القاهرة 11 فبراير 2020 الساعة 09:49 ص
كتب: حاتم عبد الهادي السيد
رحل الشاعر الجميل صديقي أشرف العناني الإنسان والشاعر، الناقد والمبدع، عاشق التراث السيناوي، ومؤرخ المكان. رحل كثيرون من أرض سيناء بفعل الحوادث الإرهابية التى مرت بها سيناء، لكنه آثر البقاء على أرض مدينة الشيخ زويد ، صمد ليموت على تراب الأرض التى عشقها، وأحبها، وأحبته حتى النخاع، كان تائهاً في صحراء التيه، أرض الفيروز والنخيل ، يتنسم الهواء، ويكتب لها وعنها، فاستحق أن يرتبط اسمه بها، وكصحراوي محب، وكمتصوف عاشق كتب لها أجمل قصائده، دواوينه: "عزف منفرد" "صحراء احتياطية" سيناء حيث أنا. وسنوات التيه" الى جانب العديد من الدراسات والمقالات التى اختصها بكتاباته الخالدة.
انه أشرف العنانى، كتاب مفتوح على الصحراء، شجرة وارفة الظلال، موسيقا تنساب كنهر على بحر الرمال العظيم، وهناك خلف جبال الفيروز في "سرابيط الخادم" نقش اسمه على صخرة البهاء، حيث الأبجدية السينائية – أقدم الأبجديات في التاريخ – وحيث القمر يسطع على صحراء الجمال فيندمج جماله مع شعره الأثير : خريف المتوسط، صحراء التيه، عزلة اختيارية، صحراء احتياطية، فرأيناه يمتاح فرشاة الجمال ليرسم صورة مغايرة لسيناء، كتابة أخرى شاهقة، شعر نثرى مغاير، مقالات تضاهى ما كتبه عنها : كزانتزاكس ، والمتنبي، ونعوم شقير، جمال حمدان، وغيرهم .
لقد كان العناني رحالاً في المكان، فهو من دقق التراث، وحفر مشاهداته الذاتية على ورق القلب، وقدم عبر مدونته : " سيناء حيث أنا .. سنوات التيه" المجتمع السيناوي : ماضيه، حاضره، يومياته، مستشرفاً له طريقاً مغايرة، وكصحراوي أدهشته الصحراء، وكصوفي متهجد فى محرابها كانت سنوات التيه/ التصوف أشبه برحلة الرحالة " ابن بطوطة "، و " ابن خلدون "، لكنه رحال فى المكان ، يجمع أصدافه، ويغوص فى مكامنه، ويستلهم تاريخه وحاضره ، ليظل أشرف العناني تاريخاً لسيناء، راصداً للنور، للحب، للإبداع.
إنه العنانى ابن النيل الذى يمر بدينة بنها – مسقط رأسه- حيث خبر دروب بنها وحقولها الخضراء ، وجاء بميراث الجمال ليريقه على جدول صحراء سيناء فيحيلها الى صحراء مغايرة، متبلة بالتراث والعبق، وسحر التاريخ. إنه الشاعر الذى تنبأ برحيله حين قال:
تحت الطاولة قدم تفكر في الرحيل
بينما تكافئ حافة الكوب شفتين جنسيتين
: بقليل من خليط الفواكه
جميلة يا بنت الحرام
وأنت تكحلين بنات الشارع بأسود الغيرة،
وأعرف أن الذاكرة لعبة أعصاب فقط
لذا وحدهم العشاق يتركون أسماء سابقيهم
محفورة في لحاء الأشجار البعيدة.
لقد حفر اسمه هناك، فوق لحاء الأشجار، بين عيون الماء، والنهر المرابض في روحه الطاهرة، كان يغنى للحياة على صوت مزمار البادية: على الشبابة والمقرون والأرغول ، يصرخ في المدى فتردد الصحراء عزف صراخه الأشهى:
هكذا حين أغمضت عينيك
وتثاءبت تحت الشرفة خطوات المشاة
هل كان خاطرا يعيد
وأترك النار ترعى شئون الذكريات؟
لقد غنى للبحر، وكانت اعز قصائده " خريف المتوسط " التى أهداها الى / أشرف العناني، وقد كان – رحمه المولى – يفخر بهذه القصيدة التى بدأ كتابتها ونحن نجلس سوياً على شاطئ بحر العريش الساحر ، وكانت أحب القصائد اليه والينا ، يقول :
( ليل ../ وظلٌ هامدٌ بالقلبِ / يأتنسُ الفؤاد بحزمة الشوق الدفينةِ بينَ صمامهِ العلويّ / وبين فرقعةِ الصحائفِ / لا يلف الوجدَ إلّا الوجد .., / ولا يحب البحرَ الّا البحرْ .. / فضمديني / هاتي اّخرَ ما تلاهُ الموجُ للشجرِ الخريفيِّ الهويةِ .. يا نخيلَ الشطّ : هل تعدو أخاديدُ الرياحِ على ضلوعكَ / والطيورُ تهجّ من أعشاشها ؟.. / هل تفدُ القوافلُ / حانةُ الأمراء وباحةُ الفقراءِ / والمتسكعينَ بلا قرارٍ أو هويه ؟ .. / وهل تجيئكَ دَنْدَناتُ الريحِ مزهوهْ ؟ / تتلو جبالُ الثلجِ أغنيةَ الجنوبِ وتبتليها بالسكاتْ / وترجُ زَلْزلةُ القيامة / يحطّ شالُ الغيمِ فوقَ يمامةٍ بريةٍ / والقلب يهواهُ التسكعُ بين أصنافِ الغرامِ / يشدهُ المبهوتُ / والصوفيُّ / والعاشق / ليلٌ /وظلٌ هامدٌ بالقلبِ / يأتيكَ الصحابُ مباعدينَ عيونَهم / لسماجةِ الخبرِ المُرَقّعِ في صحيفةِ ليلك الاّتي.., / ولا أحدُ يجيبُ القلبَ عَمّا يأتلفْ / ولا أحدٌ يجيبُ.. ولا أحد ).
سيناء في كتابات العنانى:
انه الشاعر العاشق، الصوفي المجذوب بخرقة سيناء الشيفونية، عاشق البحر والصحراء، ولعل آخر ما قاله كان حواره مع الصديق / مصطفى سنجر ، فأشرف العنانى قد حمّل «هيرودوت» سبب التهميش الذى عانى منه أدباء الأقاليم بعد أن قال عبارته الشهيرة «مصر هبة النيل»، مشيرا إلى أن هذه الكلمات التى أكدت فضل النيل علينا لها جانب معتم، فقد دفعت هذا البلد ليكون بلدا مركزياً تحولت السلطة فيه من النهر إلى من يتحكم فيه لتكون العاصمة كل شيء ويتراجع ما عداها إلى الهامش. وعن سيناء يرى ويرى أن سيناء أصبحت فى الواجهة فى صدر النشرات الإخبارية ولكن حتى الآن الاهتمام عاطفي، والمطلوب أن تفعل تلك الطفرة العاطفية ما عليها لتلحم سيناء بالنسيج الوطني المصرى فعلاً وليس على الورق.. فسيناء – كما يقول العنانى- تعيش الآن طفرة عاطفية بعد دهر من التجاهل ،هى فى الواجهة فى صدر النشرات الإخبارية.. ثمة اهتمام باد بها من كل الجماعة المصرية بنخبها السياسية والثقافية وعامتها.. لكن المطلوب أن تفعل تلك الطفرة العاطفية ما عليها لتلحم سيناء بالنسيج الوطني المصرى فعلاً وليس على الورق على مدى طبقات زمنية متراكمة عانت سيناء مثلما عانى غيرها – خارج العاصمة - من التهميش.. فقط وجود إسرائيل على حدودها الشرقية هو ما أضاف للمأساة هو ما رهن الناس هنا بتلك الجغرافيا السياسية المعقدة فى مثلث مصر/ فلسطين / إسرائيل تبعاً لذلك سقطت سيناء فى ملف أمنى حالك السواد أظنها لن تنجو منه إلا إذا تخلت الدولة المصرية عن الرؤية التقليدية لأفكار عفى عليها الدهر من شاكلة العمق الاستراتيجي سيناء ستنجو بكل تأكيد لو تخلينا عن وضعها فى ملف أمنى أو على الأقل استبدلناه بملف تنموى وما يصلح للحديث عن سيناء يصلح للحديث عن كل مناطق مصر المهمشة خارج القاهرة.، ولقد عانى أدباء الأطراف والحدود الكثير من التهميش على مدى العقود الاخيرة .. يقول :سنظل فى تواتر مع حالة مديح أبدية لفضل النيل على البلد السمراء لكننا سنكتشف فى الجانب المعتم من هذه الجملة حقائق أخرى كيف ظل المصرى هكذا ملتصقًا بالنهر لا يفارقه؟ لماذا يترك أكثر من 99 % من أرضه ويظل ملتصقاً هناك فى شريط ضيق يتحامى بالنهر أو يتحامى النهر به؟ مصر ليست فقط هبة النيل، بل تعيش تحت رحمته ورحمة من يتحكم به وفى التاريخ المصرى القديم الكثير الدال على ذلك، ليس هذا كل شيء هذه الحالة دفعت بهذا البلد ليكون بلدا مركزياً تحولت السلطة فيه من النهر إلى من يتحكم فيه لتكون العاصمة كل شيء ويتراجع ما عداها إلى الهامش.. الناس كل الناس – خارج العاصمة - وليس الأدباء فقط عانوا وعلى مدى طبقات تاريخية متراكمة من التهميش حتى بات المصرى هو من يعيش فى العاصمة وليس خارجها ليس من فراغ يسمى الناس فى كل المحافظات القاهرة بـ «مصر» إنه التجسيد المثالى للمأساة التى يعيشها الناس فى مصر خارج المركز. إلى أى مدى أسهمت ثورة يناير فى كسر حاجز التهميش؟
إنه الشاعر الذى كوثر الصحراء بشعره، فأعطت الصحراء مفاتحها له، وأهدته زمردة الإلهام الكبرى، جوهر الشعريّة الأشهى الكبير.