القاهرة 07 يوليو 2020 الساعة 10:31 ص
كتب: محمد أبوزيد
أيامي معها: بالتحديد عام 1997 بالصف الأول الابتدائي، بداية علاقتي بها مع توقيت الأجازة الصيفية، يأخذني أخي الأكبر إليها، فكان مولعا بالقراءة، أما أنا كنت أذهب فقط لاعتيادي أن أكون معه، هو يقرأ وأنا أرسم أو أشاهد عرض مسرحي لأقراني من الأصدقاء أو أرسم، وبالأحرى شخبطة عبثية لإهدار الوقت حتى يفرغ مما يقرأ، العامل الوحيد الذي ربطني بها هو أني كنت أحب ما يفعله، وأفتخر به حينما كان يُقدم أحد أعماله اليدوية، لوحة مزخرفة، ولهذا أثر كبير في مهنتيه كمصمم حقائب جلدية، ومما امتاز به، دقته في الرسم.
هذه المشاركات من نَمّت لديه مهارة التصميم في عمله، بالطبع لم أتذكر هذه الرسومات بدقة ولكن حينما كبرت رأيت تلك التصميمات واحببت منها فن الرسم كمتلقي له. وبعد وفاته عام 1998، انقطعت فلم تَعد لي صله بالمكتبة، إلا بعد سنوات بعد انتقالي مرحلة الإعداديه، والذى أعادني أن مدرستي الجديدة بجوار المكتبة، فعُدت إليها مرة أخرى، أنهي يومي الدراسى وأذهب فقط لأشاهد العروض المسرحية بحديقتها الصغيرة، الطريف في أيامي تلك أنها جمعتني مع أصدقاء مدرستي الابتدائية و الإعداديه معًا، حتى الآن في عامنا الحالي كان لها الأثر الأكبر في حياتهم منهم من أصبح الطبيب والمهندس والكاتب، والصحفي بدرجة من الوعي والإبداع، وقعها في نفوسنا مازال له بُعد في شخصيتنا هواياتنا، فبجانب هذا من استمر بالقراءة والرسم وفنون عديدة والأهم نظرتنا للحياة تشَكّلَتّ من كل ما ذكرته، حتى إننا قمنا بتقديم مشروع لمكتبة المدرسة، وهي مجلة مدرسية اسمها "الرأي" وبالطبع لم يستمر أسابيع.
أما عن القراءة فكنت مرغما أن أدخل قسم الأطفال، لكن الحنين يَدفعني لقاعة الكبار خِلسةُ، لها رونق خاص بفضل رفوفها الممتلئة بالأصول والمجلدات، ورغم أني لم أفهم منها شيئا؛ لكن كنت أحب أن أفتحها، أستعيد الماضي، أجلس على نفس الكرسيِ الذي كان يجلس عليه أخي، واختار هذه المجلدات الذي كان يفتحها، أتذكر أن مشرف المكتبة دومًا يرفض مكوثي بهذه القاعة، فكرهته؛ فهو لم يحجبنى عن القراءة التي لن أفهم منها شيئا، بل كان يُحيل بيني وبين ذكرياتي الباقية من أخي، وظللت على ذلك حتى يأس مني وبلغ يأسه مبلغه، فأصبح لا يُبالي، أتذكر مجموعة مصر القديمة "لسليم حسن" وهو يتحدث عن عصور مصر القديمة، يتكلم عن الأواني والحُلي والأدوات المُستخدمة في شتى أمور الحياة وأشياء غريبة، وأماكن تَغيِرت أسماؤها، هي بالطبع معلومات جديدة ومثيرة، والأشد إثارة أن منطقة طوخ بمركز نقادة بمحافظة قنا، بلدتي كانت عاصمة مصر القديمة، وهنا شعرت بفخر عجيب بلدتي عاصمة مصر، فما كان مني إلا أني أتحدث عن هذا للجميع، حتى المارون بالشارع "وعم فوزي السماك" رحمه الله، وهناك مجلدات في التاريخ و شخصيات كـ سعد زغلول والملك فاروق وأشياء كثيرة وبالتوازي مع تلك الفترة كان هناك مهرجان القراءة للجميع، وفاعليات أولها رحلات خاصة بالمكتبة إحداها ضريح سعد، وأخرى بحديقة الأورمان، وشارع المعز، هذه الرحلات لها واقع بنفسى فأحببت الزهور وتعلقت بها. والآن من أهم هوياتي الزراعة المنزلية، وشارع المعز الذي أصبح ملاذي.
وهناك تأثير على مستوى آخر تغير بسلوكي وتعاملاتي، هذه الرحلات معظمها مختلطة مع "بنات" وأنا من أسرة صعيدية وتعاملي أكثر تحفظًا في هذه المسألة، لكن مع مرور الوقت أصبح هناك فارق كبير في نظرتي للتعامل معهم ولهم، وحتى العروض المسرحية كان لها واقع بنفسى أيضًا، ثم بعد أن بدأت مرحلة الثانوية وتوقفت تمامًا، وبدأت فترة المراهقة وانخرط في مجرياتها، وموجة تدين مغلوط استمرت حتى دخولي "الجيش" وبعد نصيحة قائدي أن أنوع قراءتي مع العلوم الشرعية حتى أتحرر أكثر، ربما هذا أفضل، ومتابعة أحد الأدباء والمفكرين البارزين وأعطاني روايته الشهيرة، وقال إنه يحاضر بمكان اسمه "ساقية الصاوي" وبالفعل لكي أنوع، ذهبت إليها مجددا أقصد المكتبة، وفي نفس المكان، والكرسي و المجلدات،
يعاودني الحنين، وأدخل لأجد إحدى رسومات أخي مازالت موجودة، وبالطبع سألت عن الساقية، واتسعت الدائرة، معرض للفنون أكبر، ندوات عامة أشمل، حفلات فنية، والأديب المطلوب سماعه هناك، لكن مازال داخلي نقيضان، الأول الحنين وما تربيت عليه، والآخر تدين دخيل متخبط جعلنى أرى الأشياء ببعض من النفور، حتى هذا المُفكر، أخذتني أقدامي للحنين أكثر فغلبت التدين العبثي الدخيل عليها، حضرت ندوات في موضوعات عديدة، بصالون الهجَّان للموسيقى، سمعت تلك المعزوفة التي كان يعزفها أخي رحمه الله"بالهارمونيكا" الحنين يطاردني هنا أيضا، معرض الفنون يذكرني بمشاركاته الأخيرة، حتى دخلت محاضرة ذلك الرجل الذي كرهه مما سمعت عنه، إذا به: الماء الذى أروى ظمأ داخليا، وهدأ الصراع بين النقيضين الحنين لما رباني عليه أخي وذكريات مكتبة البوهي، وهذا الفكر المتعصب، فاخترت الحنين وارتبط بهذا المفكر، فهو لي طوق النجاه الثاني بالتوازي مع تلك المكتبة، وبدأت رحلة جديدة، وبعد مرور سنوات أحببت الذهاب إلى تلك المكتبة؛ إذ بها خَربة فقد أعلن الحي، هدمها من أجل مشروع مترو الأنفاق بإمبابة، خسارة هذا المكان سيفتقده أجيال أخرى بمنطقتنا تلك، هُدمت المكتبة وهدمت ذكرياتي معها وهدمت أشياء أخرى رأيتها في عيون الأجيال الحالية، وسلوكهم أعلم ليس افتقادنا المكتبة العامل الرئيسي، لكن ترى لو استمر وجودها أو على الأقل استبدل مكانها.. كم ستربي وكم ستُصلح من الأمر، أتمنى أن تعود فوجود مكان كهذا بحى بسيط وفي كل حي سيكون له الأثر الكبير، بل وكل مدرسة إذا ما أخذت منوال هذه الأنشطة من مسرح وموسيقى وتثقيف عام، سيُحيي أشياء كثيرة هُدمت مع مكتبة البوهي..