القاهرة 25 فبراير 2020 الساعة 09:47 ص
بقلم: هناء نور
طالما ذهبت إلى العمل وأنا مثلها تماما؛ في موقع الجر، في صباح كل يوم كنت أنظر لها من نافذة الباص وأشعر أنها تنظر لي، في يوم الإجازة لم أكن أفتقد شيئا غير رؤية تلك الماعز؛ لقد أصبحت مهمة ومعبرة بشكل آخر عن كتماني، فهي تزمجر دائما أثناء جر صاحبها لها، أما أنا فكنت ألتزم الجر بصمت، أجبرت على عمل لا أفقه فيه شيئا، ولا يعود علي بشيء غير مضاعفة إحساسي بالضآلة والغربة في هذا العالم. موت أبي عرفني معنى الحاجة، لم يكن معاشه يغطي تكاليف حياتي، وأمي الجميلة، التي لا تجيد سوى الطبخ، أنشأت لها قناة على "يوتيوب" لعرض منتجها؛ لكن عدد متابعين القناة حتى الآن لا يدر ربحا. ما كان يزعجني بشكل يعادل قبح الفقر تماما؛ حلمي الكامن في حنجرتي، لم تؤمن شركات الصوتيات بي، ولم يأت خبر من برامج المسابقات الغنائية الشهيرة بقبول المشاركة؛ تجاهل جعلني أشعر أن كل من، وما في دول العالم الثالث تمثيل في تمثيل؛ أصبحت أخجل من الغناء، ولم يعد صوتي يحلق خارج حنجرتي، وعملي كان يضاعف من شعوري باقتراب لحظة الانفجار، لكن مشاجرة صاحب العمل في ذاك اليوم معي وإهانته لي كانت مبررا كافيا للهروب، ومبررا أيضا لضميري، ولإقناع أمي بأن التخلي كان خارجا عن إرادتي ككل شيء تقريبا، في يوم انسحابي من العمل وجدت صديقتي الماعز وصاحبها ملقى على الأرض بجانبها، كان قد فارق الحياة، والبعض يسأل من حوله عن مصير الماعز تدخلت وصرخت: أنا صاحبة تلك الماعز، دفعت ثمنها لهذا الرجل بالكامل، كان سيسلمها اليوم لي. لم يكذبني أحد، بل نظر الجميع بصمت واستسلام نحوي حينما سارت معي الماعز بكل سلاسة.
في تلك اللحظة أيقنت بأن مصيرنا شديد التشابه، على الأقل تخلصنا من لعنة الجر في اتجاهات لا نريدها.
أخبرت أمي بمسألة طردي من العمل، فابتسمت بود وشفقة على حالنا، وربتت على كتفي بحب، فأضفت مشيرة بيدي نحو الماعز، ستنضم إلينا من اليوم.. لم تبد اعتراضا لدرجة جعلتني أندهش، ثم مالت واحتضنتها بحب، فتنهدت براحة من خرج من ضيق كبير، فقد تخيلت أمي تقول أثناء اصطحابي للماعز: "هي المشرحة ناقصة قتلى"؟!
في صباح اليوم التالي لقدوم الماعز فتحت أمي باب الشقة بعد سماع الجرس لتجد ظرفا أمام العتبة يحتوي على نقود تكفينا لشهر، أو أكثر، ولم نعرف لحظتها، ولم نعرف قط مرسل النقود؛ رغم استمراره في إرسالها بشكل أسبوعي
أسمينا الماعز "بمبي" لأنها حولت حياتنا إلى بهجة مشابهة تقرببا لهذا اللون.
بعد مرور أكثر من شهرين على قدوم "بمبي" كانت أمي قد أصبحت نجمة يوتيوب ينتظر جمهورها وصفاتها الخاصة في الطبخ،أما أنا فكنت قد مرنت صوتي كثيرا على الغناء، والفرح، بعد تلقي خبر القبول بالمشاركة بإحدى برامج مسابقات الصوت الشهيرة، لكني استيقظت في يوم امتحان الصوت فاقدة تماما الصوت؛ لم يكن حلما؛ كان واقعا كابوسيا بكفاءة. بمبي لم تصدر صوتا من هذا اليوم أيضا؛ لا أعلم هل فقدت صوتها مثلي أم كانت تشاركني الصمت!
قضيت شهورا من الخيبة بعد فشل الأدوية في علاجي، حتى استلمت أمي مع ظرف النقود الأسبوعي، رسالة تتحدث عن ضرورة ذبح "بمبي" وتوزيع لحمها بالكامل على المحتاجين؛ إن كانت تريد رجوع صوتي! حدثتها بالإشارة والكتابة عن عدم رغبتي في ذبح "بمبي" أيا كانت النتائج؛ لكن أمي لم تكن تكف عن البكاء تقريبا، وكنت بحجم بكائها في حزن وحيرة.
في الساعة التي اتفقت فيها أمي، على ذبح "بمبي" شعرت بأن الموت يقترب؛ يقترب جدا، فاقتربت أكثر من "بمبي" كنا نرتجف بنفس الدرجة.. فاحتضنتها، وأنا أحاول التمسك بفكرة عدم الاستسلام لهذا المصير.
لحظة سمعنا صوت الجزار لدى الباب، ازددت تشبثا بها، وانخرطنا معا في بكاء مكتوم.