القاهرة 14 يوليو 2020 الساعة 10:05 ص
بقلم: د. محمد السيد إسماعيل
يضعنا عنوان الديوان الرابع "بعين واحدة وبصيرتين" للشاعر فارس خضر أمام ثنائية بادهة هى ثنائية "البصر" و "البصيرة" أو الرؤية الظاهرة بالعين والرؤية العميقة بالحدس والاستبصار مما يدلنا – بداية– على أن لكل دال لغوى ظاهرا وباطنا فى هذه الرؤية الشعرية التى تنتظم الديوان ويساعدنا الإهداء فى تأكيد هذا المعنى، حين يرى الشاعر أن "شيرين عبد العزيز" "عصفور طائر جرح الماء بمنقاره فنزف البئر كثيرا من الدماء" حيث تتحول الرقة –رقة الطائر– إلى قسوة، ويتحول الماء إلى دماء منزوفة ونصبح أمام ما يسمى بالرقة الجارحة.
وفارس خضر –بهذا المعنى– يعد امتدادا لتراث شعرى طويل يجعل من رقة المرأة –وضعفها أحيانا – قوة نافذة مؤثرة. وفى القصيدة الأولى "دليل كسيح" (لا يعرف من صحرائه سوى الهاوية) تتبدى ثلاثة دوال كاشفة الأول هذا " الدليل الكسيح" الدليل العاجز غير القادر على الحركة، والثانى هذه "الصحراء" التى تمثل متاهة كبرى تفضى إلى الدال الثالث "الهاوية " التى لا يعرف الدليل الكسيح غيرها فى هذه الصحراء اللامتناهية وضمير الغياب –هنا– يضع مسافة بين الذات الشاعرة وهذا الدليل موضوع المقاربة والوصف والذى قد يكون الشاعر نفسه على سبيل التجريد باصطناع هذه المسافة التماسا للموضوعية، كأنه يتأمل ذاتا أخرى؛ لكن هذا الإيهام سرعان ما يتلاشى مع السطور الأولى من القصيدة التى تستخدم ضمير المتكلم: "لا أجد ما يدل على/ سوى ألمى" "بعين واحدة وبصيرتين".. فارس خضر، ص9 دار الأدهم 2018).
تسقط المسافة إذن بين الذات الشاعرة والذات الموصوفة مع استدعاء تيمة "الألم" التى تفتح قوسا كبيرا على معجم هذا الديوان الذى تشيع فيه هذه التيمة ومترادفاتها أو ما يقع قريبا منها: الحزن– الذبح– القتل– الدم– الانهيار– العتمة– المطاردة، وهى دوال تبدو مقدمات للألم أو نواتج عنه. وبتأمل عنوان القصيدة وهذين السطرين سوف نجد بنيتين متوازيتين بين " الدليل الكسيح" و "لا أجد ما يدل علي" من ناحية وبين "سوى الهاوية" و "سوى ألمى" من ناحية أخرى. فهل الألم هو الهاوية التى سقط فيها الشاعر؟ وهل الصحراء هى متاهته –متاهتنا– التى أجبر عليها وأجبرنا معه؟ بنية التوازى تدفع إلى هذا المعنى بلا شك.
ثم تنتقل القصيدة نقلة ثالثة إلى ضمير المخاطب: "يا رأس الحكمة والحماقة/ لم تقرأ سورتى/ ولامسك حريقى أبدا/ لكنك تعرف الطريق "يبدو لى أن "رأس الحكمة والحماقة" هو نفسه " الدليل الكسيح" والذى يخلع الشاعر عليه صفات القطب العارف على سبيل السخرية من خلال خلخلة المفاهيم القديمة، فإذا كان رأس الحمة فهو أيضا رأس الحماقة وإذا كان يعرف الطريق –لاحظ الدلالة الصوفية– فهو لم يقرأ "سورة" الشاعر ولا مسه حريقه وإذا كانت يد الشاعر معصورة فى يده العارفة فإنه –أى الشاعر– يسير كالذبيحة نحو المسلخ بفعل استلاب هذه العلاقة له لكن فعل المقاومة المقابل لفعل الاستلاب قائما "أمشى عكس ريحك/ مفتونا بغناء قديم/ ولا أتبع المشانق فوق أسوارك/ كيلا أتعذب/ من جديد "نحن– هنا– أمام نوعية مغايرة من الدوال لما قبلها، دوال توحى ببعد سياسى واضح، حيث: المشانق والأسوار والتعذيب ولا ينقذ الذات المتكلمة من كل ذلك سوى أن تمشى عكس الريح مفتونة بغنائها القديم، رغم حصارها الدائم ووقوعها فى منتصف الدائرة التى تفضى كل طرقها إلى الهاوية.
تنتقل القصيدة بعد ذلك فى سياق تداخل الإنسانى والطبيعى حين تتمنى الذات أن تكون جوار نبتتها البرية أو أن تكون "جميزة" تخلع قدميها وتقاسم البيوت حزنها.. كما تبدو الإشارات التراثية واضحة فى "العكاز الذى أكله السوس" والذى يذكرنا بعصا سليمان أو فى صورة "الحصى الذى يطقطق على النار لينعس طفلها الجائع" التى تذكرنا بقصة المرأة الفقيرة مع أبنائها على عهد عمر بن الخطاب.
ومن البداهة أن نقول إن أمنيات الذات وأحلامها هى نقيض ما تراه فى واقعها الذى يشيع فيه الرعب والحروب والدماء، لكن هذه الأحلام تنطفىء كأننا أمام لعنة تطارد الذات بسبب جريمة لا تعرف كنهها "هذه خطيئتى/ الجريمة التى لا أعرف كنهها/ فأهرب من ظلى/ ولا أجنى من أنفاسى المتلاحقة سوى العقاب". إننا أمام وضعية تتجاوز مأساة "سيزيف"، فمع سيزيف تظل هناك محاولة وتكرار للفعل ورجاء منتظر دائما؛ لكننا –هنا– أمام هاوية أمام عقاب من نوع آخر "بدمى المحروق/ ورائحة أطرافى على الجمر/ آكل جسدى وأموت " نهاية القصيدة شبيهة بنهاية رواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم حين حكمت اللجنة على السارد بأن يأكل "نفسه" مما يعنى أنه لاجدوى من أى شىء ولا معنى لوقوف "فرد" فى وجه العالم.
لكن فارس خضر يكاد يرى المجاز على وجه الحقيقة.يتبع الشاعر فى "شجرة جوافة تنام فى سريره" الآلية نفسها وهى الانتقال من ضمير الغيبة فى العنوان إلى ضمير المتكلم فى متن القصيدة: "وأنا أجلس على رأسك المقطوع/ صرخت: أنا الرحمة/ كنت أمر بأصابعى المبللة على شفاهك".
المروى عليه هنا ذات أنثوية: جميزة أو امرأة سيان فهناك تبادل فى الصفات ومع تتابع السطور نكون إزاء تداخل واضح بين الطرفين "بين السرير والدولاب/ تظلين أطفالى بورق مصفر/ وتقذفينهم بالثمرات" وهكذا تبدو القصيدة متحركة على مستويين: التداخل بين هذين الطرفين على سبيل الاستعارة المكنية من ناحية والتضاد على مستوى آخر بين النوم ووحوش اليقظة والرأس المقطوع والرحمة والماء والعطش والأحلام المستقبلية والذكرى الماضية، وهو ما انعكس فنيا فى تعدد الضمائر وتناوب الصوت الشعرى بين الذات الشاعرة والذات المخاطبة التى تدخل بوصفها ذاتا متكلمة: "صارت أغصانى عارية فى الريح/ الكراسى تلتف حولى/ بحنين معتق...".
في القصائد التالية يتعمق الإحساس بالاغتراب وفجائعية الوجود حين تتحول الخطيئة مجهولة الهوية إلى لعنة تكبر مع الشاعر وتتحول الهاوية إلى حتف مؤكد: "كبرت وكبرت لعنتى معى/ أيتها الحمقاء/ لا تتبعينى إلى المقصلة" ويصبح الماضى مسرحا لتاريخ من القهر والآلام الذى رأيناه فى البداية حزنا مقيما: "خناجرى لا تكفى لصدرك/ يا أيها الحزن".
العنف والتدمير المتبادل هو ما يحكم علاقة الذات بالعالم وعلاقة العالم بعضه ببعض. وفى ظل هذه الرؤية الكابوسية لا يطلب الشاعر من "صاحبة القداسة" أن تذكره: "عندما تغرسين خنجرك فى قلبى/ لا تذكرى اسمى فى كتب التواريخ/ ولا تضعى على قبرى شاهدا / اتركينى للنسيان يمضغ ذكراى" وذلك على عكس ما قاله أمل دنقل بسخرية مريرة وهجائية لاذعة" أذكرينى كما تذكرين المهرب/ والمطرب العاطفى/ وكاب العقيد/ وزينة رأس السنة".
وهى السخرية التى يمكن أن نستشعرها فى قول فارس خضر أيضا "اتركينى للنسيان يمضغ ذكراى/ للريح تطير وردة/ يضعها الجنرالات كل سنة/ أمام النصب التذكارى". يتوقف الشعر غالبا أمام المشاهد الدرامية المشحونة.
من هنا تتأكد شاعرية قصيدة "مصارع الثيران" التى تحاول تمديد المشهد ليصبح مشهد حياة كاملة يقول "قرنان منغرسان فى رئتى/ منذ ما لا أذكر/ والثور يخضخضنى/ لأعلى ولأسفل بلا هوادة/ أغمض عينيك لتسد الباب / فى وجه الشفقة" فالدوال موحية بتمديد الزمن والمكان وهذا ما يؤكده أيضا الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب.
وفى النهاية نحن أمام وضعية برزخية ما بين الحياة والموت الذى يتحول إلى مجاز يومى "بالأمس مت بين محطتين". وفى هذه الحالة تصبح الذات عاجزة عن حسم أمرها، كأنها مصلوبة على سطح الماء لا ترسو ولا تغرق.