وهمة أفرادها وواقع ظروفها ونوعية الخطابات التي تتفاعل بداخلها. ويستطرد قائلاً: يمكن تلخيص الملامح البارزة لصورة الثقافة العربية والحضارة الإسلامية على الإنترنت في النقاط الرئيسة التالية:
- غياب عنصر التنسيق والمشاركة في المواد.
- المشهد الحزين لثقافتنا العربية ناتج عن تقاعسنا واسترخائنا.. أكثر من كونه نتاجًا لما يقوم به الآخرون من تشويه وطمس.
- يعيب خطابنا الثقافي على الإنترنت انعزاليته المعرفية والتاريخية.
- كثيرًا ما يتناقض خطابنا الثقافي مع نفسه.
هذا ويحتوي هذا الكتاب القيم الذي يقع في ما يقرب من ستمائة صفحة، على عدة موضوعات أخرى تتعلق بتكنولوجيا المعلومات والفكر الثقافي ومنظومة القيم والمعتقدات وثقافة الإبداع الفني.
ويختتم د.نبيل علي كتابه قائلًا: وفي النهاية ليكن سؤال البداية: من أين نبدأ؟ قناعة الكاتب: أن البداية في التربية، والمدخل إليها هو اللغة، وركيزة كلتيهما هي الثقافة، ثقافة تكامل المعرفة وصدق الإيمان، وكلاهما رهن بتوافر الحرية.