القاهرة 05 مايو 2020 الساعة 01:18 م
كتب: أحمد مصطفى الغر
في غضون أسابيع قليلة، وجد العالم نفسه أمام تطورات جديدة قلمّا يشهدها، جائحة فيروسية تضرب كل أرجاء الكوكب ومعها تساقطت تريليونات الدولارات من أسواق المال، وبينما تتزايد أعداد المصابين والوفيات جراء الفيروس المستجد تهاوت أسعار النفط إلى أرقام سالبة لأول مرة في تاريخ الذهب الأسود، وهنا تتكاثر الأسئلة: هل مخاطر فيروس كورونا الاقتصادية أكبر بكثير من مخاطره على الصحة العامة؟، هل الحفاظ على الأرواح أهم من الحفاظ على الكيانات الاقتصادية والأسواق المالية؟، ماذا لو تأخر اكتشاف اللقاح؟
الاقتصاد والوباء
خِصمٌ خفي تواجهه كل دول العالم، أغرق الجميع في حالة من الغموض، وبدأت كل الحكومات تتحسب من تداعياته، خاصة التداعيات الاقتصادية، إنه فيروس كورونا المستجد "كوفيد -19"، ففي البداية بدى الجميع وكأنهم يقللون من حجم خطر الفيروس، الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" ـ على سبيل المثال ـ اعتبره أنه ليس أخطر من الإنفلونزا الموسمية وأنه سيختفي في يوم ما، وفي أحيان آخرى كثيرة كان يطمئن مواطنيه ويحثهم على الوقاية لتجنب الإصابة بالوباء العالمي، وحتى بعد أن صارت بلاده في المرتبة الأولى من حيث عدد الإصابات والوفيات، أصبح "ترامب" يوجه كل مساعيّه لفتح الإقتصاد وإنهاء الإغلاق، وهو ما يعني أن "ترامب"، المقاول ورجل الأعمال قبل أن يصبح رئيسًا، يرى أن ضرورات الاقتصاد مقدمة على أولويات الصحة، حتى ولو كنا في زمن الوباء.
لا شك أن حياة ملايين البشر ستتعثر من الناحية الاقتصادية، والدلائل الأوليّة تشير إلى ذلك في ظل حالة الإغلاق الإقتصادي الذي تشهده معظم مدن العالم، فالمنشأت الصغيرة على وجه الخصوص تكافح من أجل البقاء، فيما تأثرت مختلف القطاعات مثل حركة الصادرات وصناعة السياحة وغيرها من المجالات بشدة، وهو ما جعل كثيرون ينظرون إلى كورونا باعتباره أزمة اقتصادية لا أزمة صحية، خاصةً وأن العالم يتحرك بسرعة نحو الانكماش الكبير، وقد يكون أشد عما كان عليه منذ 12 عامًا بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 2008. ولكن ليس بوسع المرء تخيل أن معدلات المرض والوفاة ستتواصل، وقد تتزايد الوتيرة في حالة فتح الاقتصادات من أجل الحفاظ على أسهم البورصات من التهاوي، فيما ستتهاوى أرواح البشر، فالحقيقة أن الوقت قد حان ليتوقف الاقتصاديون عن الأخذ بزمام الأمور، والتركيز على دور الأطباء، لاسيما وأن الوباء قد بات عالميًا.
الاقتصادات تتهاوى
في جميع أنحاء العالم؛ تأثرت الاقتصادات نتيجة تفشي الفيروس المستجد، وكان العمال هم أول من دفع الثمن، إذ انخفض نشاط القطاع الخاص في منطقة اليورو وجنوب شرق أسيا إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، فيما سجلت البطالة أرقامًا قياسية في مختلف البلدان حول العالم، وفقًا لمركز "ماركيت" المعلومات الاقتصادية، فيما تتواصل تحذيرات الأمم المتحدة من مغبة نقص الغذاء التي تهدد مئات الملايين من الناس، خاصة في أفريقيا وأمريكا الجنوبية، بسبب ترجيح انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بين 1,8% و4% بسبب تداعيات تفشي الوباء، فيما سيدخل العالم أجمع في حالة من الركود العميق. "لو تُرك الأمر للأطباء سيقولون فلنغلق العالم كله"، هكذا تحدث الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، في ظل تقدم 6,6 مليون شخص إضافي بطلب للحصول على إعانة البطالة في بلاده خلال الأسبوع الماضي، وهو ضعف الرقم القياسي المسجل منذ أكثر من 10 سنوات.
وعلى وقع هذه المعطيات السلبية، شهدت أسعار النفط تراجعًا غير مسبوق عبر التاريخ، فقد تهاوت بنحو 55% خلال مارس الماضي، في أسوأ هبوط شهري، قبل أن تنهار أسعار الخام الأمريكي بشكل غير مسبوق على الإطلاق، حيث صارت العقود الآجلة بالسالب، وهو ما أربك حسابات منتجي النفط. وحتى المعدن النفيس (الذهب) الذي عادةً ما يمثل ملاذًا آمنًا في مثل هذه الأزمات، قد أصابه فيروس كورونا بحالة من الخلل، فانقلبت الموازين وأصبح الناس أكثر ميلًا للاحتفاظ بالسيولة النقدية، وهو ما جعل الذهب بدوره يتعرض لنكسات عديدة طوال الأسابيع الماضية. لكن بشكل عام فإن جميع هذه المؤشرات والمعطيات تعني أن كل ما يشهده العالم الآن من اضطراب اقتصادي، هو نتاج تدهور سريع لاقتصادات هشّة، وقلق مبالغ فيه من المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال الذين يخافون على أموالهم، خاصة في البلدان التي تنساق حكوماتها وراء هذه المبالغات، دون ضبط ردود فعلها وسياساتها لتكون بمثابة عامل استقرار للاقتصاد، وحماية له في مواجهة مخاطر الفيروس.
.. لكن الصحة أهمّ!
لم يحدث قبل يومنا هذا، وفي ظل هذا التطور التكنولوجي الهائل الحادث حاليًا، أن اكتشفنا مدى الهشاشة الموجودة في ترسانة الطب والمنظومة الصحية الموجودة لدينا، حتى في أكبر الدول الغنية، فقد استطاع فيروس لا يُرى بالعين المجردة أن يكشف عدم قدرتنا على احتواءه وضعف إمكانياتنا الطبية في مواجهته، بيد أنّه لا يمرّ عام واحد إلا ويشهد وفاة نحو 10 ملايين شخص من الأطفال والحوامل وكبار السن بسبب أمراض يمكن تجنبها إلى حد كبير، لكن بسبب الفوارق الموجودة في الإمكانيات الطبية بين الدول ووجود خلل في بعض المنظومات الصحية، تحدث هذه النسبة المرتفعة من الوفيات.
لقد أصبحت الصحة عاملا ومحدداً أساسياً لقيمة العمل، وهو الأصل الرئيسي الذي تمتلكه معظم الشعوب الآن، إذ تتسم بأهمية خاصة لقدرة الأفراد والأسر على النهوض بمستوياتهم المعيشية، وخير دليل على ذلك أن الصحة دائمًا في مركز الصدارة على جدول أعمال التنمية العالمي، فالابتكارات التكنولوجية التي تبشر بإنجازات كثيرة تجعل العالم أكثر ثراء وأمنا، لكنها لا تجعله بالضرورة في مأمن من الفيروسات والأوبئة، لذا فإن الإنفاق على الصحة لا يتوقف على مجرد نفقات استهلاكية تشكل عبئاً على الموازنة، بل يجب أن تكون استثمارا في الإنتاجية، وخلال السنوات الأخيرة قام الاقتصاديون بتعميق فهمهم لأهمية الصحة من الناحية الاقتصادية، واعتبروها أحد أشكال رأس المال البشري الذي يمكن استخدامه بشكل أفضل على غرار المعرفة والمهارات لدى الشعوب.
"إنقاذ الأرواح يعد شرطا أساسيا لإنقاذ سبل العيش في مواجهة الوباء"، هذا ما أكده مديرو منظمة الصحة العالمية وصندوق النقد الدولي، هذه هى الرؤية الواضحة التي تفصل بين الاقتصاد والصحة، بالرغم من ضبابية المشهد الآن، ونقطة الضوء في نفق الوباء حتى الآن هى أن البشرية قد مرت بأزمات وأوبئة وكوارث أكثر سوءا، وأكبر ضررا، وتم تجاوزتها بالقوة والإرادة... لننتظر.