القاهرة 18 اغسطس 2020 الساعة 09:26 ص
كتب: حاتم عبد الهادي السيد
عانت قارة إفريقيا كثيراً بسبب قضايا العنصرية عبر قرون متتالية من ويلات الاستعمار والتمييز العنصرى، حتى وصفت بالقارة السوداء، وظلت الشعوب في اضطهاد من البيض الذين استولوا على الثروات والحكم ومقدرات الأمة الإفريقية، ثم جاءت الحربين العالميتين الأولى والثانية،لتصبح إفريقيا تحت السيادة البريطانية التى أذاقت الشعوب الويل والقتل والتشريد،بل سعت بريطانيا بكل ما تملك لطمس الهوية واللغة، ونشر الثقافة الإنجليزيةعن طريق التعليم، وفى شتى مناحى الحياة.
وقد انعكس ذلك بالطبع على الأدب، لكن الأدباء والمثقفين تمسكوا باللغة الإفريقية ونقل تراثهم الحضارى والثقافى الأممى، إلا أن بعض الكتاب ارتأوا تعلم الإنجليزية، والكتابة بها لكسر شوكة الاستعمار، ولنشر قضاياهم المصيرية، وكشف زيف الاستعمار البريطانى الذى كان يروج لتنمية إفريقيا وتحضّرها، لكن الإرسالات التبشيرية لنشر المسيحية قد نجحت شيئاً ما في ارتداد كثير من السكان عن دينهم، وقوميتهم، وتراثهم تحت شعارات التحضر باسم الكتاب المقدس،وقد ساعدهم في ذلك الفقر المدقع ، وظهور حركات الإغراءات المالية كذلك. ولقد ظلت الثقافة الإفريقية (خاصة الشعر والرواية) هى المسمار الذى كان سبباً في تقويض عرش الإمبراطورية الإفريقية.
لقد تنبه بعض الكتاب والمثقفين إلى ضرورة استعارة لغة الآخر، وتوظيف ثقافته الغربية للرد على ممارسات المستعمر لإحداث الصبغة العالمية، بتوجيه الخطاب للغرب بلغته ذاتها، ولقد أنتج ذلك الوعى غزواً ثقافيا مضادا، لنشر قضايا القارة الإفريقية عالمياً، وفضح ممارسات الاستعمار بين الدول والحضارات الغربية وفى شتى أنحاء العالم...
ولقد جاءت قضايا الاضطهاد والتمييز العنصرى من قبل الاستعمار على رأس أولويات المثقفين الأفارقة، بل إن بعضهم سعى بعد تعلّم الإنجليزية ـ للسفر والإقامة والعمل في بريطانيا ومؤسساتها الصحفية للكتابة عن قضايا إفريقيا، كما سعى الكثيرون من خلال مقالاتهم ورواياتهم وأشعارهم لجعل قضايا القارة الإفريقية على طاولة مشكلات العالم، حتى تحررت إفريقيا ونالت الاستقلال بعد ذلك.. وتعد الشاعرة/ جريس نيكولز واحدة من أهم من تحدثوا في قضايا أفريقيا.
ولدت جريس نيكولز في مدينة جويانا عام 1950م، وهى إحدى الشاعرات التى تعلّق قلبها "بأفريقيا السوداء".. وفى ديوانها: "قصائد امرأة سوداء بدينة"- والذى ترجمته/ نانسى سمير 2002م- نرى الوطن وقضاياه متجسداً في صورة تلك المرأة الإفريقية السوداء ـالبدينةـ التى تجاهد بكل الطرق للدفاع عن جنينها الأسود ضد الاضطهاد، وفى سبيل ذلك، رأيناها لا تفقد الأمل مطلقا، بل رأيناها ترفع شعار: "أن تموت ممتلئاً بالأمل، أفضل من أن تعيش بيأس هزيل".. تقول: (الجمال هو/ امرأة بدينة/ تمشى عبر الحقول/ وتضغط زهور الكركديه/ المتطايرة إلى خدّها/ بينما تسلّطُ الشمس/ الضوء على قدميها/ الجمال هو/ امرأة بدينة سوداء/ تركب الأمواج/ منساقة إلى سلوى بعيدة/ بينما البحر يعود/ ليعانق ظلها (الديوان ص: 10:9).
إنها إذن تحمل سوادها وقضيّتها عبر حقول العالم/ تسافر عبر البحار من أجل الأمل والسلوى، والبحث عن السعادة، وتنتظر الخلاص ليعود البحر من جديد، ليزيل آثار الاضطهاد، وليعانق ظلّها فتبدو زاهية مع الشمس المتوهجة.
وفى قصيدتها: "اصرار" تعرض لنا صورة الفقر المدقع والاستسلام للاغتصاب: (تقصد الاستعمار الذى هيمن على إفريقيا بنشر المجون والخلاعة والإباحية، بغية محو العادات والتقاليد بدعاوى التحضّر، والقيم العالمية البريطانية الفاسدة، تقول:
(ثقيلة مثل حوت/ عيون صغيرة بازدراء/ وتعاطف مع نار الحب/ تجلس المرأة السوداء/ البدينة على الكرسىّ الذهبىّ/ وترفض أن تتحرك/ السادة اللذين يرتدون البياض/ تكيّفوا/ مع أوضاعهم بعد الاستقالة/ أصابع المرأة السوداء البدينة/ منثنية على الذهب/ والجسد ملتفُ في طيّاتٍ/ وغمغمات تنبض في صخرتها/ هذا حقى في البكورية/ قالت المرأة السوداء البدينة/ وضحكت ضحكة خافتة سمينة/ مظهرة قدمها السمينة السوداء. (الديوان ص 11 : 12).
ثم تتوالى القصائد: المرأة السوداء البدينة تتذكّر، والتي تنهيها بتأكيدات بأن المرأة الإفريقية لا تملك أى شىء، أو حقوق، وتُنٌبّه على ذلك بهدوء، وبدون تفصيلات أيضا.. تقول:
المرأة البدينة السوداء
لا تملك أى شىء
وهو شىء مؤكد يا عزيزى..(الديوان ص :14).
ثم تتوالى قصائد الشاعرة لتجسّد عبر رمزية (المرأة البدينة) صورة للمرأة الإفريقية التى لا تملك سوى الوحدة والدموع، والأنين، فهى تحرس الصخور،والقباب المنجرفة، وزبد البحر وكأنها تحرث الهدير في البحر، ولا تحصل على أى شىء!!.
ثم تكشف لنا الشاعرة بقصائدها، ذات اللغة البسيطة الموحية، عن المفارقة بين المرأة البريطانية والإفريقية، حتى عندما ذهبت للتسوّق في أسواق لندن، لم تجد مقاسها حتى في الثياب، لكنها بوعى شديد، ولغة مراوغة، تعلى من كيان المرأة الإفريقية وكرامتها، فهى لا تعرض محنتها، أى لا تظهر عوزها، ولا تتسوّل بجسدها، بل تكشف بوعى عن تفاصيل الغياب والتغييب الذى أحدثه الإستعمار في القارة الأفريقية،كما تعرض للمرأة بعد موجات نشر الإباحية في إفريقيا من قبل الاستعمار بغرض تذويب الهويّة، والقيم الحضارية والثقافية، تقول في قصيدتها: "الهروب من الفتح"، مشيرة إلى قضايا وجوهر المرأة السوداء:
المرأة السوداء/ ترفض أن تكون عارضة/ لمحنتها/ المرأة السوداء البدينة/ سارت في دوائر/لا تؤدى لمكان/ هربت من أوحال الأدغال/ الرمال المتحركة/ البالوعات/ آلات التعذيب/ أربطة العروس/ كذب القبور/ الرجال الذين يرون فقط/ نبعاً من الأطفال/ في فخذيها/ عندما توجد الجبال/ على حلمتيه. (الديوان: ص 20:19).
وعبر التفاصيل الصغيرة نراها بذكاء، وبهدوء شديدين، تعرض لنا قضايا المرأة الإفريقية.. تقول:
أنا الممتلئة بالشحوم/ آه كم سيستغرق وضع قدمى/ على رأس الأنثروبولوجيا؟! (الديوان ص: 21 ).
وتتجلى قضية المقاومة ضد العنصرية (الرجل الأبيض)، وضد الظلم في قصيدتها: "هذه الدنيا" والتي تتنبأ فيها بانتصار الرجل الأسود (إفريقيا السوداء) على الرجل الأبيض (المستعمر البريطانى).. تقول:
تصبح الأرض قاحلة/ والرجل الأبيض/ لن يبقى في سكينة بعد الآن/ مع صوت الطبول المتردد/ لن يبقى لا مبالٍ بعد الآن/ بحرارة الشمس الحارقة/ بل يمكن أن يبقى منهكاً/ أو يحوّل أفكاره إلى الموت/ ونحن الذين تتزايد الثورة فينا/ كالبراغيث في أقدامنا/ نستطيع الانتظار/ أو/ نحصل على حريتنا/ مهما حدث لن تدوم هذه الدنيا للأبد. (الديوان.. ص: 106 : 107).
إنها الثورة التى توقظ الوعى، وتعيد لإفريقيا حريتها المنشودة، وليذهب الاستعمار إلى الجحيم، فالظلم الذى أوجده، لن يدوم مع الشعوب المناضلة،التى تحمّلت الكثير من أجل أن تحصل على حريتها واستقلالها...
إنها شاعرة إفريقيا السوداء، أو القارة السوداء، كما وصفها الاستعمار، لكنها بعد أن نالت حرّيتها، واستعادت استقلالها، أصبحت إفريقيا الآن من أهم قارات العالم، واستطاعت أن تنهض بفضل شعوبها المناضلة، وبفضل الأحرار الثّوار، والمثقفين، والشعراء أيضاً.
إنها الكلمة، رصاصة تنطلق، فيتبدد ظلام الاستعباد والقهر، ويذهب الاستعمار، لتشرق شمس إفريقيا من جديد.
هوامش :
"قصائد امرأة سوداء بدينة، شعر: جريس نيكولز، ترجمة/ نانسى سمير، سلسلة آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، مصر،2002م.