القاهرة 09 اكتوبر 2019 الساعة 03:37 م
د. هناء زيادة
رب عزلة خيرٌ من ألف لقاء ومليون صورة في وسائل الاعلام، هذا ما ينطبق على حال بعض الأدباء والشعراء، الذين قادتهم العزلة والانطواء عن ضجيج العالم الذي نعيش فيه، وجعلتهم مشاهير رغم الانزواء بعيدا عن الاضواء وضجيج الصحافة والاعلام، بل ان بعضهم قد فضّل الانعزال في منأى عن الشهرة، حيث ضل نتاجهم حبيساً دون أن يعلم عنه أحد، واحتفظوا بأعمالهم في محيطهم الخاص بعيداً عن الشهرة ومتناول القراء ومحبين الثقافة دون اكتراث بالشهرة وتبعاتها. لكن بعد وفاتهم، شاءت الأقدار أن يقف البعض على تلك الأعمال التي ضلت حبيسة العزلة، حيث نالت على إعجاب واستحسان متذوقي الأدب والفن وضج عالم المعرفة بنتاج باذخ ورصين.
فقبل عدة أعوام؛ رحل الشاعر الشهير "جي دي سالنجر" في منأى بعيد عن ضجيج الكاميرات والأخبار والشهرة، وقال ابنه عن وفاته: "توفي في ميتة طبيعية في منزله في ولاية نيو هامبشاير"، إذ لم يأبَ الشاعر الأميركي صاحب الرواية المعروفة "الحارس في حقل الشوفان" التي جعلت الأنظار تتوجه نحوه، رغم ذلك فضل الجلوس تحت ظلال العزلة، بعيداً عن ردود الأفعال الإيجابية بعدما نشرت روايته الشهيرة، ولم يكتف بذلك حيث رفض أن توثّق سيرته الشخصية الأمر الذي دعاه أن يرفع قضايا على بعض كتّاب السير الذين بدأوا بالكتابة عنه، ولم ينشر عملا إبداعيا يخصه منذ عام 1965 حتى وفاته.
يقول"البرتو مانغويل": "أعطتني القراءة عذراً مقبولاً لعزلتي ، بل ربما اعطت معزىً لتلك العزلة"، إذ تتجاوز بعض الأعمال الأدبية حاجز الزمان والمكان وتبحر من قلب الكاتب إلى قلب القرّاء في أنحاء العالم وتأخذ مكانتها في وجدان كل من يعيش أحداثها وتفاصيل شخصياتها، وتتجدد مكانتها مع قرائها من جيل إلى جيل.
يقول الناقد الأدبي "روبرت سبيلر" عن الشاعرة "إيملي ديكنسون".. "من حسن الحظ لا حاجة لتأكيد شهرة إيملي ديكنسون، معظم النقاد يبدون متفقين على أنها تقف ربما مع ويتمان على قمة الإنجازات الأميركية في الشعر، وأنها أعظم شاعرة بين النساء، كان ملاذها ملاذا إلى المطلق، لقد أصبحت واحدة من أعظم الشعراء في التاريخ وأعظم الشاعرات جميعهن دون أن تتحرك من حديقتها".
إذ لم تسع الشاعرة الأميركية إلى نشر أعمالها حيث اكتفت بالاحتفاظ بها داخل غرفتها وفضلت الانعزال بمبالاة أتجاه الشهرة، وسعت إلى إتلاف قصائدها التي اختزلت الإبداع في ثنايا الحروف حين أوصت ديكنسون أختها بأحراق الأوراق التي فعلت العكس عندما دهشت أمام الأحرف والابتكار الافت، الذي ضل طي الكتمان وبدأت بنشرها حيث لاقت ردة فعل إيجابية حظيت على إثره شهرة كبيرة وواسعة دون أن تعلم.
يقول المخترع الأمريكي الأشهر في التاريخ "توماس أديسون": "أفضل التفكير يكون في العزلة، وأسوئه ما يكون في الزحام"، وعلى نفس الدرب سار الأديب والرسام الأميركي "هنري دارجر"، الذي غادر غرفته في أحد الايام بمدينة شيكاغو الأمريكية، والتي تعد مسقط رأسه، بسبب ظروف صحية، حيث شاءت الصدف ان يكتشف مالك البناية اثناء تنظيفه مسكن دارجر أعمالا لم تر النور أوقفته مذهولاً، وثقّ بعد ذلك دارجر الذي عاش معظم حياته بالملجأ، سيرته الذاتية، وكتب مقالات عديدة كانت حبيسة العزلة بالإضافة لأعماله السابقة بغرفته المنقطعة عن العالم حيث كتب جلّ أعماله فيها خلال 30 عاما، وذكرت بعض المصادر لاحقا أنه منح أعماله من روايات ولوحات إلى مالك البناية الذي قدّر النتاج الإبداعي والثقافي، وبدأ بنشرها بعد وفاته عام 1973م. فلم يكذب الكاتب والفنان "توماس مان" عندما قال "العزلة تتولد منها الأصالة الكامنة في أعماقنا".