القاهرة 28 ابريل 2020 الساعة 01:29 م
حاورته زينب عيسى
خزين الربع قرن القاهري كوّن دعائم كتابتي إلي الآن
اللغة العربية ركيزة أدواتي التي أصنع بها كتابتي
الترجمة كانت تأشيرة دخولي إلي فيينا وعرفتني بعالم جديد
أمراض الشرق والغرب تكاد تكون واحدة مع اختلاف التفاصيل
لا عيب أن تتطعم الهوية بمدخلات ثقافية تضيف إليها
في فيينا أُصِبت بمرض المسافة لكن لم أُصَبْ بكسل الإقامة
حين سافر إلى النمسا منذ أكثر من ربع قرن وعمل بها أستاذا لكبري الجامعات إلى جانب كونه مبدعا متميزا ظلت عروبته الهاجس الكبير في كل أعماله التي نجح بشكل كبير في أن تمزج بين روح الشرق والغرب فخرجت متفردة تعزف علي لحن شرقي بنكهة أوروبية، يحمل في قلبه وعقله ثلاث هويات فبحكم المولد والنسب هو سوداني من ناحية الأب ومصري من ناحية الأم ،وبحكم الإقامة مواطن نمساوي ..هو الروائي العالمي طارق الطيب الحائز علي العديد من الجوائز العالمية وترجمت كتبه لعدة لغات: : الفرنسية، منها الألمانية، المقدونية، الصربية، الإنجليزية،الإسبانية، الرومانية، ثم الإيطالية ،أهله لذلك رؤيته المتعمقة لمسالة الاغتراب عن الوطن والتي يراها علي حد قوله
أو يدعيها البعض نقمة، أمر غير حقيقي لأنه ببساطة وجد فيها من الميزات ما طرحه وبصدق في أعماله.
تناولت بعض أعماله الاختلاف بين الشرق والغرب و أمراض العالم الثالث والعالم الغربي التي انتهى في بعضها إلي أنها واحدة وإن اختلفت في بعض التفاصيل مثل روايته"مدن بلا نحيل "، و"بيت النخيل" وبطلها حمزة الذي انتقل إلى فيينا حاملا معه إرث حضاري وأمراض العالم الثالث ليصطدم بحوارات جديدة تخص هذا العالم المتقدم والتي قد لا تقل مشكلاتها عما تعرض له في وطنه، فالمدن الفقيرة عند الطيب أكثر رحمة بالفقراء كما يقرر في روايته بيت النخيل ، وهي كذلك لسبب منطقي جدا لأنها لا تقدم مقارنات مع المدن الغنية التي تقدم وجها إضافيا للرفاهية لا يطلع عليه أبناء الفقر ليندبوا حظهم التعس.
بين ثنايا سطور رواياته نكتشف أن "الطيب " ينتقل بمهارة بين عالمين عاشهما دون أن يشعر القارئ بأي انفصال علي أثر انتقاله من وصف عالمه الأول البسيط في الشرق،وهناك حيث الثلج والخوف والحب أيضا في فيينا ذلك العالم الذي وصفه وصفا رائعا حين قدم مقاربة في غاية البساطة والروعة ليكشف الفارق الكبير بين العالمين والذي من الممكن أن يكون في صالح البداوة وعالم البسطاء وليس كما يتصور البعض أنه بالضرورة أن ينتصر عالم التقدم والتطور عالم المادة والثراء.
في حوار خاص ل"مصر المحروسة" تحدث الروائي طارق الطيب حول البدايات وذكريات الطفولة والصبا، الارتحال إلى فيينا ،وما الذي أضاف إليه وجوده في هذا الجانب من العالم،وتأثيره علي إبداعه،أزمات الاغتراب وهل انتابته هواجس الانتقال من الشرق إلي الغرب .. مسألة الصراع بينهما هل هي حقيقية ،وهل أمراض العالم الثالث مثل العنصرية وغيرها والعالم الغربي واحدة ؟
وأنت من الطيور المهاجرة منذ أكثر من ربع قرن إلى النمسا؛ لا نلمح حرقة الحنين للوطن ، وهذا أمر صحي لكنه غير مفهوم أحيانا ، يدفعنا ذلك للسؤال إلى أي مدى ساهمت طفولتك في تشكيل إبداعك؟
سأسمح لنفسي بفك ضفتي السؤال في إجابتين ثم أربطهما لاحقا ،الحنين يمكن أن يكون أكثر إلهاما، وسميته من قبل حنينا إيجابيا، لا يبحث عن الأطلال ويبدأ في أحاديث الفقد واللطم والبكاء، وسرد المعاناة وتصديرها قبل أن يكون الغرض وضع معنى من المعاناة.
هناك الكثيرات والكثيرون ممن يلجأن ويلجئون إلى هذا النوع من التباكي، وهو أمر محبوب جدا ومرغوب في عالمنا الشرقي من المهاجر، ومن لا يكتب ببكاء يعتبره البعض بلا إحساس أو قد يغالون في كونه بلا انتماء.
لكن هناك في العوالم الجديدة أكثر مما نتخيل؛ من انفتاح على الإحساس الإنساني الأسمى وعلى وجع الغربة الموجود في كل إنسان حتى من لم يغادر وطنه. هذا هو الوجع المُبهم المطلوب فكه وتحليله والبحث عن أسئلته الجديدة. فالسؤال يخفف الوطأة لا الإجابة.
طفولتي كانت سعيدة بثرائها وتعددها بأمكنتها في القاهرة القديمة، الحسينية تحديدا؛ محل بيت جدتي لأمي، ثم في سيناء بالعريش محل عمل والدي، حيث كنا ننتقل لخمسة شهور في العام لنكون هناك، ثم في "عين شمس الستينيات" في شمال شرق القاهرة التي نشأت فيها. خليط مكاني نادر بهذه الثلاثية التي يجب وضعها في حقبة الستينيات للإحساس بمدلولها وتأثيرها.
الربط الذي أراه هو أن خزين الربع قرن القاهري قد كوّن أسس ودعائم كتابتي وما زال حتى يومنا هذا. حين استجلبته في سنواتي الأولى في فيينا كنت أبطِّن حالي وعريي العائلي والمكاني، والآن أطعِّم كتابتي بمزيج مما عشت وخبِرت وأحببت، وهو إحساس لا يُضاهى
هل باعدت الغربة المكانية بينك وبين الوطن ..وماذا عن الصدمة الحضارية عند وصولك الي النمسا ؟
صحيح أنه في بداية الخروج والسنوات الأولى، هناك خلع من الوطن بما فيه من أهل وذكريات، وهو أمر مؤلم ومربك. لكن تجربتي في الخروج ألهمتني بعد أن كوتني ونحتتني في البداية: من استغراب لغة جديدة وعادات مغايرة والمعاناة مع مناخ درجاته تحت الصفر، مما سيؤثر عليَّ فيزيقيا فنفسيا، وبالضرورة على مسار تفكيري.
ربما هذه الصدمة اللغوية تحديدا؛ وهي صدمة نفسية في مواجهة اللغة الألمانية؛ أدت إلى شلل اللسان لزمن، فيما يشبه نزول جدار زجاجي سميك فصل التفاعل الطبيعي الصحيح مع أهل البلاد، وهو ما جعلني أكثر حساسية للكلام والمعنى والصوت وحتى لحركة الجسم منذ أن وطأت قدماي هذه الأرض.
"الاغتراب" بالطبع في البدايات وسّع هوة الحميمية المباشرة مع الأصدقاء والأهل، لكن الذكريات لم تضِع واللغة لم تزُل، وأصبح هناك أصدقاء إضافيون ولغة إضافية وحياة مضافة على الصعيد الإنساني والأدبي.
مع الوقت استطعت أن أستعين في حياتي الممتدة هنا بالأحداث الملهمة وليس بالحوادث السطحية الطارئة. وهذه نعمة أخرى اغتنمتها وما زلت
ألم يخالجك في وقت من الأوقات أي شعور بالربكة أو تشتت الهوية وأنت تحمل أكثر من هوية ؟
أعتقد إن أي إنسان يحمل هوية (متعددة) أو هويات (متعددة) سيكون في حيرة شديدة. يمكن القول بأنه لدي هوية (متنوعة)، وهناك فارق كبير. من الممكن أن تتنوع الهوية ولكنها تبقى واحدة متماسكة ومنسجمة وقابلة للتطور.
صحيح أن أمي من أصول مصرية وأبي سوداني وأن جنسيتي منذ عام 1990 نمساوية، لكن ربما بهذا الاختصار يضيع دمي بين القبائل، لو لم يكتمل الحديث. لأن الناس تميل إلى خلط معنى الهوية بالانتماء!
أنا لا أشعر بأي شيء من الارتباك ولا الحيرة، فلو تكلمت بالألمانية مثلا، وهي إضافة لمكونات هويتي؛ فلن ينقص هذا من لغتي الأم شيئا، بل بالعكس سيضيف إليها، وهذا سيردني للبداية بأن التنوع في الهوية نعمة وضرورة.
هناك ميل في العقدين الأخيرين لوضع فواصل وحدود للأمكنة والأشخاص؛ ليس مِنكِ بالطبع؛ لكنها ظاهرة أستشعرها. هناك ميل خارجي لإشاعة التشظي والبحث عن الفروق وتجويفها.
الهوية المتعددة في ظني هي هوية غير سوية، ويعاني صاحبها من الاضطراب الوجداني والتوافقي أينما كان. أزعم وأكرر أن هويتي متنوعة ومتوافقة ومنسجمة، ولا عيب ولا ضرر في أن تتطعم بمدخلات ثقافية تضيف إليها. الهوية معرفة ترنو للمزيد، والهوية جمال يسعى للاكتمال، والهوية فضاء أوسع من حبسها في تاريخ محدد أو بقعة جغرافية محددة..
هل شكلت اللغة عائقا أمامك ..وكيف اندمجت في المشهد الثقافي في أوروبا بشكل عام ؟
أولا عبر اللغة، إجادة لغة المكان بمفاتيح صالحة تفتح أبواب المستغلق، ثم عبر الترجمات، الترجمات كانت تأشيرة الدخول للأرض الجديدة بصورة جلية، أرض سأتفاهم معها بلغتها وبصوتي، فعبر الترجمة للألمانية توثقت علاقتي بالثقافة الألمانية وبالنمساوية تحديدا حيث محل إقامتي الدائم.
اللغات الأوروبية الأخرى منحتني التواصل نفسه والاندماج نفسه حتى ولو لم تكن في شكل كتاب، فمجرد المشاركة في أنطولوجيا فرنسية أو إسبانية أو إنجليزية أو صينية أو مقدونية أو غيرها في المجال الأوروبي الرحب الذي تُرجمتُ إليه، مجرد هذه المشاركة منحتني سماء جديدة، ناهيك عن التواجد الفعلي الحي أدبيا في أكثر من خمس عشرة عاصمة أوروبية وأكثر من ثمانين مدينة أوروبية ما بين زيارة أدبية أو معرفية.
هذا عن المشهد الثقافي، أما الحياتي والعملي فهو أعمق من ذلك بكثير
كيف حافظت على هويتك وخصوصية كتاباتك في ظل بيئة مغايرة؟ وإن عنَّ لنا أن نعقد مقارنة بين العالمين؛ فيما يخص تأثير كل منهما على تجربتك الأدبية؛ فإلى أيهما تميل كفة التأثير؟
الهوية كائن حي يتشكل ويتغير ويغتني ويتفاعل صحيا، الهوية مفتوحة تتقبل الجديد المفيد وليست صماء مغلقة على نفسه.
اللغة العربية؛ التي هي لغتي الأم؛ حملتها معي كما هي وكتبت بها، هي ركيزة أدواتي التي أصنع بها كتابتي من اليمين إلى اليسار. هذا المحمول اللغوي والحياتي لن يتغير لكنه سيُبرز مقارنات التماثل والاختلاف في التعامل مع عالمين (إن جاز لي لحظيا تقسيمه إلى عالمين)، سيكون التحدي كبيرا ودائما في محاولات التهجين والتطعيم بين اللغات بما يجوّد ولا يُضعف.
لم أمتحن نفسي: أي العالمين أكثر تأثيرا على تجربتي الأدبية، لكن ربما وجودي في فيينا منحني آفاقا أبعد، فالبُعد الجغرافي له مزاياه أيضا. أُصِبت بمرض المسافة لكن لم أُصَبْ بكسل الإقامة وقلة التفاعل مع المجتمع الجديد، فمن يصحو يوميا دون أن يشعر أنه على أرض جديدة (حتى ولو كانت أرضه) فهو إنسان بائس..
بين مصطفي سعيد بطل الطيب صالح في "موسم الهجرة للشمال" وحمزة بطل روايتك "مدن بلا نخيل" مساحة زمنية كبيرة. ما الذي تغير فيها بين الشرق والغرب؟
بين مصطفي سعيد وحمزة تقريبا ثلاثة أو أربعة عقود، تكاد تكون ذهنيا وفعليا بمثابة ثلاثة قرون. مصطفى سعيد سافر ندا للغرب مسلحا بلغة "العدو"، سافر لينتقم بطريقته لأسباب كانت منطقية في ظنه، وعاد ليستريح ويذوب في أصله، لأنه اعتبر نفسه في مهمة مصيرية.
حمزة دفعته الظروف دفعا نحو الشمال من البقعة نفسها، لا يعرف عدوا سوى العوز، ولم يكن لديه سبب للانتقام لأنه لا يعرف ماذا حدث ولا ماذا يحدث، أراد أن يغير من النسيان والموت الذي يغطيه ويغطي قريته، لكنه فشل، التجربة التي اكتسبها دون أن يدري هي المكسب الذي لم يكن يفكر فيه، والذي دفعه مجددا نحو الشمال لكن دون "موسم" ودون "هجرة". جرب حياته عبر الحب، وعبر تجربة ذهنية عاصفة تكاد تكون مهلكة، لكنه صمد واستمر دون ادعاءات الإنجاز والتفرد، بل بأن شعر بأن هناك نقصانًا فيه هو، وعليه أن يكمله، هكذا عاش حمزة ومازال بيننا طيفا ملهما ومهما، وكان أيضا في مهمة مصيرية لكن حكايته هنا أصعب من اختصارها في سطور قليلة.
أنت صاحب أكثر من بال ولست بكاذب كما يقول المثل المصري: "صاحب بالين كداب"؛ كيف تستطيع الانتقال بين أكثر من جنس أدبي وفني ؟
أوافق على المثل المصري جدا وأحبه أيضا وأتمثل به قولا (صاحب بالين كداب وصاحب تلاته منافق) لكني لا أرى أن فروع الفن هي من باب تقسيم البال، على العكس، فالبال الفني متنوع ولابد أن يكون متنوعا، لا بد أن يكون فيه مقدار ثقافي يشذب ويؤدب من الموسيقى والرسم والنحت والسينما والمسرح وغيرها.
الكتابة سواء نثرا أو شعرا هي كتابة متقاربة، التنظير بالتقسيمات وارد ومقبول ولكن ليس من أجل عمل قطيعة، بل من أجل البحث للوصول لأعماق أو ظواهر أو حتى نظريات. الحياة تجربة على عدة أصعدة وهكذا عندي الكتابة، وهي ليست ببطولة أن يكتب المرء في صنوف متعددة. وهناك مئات سبقوني في هذا المضمار المتنوع وهناك المئات القادمون إلى هذا التنوع.
بعض الذين ينزعون نحو تحنيط الكتابة في توابيت مجهزة يرون تقاطعا بين السرد الشعري مع سردك القصصي.. بماذا ترد؟
لا أعتقد إن كلمة "سرد شعري" ستروق للبعض! عموما هناك شعر وهناك نثر وهناك تنويع بينهما يجعل الشعر ينحو للنثر، كما أن هناك أيضا نثرًا ينحو للشعر، والتسميات في هذا المجال كثيرة.
هناك بعض النصوص الهجينة في كتاباتي الشعرية. القيمة الآن تنزع إلى القلب أكثر من القالب، فالأعمال الفنية الآن تتداخل وتتمازج وتنتج فسيفساء من إبداعات متنوعة.
لكل كاتب طريقته في نسجه لعمله والناقد والقارئ مقياسا كل عمل فني، وليس الرأي الأفضل بجماهيرية النص على كل حال.
هل مزاحمة الأنشطة الإبداعية للشعر قد أفقدته زخمه؟ أم أن ذائقة المتلقي قد تغيرت نتيجة إيقاع الحياة اللاهث، الذي لم يعد يتحمل شاعرا يقف على منصة بالساعات يلقي شعرا فصيحا تفهمه النخبة دون العامة؟
الشعر يخاطب الوجدان بشكل أسرع ولن يموت، وليست هناك مزاحمة، فالبراح أوسع كثيرا من المعروض. والشعر تغير كثيرا في القرن الأخير وحده، وكذلك كل الفنون. في كثير من مهرجانات الشعر العالمية، يلقي الشاعر قصائده لزمن لا يزيد عن ربع الساعة، لإتاحة الفرصة لعدد أكبر من دول أخرى ليستمع إليهم الجمهور؛ لذا فالمهرجانات الشعرية أكثر تطورا واستيعابا لعدد كبير من الشعراء ومن نصوص شعرية مختلفة.
الرواية برزت في السنوات الأخيرة وهذا صحيح، وقد ساهمت الجوائز الممنوحة للرواية على جذب عدد أكبر من الكتاب بحكم قيمتها المادية قبل قيمتها المعنوية، وهذا حديث طويل.
في روايتك "مدن بلا نخيل" جسدت أزمة الإنسان المعاصر.. هل ترى أن تلك الأزمة قد تحدث نتيجة البعد المكاني أم أنها قد تتجلى داخل البيئة الأصلية لأسباب لها علاقة بالقهر أو الظلم وغياب العدالة؟
الشعور بالقهر والظلم وغياب العدالة على أرض غريبة قد يكون له ما يبرره بعيدا عن النسق الأخلاقي. هناك بتر متكرر لوسائل التواصل السويّ في عالمنا، وهناك انكسارات للروح بسبب "تغيير لم يؤدِّ إلى تغيير".
الإنسان المعاصر يبحث عن مكانه فلا يجده؛ فيرعى في مكان آخر، فيرفضه المكان الآخر. هذا القول ينطبق واقعيا ومجازا.
حمزة "لا بطل" رواية "مدن بلا نخيل" عاش هذا التاريخ المتأزم في هذه الجغرافيا المتشظية، فكانت هذه الرواية التي كُتبَت في عام 1988 ونشرت بالعربية أربع مرات، أولها كان في ألمانيا عام 1992. وتُرجمت للفرنسية والألمانية والانجليزية.
هل كان من قبيل الصدفة أن تقدم رؤية لقهر وحش "الاغتراب" في روايتك "بيت النخيل" حين مزجت أمراض العالم الثالث بأمراض العالم الأول وتصديت لها بالحكي بعد أن تجرع بطل "مدن بلا نخيل" مرارة الفقدان بسبب أمراض العالم الثالث؟ أتشغلك الإنسانية لهذا الحد؟
جوهر الأدب هو الإنسانية؛ نكتب عن الإنسان حتى لو كانت الكتابة عن حيوان أو أشجار أو أحجار. المحور هو الإنسان في هذا الكون. في رواية "بيت النخيل" يُطرَد حمزة من جنته الصغيرة التي تحولت إلى جهنم. يسافر مئات الأميال بحثا عن الجنة المفقودة، فيصل لِجَنّة وهمية تتبدل له بين جنة ونار، وهكذا الحياة. لكن الوطأة عليه وتجربته فيها احتاجت رواية كاملة يقول لنا فيها كيف كره وكيف أحب وكيف نجح وكيف فشل وكيف يسير العالم حوله وكيف يسير هو فيه!
عبر سيرته ومسيرته اتضح لنا أيضا أن العالم الأول به أمراض أخرى بتسميات أخرى غير أمراض العالم الثالث، لكنها أمراض من الدرجة نفسها؛ تصيب وتعيق وقد تميت لو تمكّنت!
تشغلك مسألة تقدير المجتمعات للمرأة وهو ماتناولته في روايتك "الرحلة 797 المتجهة إلى فيينا" وفي "نهارات فيينا أيضا" تعليقك؟
عالمنا العربي يتعامل بامتياز في السيطرة على المرأة. في روايتي الأخيرة "الرحلة 797 المتجهة إلى فيينا" تعاني ليلى من أقرب الناس إليها؛ من أخيها الذي يتبدل متطرفا من تحرر فكري إلى تزمت فكري، ثم يليه زوجها الذي يتبدل أيضا من محب لها إلى محب لنفسه، فلا تشعر معه بصفاء ولا برفقة حياة. وهناك الحبيب الذي غدر بتاريخ المحبة وتركها!
الصورة العامة في قالب غير روائي كتبتها أيضا في (نهارات فيينا) في مقالة عنونتها باسم: (من أهان امرأة كمن أهان النساء جميعا)، والمقطع يقول: [يمكنك ببساطة أن تقيس مدى تطور أي دولة من خلال صورة المرأة السائرة في الشارع العام: إن رأيت المرأة تسير عزيزة كريمة مثل أي شخص في الطريق؛ فاعلم أنه مكان يحترم المرأة. وإن رأيتها تسير مرعوبة شبه مذعورة؛ فاعلم أنها مقهورة. وإن رأيتهم يتحرشون بها بالنظر والكلام واليد؛ فاعلم أنها مهانة. وإن لم ترها مطلقًا؛ فاعلم أنها مغيبة عن هذا المجتمع.]
في "نهارات فيينا" أعدت الاعتبار إلى الهامش في الفكر والثقافة المعاصرة. هل يعد الكتاب تأريخا ذاتيا للأنا العربية المعاصرة؟
نهارات فيينا يمثل مجموعة من المقالات محورها فيينا مع درجات من التماثل مع والاختلاف عن عالمنا الشرقي. هي محاولة للفهم والتقريب وليس لتوسيع الفجوة المتفاقمة في التواصل على كل المستويات: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأيديولوجيا.
الكتاب يحاول تفسير تعامل الفرد مع الفرد في الشرق وفي الغرب وتعامل الجماعة مع الفرد ومع الجماعة، وأعتقد أنني عشت في العالمين بما يكفي لأن أدلي بدلوي فيصعد ببعض الماء
تناولت قضية العنصرية في روايتك "أطوف عاريا" هل تقتصر تلك الرؤية علي مجتمعات بعينها؟
في الرواية انتزعوا من (مينا) بطل الرواية أمله وأحلامه وتعرّى في وطنه مجازا، ثم عاد الغرب ليعرّيه عريا حقيقيا ليستفيد من جسمه الحي. هو أيضا في نهاية المطاف، قام بتعرية الغرب والشرق بالمشرط الحاد نفسه وإن كان متكئا على سلاح السخرية
وتم التركيز على الأربع نقاط الأساسية التى شملت 3 أشخاص في الرواية، ثم "الكتاب داخل الكتاب" الذي يؤيد الأحداث من القرن الماضي ويؤرخ لحالة فريدة من مجتمع أوروبي بعيد عنا نسبيا فيما يتعلق بأحداثه الاجتماعية الكثيرة، والتي خصصت فيها صورة الأسود عن قرب داخل هذه المجتمعات.