القاهرة 08 سبتمبر 2020 الساعة 11:51 ص
حوار: صلاح صيام
داخل كل مبدع رحلة قطعها –بحلوها ومرها- ليصل إلى المتلقي الذي غالبا لا يعرف عن هذا المبدع شيئا إلا ما يصل إليه من إنتاجه الإبداعي. وفى هذه السلسة نرصد حياة المبدعين، ونخوض فى أعماقهم علنا نقدم للأجيال الحالية، التى فقدت البوصلة, وأصابها شيء من الإحباط.. صور مشرقة تعينهم على تحمل متاعب الحياة، وتكون نبراسا لهم فى قادمهم..
واليوم نكمل رحلتتنا مع المبدعة التونسية نورة عبيد فى الجزء الثانى من شهادتها..
كان المنقذ هو الكتاب، هناك اهتديت إلى المكتبة العموميّة بالمدينة، كنت أنهي قراءة كتابيْن في أسبوع، وحين آمنت بي المشرفة على المكتبة،يسّرت أمري، فشرّعت لي بأربعة كتب كلّ نصف شهر.. بات الكتاب بديلا عن رحلة العذاب بالمعهد وأنا تلميذة مقيمة بالمبيت.. ولأنّني كنت مجتهدة حظيت بمعاملة خاصّة من طرف القيّمة العامّة, لكنّها سرعان ما زالت، فأنا أحرّض التلاميذ على رفض هذا النظام الداخليّ المقيت، كنت أطالب بحقّنا في المطالعة إذا لازمنا أسرّتنا، و حقّنا في اصطحاب مذياع لمتابعة برامج نحبّها.. وفعلا سمحت لي القيّمة العامّة باصطحاب مذياع بعد بكاء ونواح ورفض للأكل. كنت أختلس كتابي الذي أطالعه من قاعة المراجعة إلى المبيت، وأقرأ على ضوء القمر النافذ من الشبابيك الشّفافة المكسّرة أو ضوء الناظور المتعامد مع الشباك القادم من الميناء -ميناء مدينة قليبيّة-.. الكتاب أنقذني .
وبدأ طلبي على الكتب يتهافت، كنت أبتدع الحيل لأبي لأشتري مجلات وكتبا أحببتها خاصّة إذا نصح بها أستاذ.. كنت أكذب على أبي ليزيد من مصروفي الجيبي لأشتري ما أريد، فألحق ذلك بطلبات مدرسيّة، وأنّى له أن يتجاهلها.. كنت بغباء أطالب كلّ أسبوع بشراء معجون للأسنان وصابون ومناديل ورقيّة.. واكتشف أبي وجدّي حيلتي واندرجا معي في تغاب محبّ.. أذكر أنّي قرأت على جدّي مقاطع من روايات وكتب أحببتها.. وكان يجاملني في استعذابها.. كان يردّد أنّ التاريخ الذي يرويه أصدق من التاريخ الوارد بالكتب.
ظننت أنّ العالم ملكي بكتاب وعائلتي السّعيدة وحقلنا الممتدّ الذي يمنحني حريّة الرّكض والدلال والهبال.. كنت ضيفة بمنزلنا كأنّني في العطل أستعيد جدارة إنسانيّتي ،فأنسى قسوة الحياة بالمبيت وعلى ذلك أشتاق لمقاعد الدراسة أثناء كلّ عطلة، وأشتاق لأصدقائي كما أشتاق للعبث والكتب. كان أبي يطفئ نور الغرفة إذا تأخّر الوقت وأنا ملتحمة بقصّة أو رواية، فأنا أقلّل من راحة إخوتي الذين يشاركونني الغرفة فلا غرفة خاصّة بي.. كنت أنتظر إذا أطفأ أبي عليّ النور الكهربائيّ أن ينام حتّى أتسلّل إلى غرفة المؤونة وأشعل شمعة ولا ينقطع الشمع عن المنزل تحسّبا لانقطاع النور الكهربائيّ وأواصل رحلتي ومتعتي وصخبي.
كلّ العالم في الكتاب الذي قادني إلى لغتي في رضاء على أدائي في التحرير والإنتاج وإجماع أساتذتي على أنّ لي حساسيّة الأدباء والشعراء، وكان ذلك يعادل تفوّقي في كلّ شيء، حتّى ضجّ الحبر بالورق وشرعت أكشف ما أخطّ من محاولات في الكتابة الأدبيّة وجنسها الشعر.. شاركت بملتقى الأدباء الشبان بقليبيّة وأنا طفلة، ولأوّل مرّة أكتشف الشعراء والكتّاب ويتبدّل حال الليل وحال الناس، لم يعد سباتا ولا معاشا، بات الليل سهرا وعشقا وحبا وانفلاتا وبحرا وسحرا ومقهى سيدي البحري والطريق الطويل من دار الثقافة إلى مرسى السهر ..هل تحمّل قلبي ومرآي كلّ ذلك؟لا أعتقد.
بات العالم ملكي وبت سيّدة حرف بيني وبين نفسي، وغادرت المبيت,وبات نيل الكتب أيسر وتأثيرها أشدّ وأبقى.. لم أنتبه كيف بلغت الباكالوريا، انتبهت لجسدي كيف نما ولأسئلتي كيف احتدّت وللقضايا القوميّة ولا سيما القضيّة الفلسطينيّة كيف باتت هاجسا، وتسلّلت إلى القراءات الفكريّة المرهقة.. وكم كان ذاك الإرهاق لذيذا، فقد زاد من دهشتي وتأمّلي وعزلتي المبكّرة، كأنّ كلّ حياتي مختزلة في الكتاب.
أذكر مرّة تخلّفت عن التسليم على ضيفة بمنزلنا بسبب رواية لم أستطع قطع الفصل الذي أنا بصدد قراءته، ولمّا أنهيته التحقت بإخوتي لأسلّم وأشاركهم الجلسة، استغربت يومها تأخّري وولعي بالكتب والانزواء فعلّقت قائلة: "مهما كان الحظ الذي ينتظرك والمهنة التي ستكتب لك، فلا بدّ أن تبرعي أوّلا في الطبخ..فالرّجال لا يحبّون المرأة المثقفة.. إنّ المائدة هي الأولى".. يومها سخرت منها .والآن أعي ما قالت.
إنّ هذا البطء الذي أحدّثكم به عن الكتاب له ثمن، فليست القراءة عملا سهلا ولا حبّ الكتاب والمكتبات مطلبا يسيرا، ولا بذل الجهد في بلوغهما بالمتاح دائما في عائلة ريفيّة، فالأولويّة الأولى والمطلقة للنّجاح الدراسيّ والتعاون في الأعمال الفلاحيّة،وتأمين عيش كريم لكلّ فرد من أفراد العائلة الكبيرة فيه دور.. وليس الإصرار على القراءة أقلّ قيمة من الإصرار على الحياة.. فكان لساني لا يهنأ إذا كان الحديث عن الكتب.. وتلك العادة عادة القراءة ألهتني عن مصاحبة أهلي والانتباه لمصاحبتهم؛نسيت أمّي وإخوتي وزيارة الأهل ومشاركتهم أحزانهم وأفراحهم، حتّى غيّب القدر أمّي في خفّة وثقل لا يغتفر.. بغتة سحبت خطى أمّي من على الأرض فتزعزع كلّ شيء كلّ شيء.. كان ذلك سنة الباكالوريا، ذات مارس يوافق عيدي الشباب والاستقلال.. تلك الزعزعة غيّرت مساري ومسار أسئلتي وقراءاتي وكتاباتي،وانتبهت للغياب.. كنت أعتقد أنّها ملكي.. وجودها حتميّ لا يطاله خطأ، فحسم أمري وعرفت يقيني وصوابي ودائي وشفائي هوالقلم ولا شيء غيره.. ونكمل فى الحلقة التالية بإذن الله.