القاهرة 11 مارس 2020 الساعة 09:36 ص
قصة: مصطفى الحسنوي ـ المغرب
سفر إلى المجهول مرة أخرى أحمل حقيبتي، وأنطلق نحو لا شيء، لا أعلم أين سيمضي بي الحال أو ينتهي، أؤمن كثيرا بأن الحياة مجرد دقيقة أو دقيقتين تعاش تحت أية ظرفية كانت، خلفي ودعت قريتي المتهالكة وأناسها المنبوذين، تركت جلول وأمسياته الخمرية ونقاشاته التافهة، رميت إلى تلك الشجرة الوحيدة والبعيدة سلاما نهائيا، وأرسلت شكري وامتناني إلى بزناز القرية رفقة مدمني الحشيش، لأنني لن أراه بعد اليوم، سأتركه للأبد.. إنه الإنسان الذي يسعد أحفاد قريتي، صار بالنسبة لهم إله السعادة.. يبهجهم بهستيريا مرعبة حتى إنهم يتكومون على بعضهم البعض في مجالس خمرية ويتلون تراتيلها حتى وقت متأخر من الليل.. ثم إنني لا أريد أن أعبر طريق المقبرة، المؤدي إلى تعاستي، لا أريد أن أرى جدرانها أو بابها الأسود الضخم..
القبور ترعبني.. أكثر ما تسعدني.. قبر جدتي الغارقة في السراب يدميني، عشرون عاما وأنا أحن إليها وعندما أتيت لم أجدها.. إنها ماتت، وجدت عدا ذلك الإطار الذي يحمل صورتها المنفية في غبار الذاكرة، لذلك أرتعب كلما مررت بين القبور الرائبة.. أحيانا أسمع أصوت الموتى ينادونني، ومن بينهم صوت جدتي.. تطلب مني النجاة أو طريقة للخلاص.. فأختفي كالمجنون محاولا النجاة من كابوس مجسم.. ولأن الحافلة غايتها الوحيدة إبعاد الناس عن أهلهم، فقد أبعدتي أنا الآخر عن أهلي، رمتني حيث مواطن الخبز.. ربما أعماق بلدة بائسة، أو مدينة جل حيواناتها خائفين من البلل أو البرد القارس..
إن هذه الحافلة كما جاء على لسان السائق تنفي مسافريها ولا تعيدهم إلى أوطانهم.. تخليت عن كل شيء أعرفه لأركب الحافلة التي ركبها معظمكم، مودعا الكثير من روحي ورائي، تاركا روائح طفولتي وشوارع مدينتي البلهاء في حقيبة قديمة، تم معي هذا الجسد المؤقت الذي أحلم أن أوصله إلى بر الأمان، وشيئا فشيئا تبهت كما تبهت الكتب القديمة.. أحيانا أجدني في طنجة، سائرا بين الدروب العريقة وغارقا في تفاصيل أي شيء مميز.. هذه المدينة تذكرني بشكري، بمعاناته ومعاناتي أنا، سألت عن قبره، فلم يذلوني عليه، وجهوني إلى مقابر أخرى مر عليها ردح من الزمن، إن القبور في طنجة مطموسة المعالم، أناسها وأمواتها الغائبون أكثر غرابة مني، هل قبر شكري يشبههم أم أنه يعاندهم حتى في موته..!!
لكن هذه المرة أقسمت بأنني سأزور قبره لا محالة القابع في مقبرة "مرشان" قبل أن يحيطني الموت مثله، وفي لحظة أخرى لا أدركها ومكان آخر أجهله تماما، ربما سأجدني مقبلا على مجهول غامض وسط تلك المدن التي لا بداية فيها ولا نهاية، و سأراني هنالك أبحث عن عمل في المرسى، أو في أي شيء يضمن لي علبة سجائر وقهوة، تم غالبا لن أجد أي مصدر، وسأظل دون خريطة وبلا اسم، نائما حيت المقابر، وحيت المنسيين بالشوارع، وفي لجة الصباح عندما تبلغ الشمس علوها سأراهن على وسيلة سفر للعودة.. أنا إنسان غير محظوظ..!!
لم يحالفني الحظ في عز أزمتي، وألعن حظي العثر دائما، الذي لا يجلب لي سوى اليأس، ألعن مجيئي إلى هذه الفوضى العارمة وسط هؤلاء الغرباء القابعين في الحيرة، ألعن المكان الذي سأمضي إليه بعد حين لأنني أعلم بأنه سيفقدني ذاتي أكثر من السابق.