القاهرة 28 يوليو 2020 الساعة 11:59 ص
بقلم: طلعت رضوان
فى عمل إبداعى للأديب جمال الغيطانى بعنوان (رِنْ) ضمن سلسلة إبداعاته التى أخذتْ عنوانا ثابتا (دفاتر التدوين: الدفتر السادس) الصادر عن دار الشروق، تناول فيه جانبًا من الجوانب العديدة للحضارة المصرية. وهو عمل شديد التفرد ويصعب تصنيفه، فقد جمع بين السرد الروائى والسيرة الذاتية وأدب الرحلات والسباحة فى عالم الخيال للمزج بين الحضارات المختلفة، فكتب عن كعب الأحبار، وقطر الندى، وزار بخارى نيسابور. وبالرغم من ذلك فإنّ المحور الأساسى (صحيحة لغويًا وليس الأساس) للعمل هو الحضارة المصرية، ولذلك لم تكن مصادفة أنْ يبدأ الفصل الأول بعنوان دال هو (خرْجة) فلماذا اختار الأديب هذا العنوان؟ ولم يكتب (خروج)؟ أعتقد أنّ السبب يكمن فى أنه استلهم التراث المصرى من معنى كلمة (خـَـرْجة) فنحن المصريين نــُـطلق هذا التعبير على (خـَـرْجة) الميت والذهاب به إلى المقبرة لدفن الجثة، فهل معنى ذلك أنّ (الخرْجة) فى عنوان العمل تعنى الموت؟ مع استمرار القراءة يتبيّن العكس، وأنّ المعنى هو الحياة، إذْ أنّ البردية التى كتبها أحد أجدادنا على لسان المواطن (آنى) بعد وفاته كان عنوانها فى الترجمة الدقيقة عن اللغة المصرية القديمة (الخروج إلى النهار) بينما فى ترجمتها الشائعة والخاطئة (كتاب الموتى) وقد تأكــّـد هذا المعنى عند الغيطانى وهو يشرح (الباب الوهمى) فى مقابر مصر القديمة فكتب ((عُرف الباب الوهمى كرمز للعبورمن الموجود المحسوس إلى اللامحسوس، من المرئى المُدرك بالحواس إلى الخفى عنا، ما لا يبين، وفى تفسير آخر قيل إنّ الروح الساعية تعود من خلاله إلى المرحوم المُبرّأ المتحد بأوزير لتهبه الطاقة اللازمة لاستمراره فى الحياة السفلى، بعد الخروج إلى الضوء اللانهائى)) (ص31). وذكر كتاب (الخروج إلى النهار) المقدس. وبالعودة إلى الفصل الأول فإنّ الأديب قرر (الخروج) من القاهرة ليقصد مسقط رأسه (أخميم) حيث ((حرير أخميم العتيق، مزخرفاته المتوارثة من أزمة سحيقة. عاينتُ تنفيذها على أيدى إناث شابات، معظمهنّ قبطيات، بعضهنّ تركنَ فى روحى وشمًـا))
ولشدة اعتزازه بموطنه الأصلى (أخميم) كتب ((أول مرة رأيتُ النقوش الأخميمية فى متحف القرون الوسطى بالحى اللاتينى، بالتحديد قرب طريق سام ميشيل، كنتُ قاصدًا رؤية معالم تلك القرون فى أوروبا، فوجئتُ بقاعة مُخصصة لنسيج أخميم)) (ص163) وفى نفس الصفحة تذكر الكتان المصرى فكتب ((الكتان قماش مصرى تمامًا، وإنْ حيّرتنى شفافية تلك الأردية على الأجساد الأنثوية الممشوقة، نفرتيتى على ظهر المقعد، ونفرتارى، بينما إيزيس مرتدية تاج حتحور.. إلخ))
لماذا كانت (الخرْجة) إلى أخميم ثم طيبة (الأقصر) ومعظم محافظات الوجه القبلى؟ الإجابة جاءتْ فى الصفحة الأولى حيث كتب ((عندما يضيق بنا الوضع نتجه إلى مسارات البداية. نحاول الاتصال باللبنات الأولى، هكذا اتجهتُ إلى قبلى)) وفى مكاشفة ذاتية أقرب إلى الكتابة الصوفية، كان السطر الأول فى الفصل الأول ((لأمر جرى وتمكــّن منى. تغير حالى وتبدّل أمرى)) وقبل أنْ يصل إلى أخميم وصف رحلة المرور على هضبة الأهرام ومنها إلى الفيوم، وفى خلال هذه المسيرة يتذكر الحبس الانفرادى بمعتقل القلعة، وبذلك ربط (بأسلوب إبداعى يوحى ولا يُـفصح) بين ذهابه إلى أخميم (الخروج إلى النهار) وبين ما كتبه ((عندما يضيق بنا الوضع نتجه إلى مسارات البداية)) ولذلك– كما كتب– ((كان بدء خرجتى تلك رحمة لمن أحرص على ودهم)) وفى أخميم تذكر الصوفى المصرى (ذو النون- 771- 859م) واسمه ثوبان إبراهيم الأخميمى (أبو الفيض) تعلم السريانية وله محاولات فى فك رموز اللغة المصرية القديمة. وكان عالمًا بعلوم الشريعة والصوفية وعلوم الصنعة (الكيمياء) وله فيها مُصنفات منها كتاب (الركن الأكبر) وكتاب (الثقة فى الصنعة) وكتاب (العجائب) (الموسوعة العربية الميسرة- عام 1965- ص847، 848) ونظرًا لشدة ولعه بالتصوف فقد هجره معاصروه من رجال الدين واتهموه بالزندقة. ولما علم ذلك قال ((ما لى سوى الإطراق والصمت حيلة)) ونظرًا لأهمية شخصيته فى التاريخ المصرى، فقد تأثر به الأديب الغيطانى فكتب عنه ((يُهيمن علىّ سيدى ذو النون، بل إنّ نزوعى إلى أخميم لم يبدأ إلاّعبْر اسمه. ذوالنون.. ها هو يسعى فى خلاء رمادى، يستوعب بالنظر أشكال القلم القديم، يترجمها إلى عربية سليمة.. مَنْ علــّـمه القلم المصرى العتيق؟ (من 23- 28) ثم ربط بينه وبين أوزير (ص110).
كما ربط الغيطانى بين (ذوالنون) وبين شرحه لمعنى كلمة (رِنْ) وأنّ (رِنْ) يعنى اسم وأنّ (الرِنْ) يُذكرنا بما نقوله حاليًا: (فلان له شنه ورنه) والمقصود بالشن ذلك الإطار المحيط بالاسم للحماية (ص136) وهذا الشرح قريب جدًا للمعنى فى علمىْ المصريات واللغويات وأنّ كلمة (شن) تعنى (خرطوشة) أى الدائرة التى يوضع فيها اسم الملك، وكلمة (رِنْ) تعنى اسم فيكون المعنى أنّ هذا الشخص (صيته عالى) لأنه فى اللغة المصرية القديمة يعنى الاسم العظيم للملك (المعجم الوجيز- هيروغليفى- عربى- تأليف سامح مقار- هيئة الكتاب المصرية عام 2007- ص157، 255) وفى إشارة دالة كتب الغيطانى ((من لا اسم له، لا حضور له)) (ص45).. وطرح بعض الأسئلة الفلسفية مثل: مَنْ سمى الموجودات؟ هل ثمة بداية للبداية؟ من صاغ الأسماء؟ من أظهرها ومن دلّ عليها وبأى لسان نــُـطقتْ؟ من سمى المُسمى؟ (ص51، 52) والمعبد فى مصر القديمة كان اسمه (بيت الحياة) (ص63) وعلى المعابد تنتشر دائمًا زهرة اللوتس، وهى زهرة مصرية شهيرة. وعندما ذكر إيزيس قال عنها أمنا إيزيس (81) التى أنجبتْ ابنها حورس من زوجها أوزير بدون اتصال جسدى، وفى الأسطورة أنّ العملية تمتْ (بقوة صفقة رعد) وكان وصف الغيطانى يتفق مع الأسطورة فكتب ((حملتْ العذراء الكونية، وبعد أنْ أنجبتْ حنــّـتْ واحتوتْ فهى الحماية والدراية، هى البداية وهى الأبدية)) (ص245). وما ذكره يتوافق تمامًا مع علماء المصريات الذين كتبوا عن إيزيس، وأنها أصبحتْ معبودة العالم القديم، ومن بين هؤلاء عالم المصريات الألمانى أدولف إرمان الذى كتب أنّ إيزيس هى أم الأشياء وسيدة جميع العناصر، وهى البداية الأولى للأزمنة. وهى الإلهة العليا، ملكة الموتى ورئيسة أهل السماء. وكانت تــُـعتبر فى فرجينيا أمًا مقدسة لبسينوس وفى أثينا الإلهة أثينا وفى قبرص أفروديت. وأضاف ((وهكذا نرى أنّ إيزيس ابتلعتْ جميع الآلهة التى كانت تــُـعبد فى أوروبا. وكان من بين صفاتها العديدة: الفضلى، الجميلة، المقدسة، الطاهرة)) (ديانة مصرالقديمة- 483، 484) استمرتْ ديانة إيزيس فى كل أوروبا حتى القرن الثامن عشر الميلادى، بدليل أنّ الشاعر الألمانى جوته غضب عندما سمع مقطوعة (الفلوت الساحر) للموسيقار موتسارت، فقال جوته ((أى إيزيس وأوزيريس، لو أنى أستطيع التخلص منكما)) أى أنّ ديانة إيزيس استمرّتْ رغم قرار الإمبراطور الرومانى بإبطال الطقوس الخاصة بذكرها.
والأديب الغيطانى عندما وصف هرم ميدوم كتب عنه أنه ليس مجرد صخرة، إنه صعود وارتقاء (95) ولأنه مولع بأبيدوس ذكر أنها تلح عليه كلما قطع مسافة مبتعدًا عنها، ولذلك كتب عن السيدة الإنجليزية الشهيرة باسم (أم سيتى) وكانت تــُــتقن اللغة المصرية القديمة وعاشتْ فى أبيدوس (68، 97) وكتب عن عشق الأوروبيين بالحضارة المصرية، فذكر ولع الرئيس الفرنسى فرانسوا ميتران بمصر، إذْ كان يزورها مرة كل عام، ويُبحر عبْر النيل من الأقصر إلى أسوان، ويحضر الكريسماس ويستقبل العام الجديد عند الحد الجنوبى لجزيرة فيلة، وذلك قبل توليه الرئاسة وحتى بعد تسلمه الحكم، وكان يمكث فى المعبد وحده عدة ساعات متأملا الكتابات المنقوشة على المقصورة والأسماء المحفورة فى الصخور (من 237- 239).
ولأنّ الغيطانى مؤمن بالتاريخ المصرى القديم، وما فعله جدودنا الملوك العظام من محاربة الأعداء، لذلك كتب عن البطل أحمس أنه المُخلــّـص الذى دفع الهكسوس إلى مجاهل الصحراء التى جاءوا منها، شتتهم، بدّدَ جموعهم وأعاد اللـُـحمة (129) وهى كتابة تدل على وعى الأديب بما كتبه علماء علم المصريات عن أحمس وعن والده (سقنن– رع) الذى مات فى الحرب ضد الهكسوس؛ لأنه كان يُحارب وهو فى الصفوف الأولى مثله مثل أى جندى، ومومياؤه موجدة فى المتحف المصرى (قسم المومياوات) وعلى جبهته وصدره الطعنات التى تلقاها من الأعداء، ثم استلم الراية ابنه كاموس الذى مات هو أيضًا فى القتال، وكان أحمس لا يزال صغيرًا، فما كان من الأم العظيمة (إع- حتب) إلا أنها بثتْ فى ابنها الصغير حب الوطن وضرورة طرد الأعداء، لذلك منحها –بعد وفاتها– قلادة عسكرية، فكانت أول سيدة فى التاريخ تنال وسامًا عسكريًا. كذلك فإنّ أحمس لم ينسَ دور جدته (تيتى شيرى) فوجه إليها ثناءه ومديحه واعترف بفضلها، وكذلك اعترف بفضل زوجته (أحمس نفرتارى) التى وقفتْ بجانبه وهيّأتْ له كل الظروف المناسبة فى حربه ضد الهكسوس.
ومن الأمور الدالة أنّ الأديب اختتم عمله بالإشارة إلى الغزو الفارسى لمصر بقيادة قمبيز (525ق.م) الذى أمر قادته بمحوكل آثار مصر ((وهكذا بدأتْ أشنع عملية تخريب فى العصور كافة)) ثم كان تعقيبه ((لذلك فإنّ ما أراه الآن من مرقدى القسرى، أو ما عانيته خلال رحلتى المدرسية الأولى إلى سقارة ثم رحيلى المتكرر إلى أهناسيا وتل العمارنة وأخميم وأبيدوس والأقصر، وصولا إلى أقصى حدود الجنوب، ما رأيته بعد وصوله إلينا معجزة مكتملة الأركان. ليس لما جرى من دمار على يدى قمبيز، إنما بواسطة المصريين أيضًا، وهذا مكمن آلام يطول الحديث فيها)) (ص246). وأعتقد أنّ ما لم يُـفصح عنه الآديب هو دور المُـتعصبين المسيحيين الذين حوّلوا المعابد إلى كنائس، والمُـتعصبين الإسلاميين الذين حوّلوا الكنائس إلى مساجد. ولكنه لم يفقد الأمل عندما سمع الطقوس التى تعزف اللحن المُـكرّس للحنين إلى عذراء الكون (إيزيس) الوفية لزوجها أوزير (ص247). ولأنه مؤمن بتعدد الثقافات لذلك يستعيد ذكرى الشاعر جلال الدين الرومى المولود فى (بلخ) من بلاد فارس الذى قال ((لا تسل عن مركز الكون، أنتَ المركز)).. (ص83). ولأنّ الأديب الغيطانى مولع بالسفر عبر تعدد ثقافات الشعوب، لذلك فإنه ذكرنى بما قاله جلال الدين الرومى ((إنْ لم يعد لك قدم تسافر بها، فسافر فى نفسك، سافر إلى نفسك)).