القاهرة 16 يونيو 2020 الساعة 11:01 ص
د. هويدا صالح
مرّ ربع قرن على رحيل الروائي والقاص والناقد والكاتب الكبير العظيم يحيى حقي. قامت مؤسسات الدولة بالاحتفال بذكراه، فعقد له المجلس الأعلى للثقافة ندوة لإحياء ذكراه، كما فعلت الهيئة العامة لقصور الثقافة التي تصادف أن نشرت كتابين عنه.
لكن هل يكفي كاتب بحجم وقامة يحيى حقي أن تعقد له فعاليتين واحتفاليتين ليس لهما صفة المنهجية العلمية، حيث يناقش نقاد الأدب وباحثوه المشروع الإبداعي والنقدي لهذا الكاتب العظيم؟
لماذا لا يقيم المجلس الأعلى للثقافة مؤتمرا علميا منهجيا، تُقّدم فيه أوراق بحثية عن الأجناس الأدبية والنقدية التي قاربها يحيى حقي؟ لماذا لا يحدث هذا على غرار المؤتمر العلمي الذي عقد قبل سنوات عن الراحل محمد مندور، وهو ناقد عظيم ورصين أيضا؟.
لماذا لا تتيح مؤسسة من مؤسسات الدولة أعمال يحيى حقي الروائية والقصصية في طبعات شعبية يطلع عليها الشباب الذي لم يقرأ له قبلا؟ فهل تطلع الثقافة الجماهيرية بهذا الدور العظيم؟
يحيى حقي واحد من الذين اهتموا بمهمشي هذا الوطن، وجعل الانتصار لهم شغله الشاغل، فابن الطبقة المتوسطة الذي رفعه التعليم ليتولى مناصب عديدة وهامة في الدولة المصرية شعر بمعاناة المهمشين والفقراء، فكتب لهم رواية "قنديل أم هاشم"، كما كتب لهم "البوسطجى " و" صح النوم" و"دماء وطين" وغيرها من الروايات. كما كتب مجموعات قصصية بلغة فارقة ومدهشة، تشتغل على ما هو جمالي وتشكيلي، ولا تراهن فقط على الحدوتة والحكاية فقط.
وحين كتب النقد الأدبي اعتنى بصفة خاصة بالسرد، وخاصة " القصة القصيرة المصرية"، أما النقد الفني فقد نال منه عناية واهتماما خاصا، فكتب عن الموسيقى والفن التشكيلي، والأوبرا والمسرح وغيرها من صنوف الفنون وأنواعها.
الخطاب السوسيوثقافي في روايات يحيى حقي
إن مقاربة روايات يحيى حقي من منظور سوسيولوجي يكشف عن ذلك الخطاب السوسيوثقافي أو ما يُسمّى بـ " علم اجتماع الأدب" حيث يكشف عن وعي الكاتب بالبعد الاجتماعي في معالجة قضايا الواقع في رواياته.
في رواية "البوسطجي" يكشف الكاتب عما تعانيه النساء في الريف، فحين تقع فتاة صغيرة في الحب، وتقع فريسة لتقاليد الريف، وحين تفقد شرفها مع من أحبته، لا يدافع عنها محيطها الاجتماعي، بل يدينها، ويجعلها تدفع ثمن أخطائها، وبغلطة من البوسطجي لا تتمكن الفتاة من التواصل مع حبيبها، فيقتلها والدها وتدفع ثمن العادات والتقاليد التي تحمل المرأة وحدها ثمن الأخطاء، ويبرئ الرجل من كل تبعية للخطيئة التي يمكن أن تحدث.
في رواية " قنديل أم هاشم" يحاول الكشف عن الواقع الاجتماعي للمهمشين الذين يعيشون في حي من الأحياء الشعبية هو حي السيدة زينب، حيث يسافر الفتى إسماعيل ابن الطبقة الفقيرة إلى أوربا، ليكمل تعليمه العالي، وحينما يعود يتصادم مع قيم مجتمعه.
بعد عودته بقيم اجتماعية من ثقافة مغايرة، يصاب بخيبة الأمل على ما يعانيه المجتمع من تغييب للوعي وانتصار للخرافة.
وهكذا يفعل يحيى حقي في كل رواياته، حيث يكشف عن الهوامش الاجتماعية المختلفة التي يقوم المركز بتهميشها وإقصائها.
جدلية الصراع والمعاصرة في أدب يحيى حقي
يعني يحيى حقي بجدلية التراث والمعاصرة، وقد طرحها بشكل جلي في روايته الأشهر" قنديل أم هاشم" فإسماعيل حين سافر للغرب حدثت له صدمة نفسية وحضارية كبيرة، حيث وجد قيما مغايرة تماما للقيم الشرقية التي كانت تراهن فقط على ما هو تراثي وماضوي، بل تحكم وعي شعوبها تلك القيم الماضاوية ، وتتحكم في حياتها قيم الخرافة والميتافيزيقا على حساب العقل والعلم.
حين وصل هناك انبهر بالغرب وقيمه، لكنه بعد حصوله على الشهادة عاد لمصر، وهنا تحدث له صدمة نفسية أخرى، فقد تشبع بقيم الغرب وحداثته ومعاصرته وانتصاره للعلم، وحين عاد بدأ يقارن بين قيم المجتمع الحديث هناك وقيم المجتمع المغيب بسبب الخرافة هنا.
حن عاد إسماعيل وجد ابنة عمه فاطمة النبوية التي تربت معه في منزلهم، وخطبها له أبوه قد فقدت بصرها بسبب مداواتها بزيت قنديل أم هاشم، بحجة قدسية هذا الزيت.
يدخل إسماعيل في صراع مباشر مع الأب والأم اللذين يضعان زيت القنديل في عيون فاطمة ، وكذلك مع الشيخ درديري حارس المقام، الذي يستغل تغييب وعي البسطاء ليتاجر بآلامهم، ويبيع لهم الوهم.
لقد طرحت جدلية التراث والمعاصرة كثيرا في حياتنا الفكرية والثقافية، منذ الإمام جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، مرورا برفاعة الطهطاوي وطه حسين والعقاد وسلامة موسى وغيرهم من المفكرين، منهم من انتصر تماما للثقافة الأوربية باعتبارها الثقافة المثال التي يجب أن نتجه نحن إليها باعتبارها كعبة الفكر والعلم والفلسفة، ومن هؤلاء سلامة موسى، ومنهم من رأي فيها ثقافة معادية ونادى بحركة الإصلاح الديني والعودة إلى التراث لتنقيته مثل عبد الرحمن الكواكبي، ومنهم من كان توفيقيا يحاول أن يأخذ ما هو مضيء في التراث من ناحية، ويأخذ من الغرب ما يناسب مجتمعنا مثل العقاد.
وقد نظر حقي في قنديل أم هاشم للأمر من هذه الزاوية التوفيقية، فإسماعيل الذي عجز عبر العلم وحده أن يعالج عيون فاطمة النبوية أوهمها بأنه سوف يعالجها بزيت القنديل حتى تستجيب للعلاج العلمي، وحتى لا يقاوم جسدها الأمر.
وبالفعل استجابت فاطمة لعلاج العلم حين احترم إسماعيل اعتقادها في زيت القنديل، وكأن الكاتب ينادي بالتوفيق بين التراث والمعاصرة فيما يخدم مجتمعنا، فلا نحن نُحدِث قطيعة مع التراث، وننظر إليه باعتباره كله شر، ولا نحن نعود بوعينا إلى التراث تاركين الحاضر والمستقبل لغيرنا من الأمم.
ما أشد حاجتنا إلى هذا الوعي، أن نأخذ من التراث ما يناسب لحظتنا الراهنة ونأخذ مما قدمه العالم من تطور فكري وعلمي ما لا يتعارض مع طبيعة مجتمعنا لما له من خصوصية ثقافية مغايرة.
وهذه التوفيقية لن تضر أحدا، فللتراث قوة وسطوة لن نستطيع مقاومتها، والدخول معها في معركة غير مبررة، لذا الأفضل لنا أن نستحضر من التراث ما هو إنساني ويمثل مشتركات إنسانية مع العالم، حتى لا نغيب المستقبل لصالح الماضي، ولا ندخل في معركة غير مبررة مع هذا الماضي.