القاهرة 03 سبتمبر 2019 الساعة 03:20 م
كتب : د. محمد سمير عبد السلام
"باب خمسة" عنوان معرض الفن التشكيلي الذي أقيم بواسطة خمسة من الأصوات الإبداعية التشكيلية من فناني وفنانات مدينة المنيا؛ وقد انعقد بمقر نارجيوف جاليري بمدينة المنيا من السابع والعشرين من يوليو إلى بداية أغسطس 2019، وضم تنويعة من أعمال التصوير الزيتي، والفوتوغرافي، وبعض المنحوتات، وشاركت فيه الفنانة شذا عصام الدين، وكانت قد أقامت معرضا مستقلا بقصر ثقافة المنيا بعنوان نون، وشاركت في معارض تشكيلية جماعية أخرى، والمصورة الفوتوغرافية رانيا بولس شاكر، والفنانة التشكيلية مارتينا محسن كمال، والفنانة الأكاديمية راندا منير عزمي، والفنان الأكاديمي البراء أحمد صالح؛ وقد اتسم المعرض – على المستوى الثقافي – بالمزج بين الذاتي، والمحلي، والعالمي، والكوني في تنوع إشاراته، وعلاماته.
ونلاحظ الحضور الإبداعي للأنثى– عند شذا عصام الدين - بصورة تجمع بين الذاتي، والعالمي عبر التجسد الفني لإشكالية الهوية، وعلاقتها بإيماءات اللون التعبيرية، وبتنويعات الحضور، والغياب، أو المراوحة بين تجسد الأنثى، واستبدالاته الداخلية المحتملة التي تتشكل في هارموني الألوان، وتناقضاتها الذاتية النيتشوية أحيانا بين البهجة، والغياب، أو التفكك.
أما الفنانة مارتينا محسن كمال فثد ارتكزت على التصوير الزيتي للبيئة المحلية، ومزجت بين الذات، والفضاء من خلال اللون الذي يشير غالبا إلى الأصالة، ومزج الحالة الداخلية بالفضاء؛ ومن ثم فهي تنسج تأويلا ذاتيا، وأنثويا أحيانا للمكان فيما يشبه الحضور الإبداعي الظاهراتي الذي يجمع بين الوعي، والتشكيل الفيزيقي لعلامات المكان، ويجمع الفنان البراء أحمد صالح بين الذاتي، والكوني في بحثه عن التشكيل المستمر للهوية، ونلمح حالات من التعاطف الكوني إزاء الحيوان، ومزج الكينونة بطاقة اللون التعبيرية، وبعض أجزاء الجسد التي تقع بين التكوين، والتفكك، والانبعاث المحتمل.
أما الفنانة الأكاديمية راندا منير عزمي فتجسد منحوتاتها العلاقة بين تأملات الأنوثة الخيالية التي تذكرنا بطاقة الأنيما وفق تصور باشلار، وتنوع الحالات النسبية التي تبدو متناقضة أحيانا في التكوين الأنثوي الذي يشير إلى العالم الداخلي للذات، وما يحمله من تداخل بين البهجة، والألم.
وتبحث الفنانة الفوتوغرافية رانيا بولس شاكر عن الحالات المتباينة للذات الأنثوية من خلال علاقتها باللون، وبالضوء، وبالفضاء، وبالنوافذ التي قد تشير إلى التحول، أو تجدد حلم الأبدية، واستعادته من عوالم اللاوعي؛ ومن ثم فالفنانة تستخدم تقنيات التعديل ببرامج الكمبيوتر لتثري اللقطة بالدلالات، والتأويلات الإبداعية، وتسهم في تفكيك مركزية العمل الفني المكتمل؛ وهو ملمح ما بعد حداثي في أعمالها؛ ومثل هذا التعديل الذي يسائل أحيانا بنية الموضوع سنجده كثيرا في أعمال الفوتوغرافي الأمريكي رالف جيبسون، وفي دمج الأحلام بالواقع في أعمال فيليب هالسمان مثلا ؛ فالتوسع في التعديل في بنية الموضوع في الفوتوغرافيا، يجسد التداخل بين الفن والواقع مثلما أشار جياني فاتيمو في كتابه نهاية الحداثة.
*تكوين الأنثى بين الحضور الفني المضاعف، والغياب المحتمل في أعمال الفنانة شذا عصام الدين:
قدمت الفنانة المبدعة شذا عصام الدين ثلاثة أعمال رئيسية في المعرض، فضلا عن مجموعة متنوعة من الأعمال ذات الحجم الصعير التي مزجت فيها بين اللغة الفنية التعبيرية، والمحاكاة الساخرة أحيانا، وعلامات الحلم، وعلاقة الأنثى بالذاكرة الجمعية، أو بتاريخ الفن، وتجدد علاماته في سياق ذاتي، وزمني آخر؛ أما اللوحات الثلاث الرئيسية فقد جسدت ثلاث مراحل من تشكيل الكينونة الذاتية للأنثى بصورة تعبيرية؛ ومن ثم فالفنانة شذا عصام الدين تعزز من تيار التعبيرية الجديدة أو Neo – Expressionism ، وتجدد في تشكيلاته الذاتية التأويلية النسبية لكينونة الأنثى، وعلاقة تناقضاتها الإبداعية الداخلية ببلاغة اللون، وإيماءاته، حتى يصير كل من الفضاء، والجسد متداخلين مع بنية اللون من جهة، وتصير علامات اللون نفسها أنثوية في تشكيلها الذي يشبه المياه من جهة أخرى؛ وعلامات الأنوثة تبدو هنا داخلية، وتمنح اللون كينونته، وتهبه حضوره الموضوعي / التجريدي الخاص في عملها الثالث الذي اتحد اتحادا كاملا بتدرجات الأحمر، وبالفضاء الأنثوي التأويلي الأخضر.
ويمكننا أن نلاحظ أطيافا باهتة للموضوع أحيانا في أعمال بعض رواد التعبيرية التجريدية؛ مثل أعمال فرانز كلاين، وروبرت ماذرويل، وجوتليب، وغيرهم، ولكن شذا عصام الدين تحاول أن تجمع في إبداعاتها بين طاقة اللون التعبيرية، والثيمات الأنثوية، والذاتية، وتحمله من تحولات، وأحلام، وعلاقة بالتراث، وبتاريخ الفن، ورغم أن موضوع الأنثى قد يبدو واضحا أحيانا، ولكنه – بصورة غير مباشرة – قد يتداخل – على مستوى التلقي – بتبقيعية مارك روثكو مثلا، والتنويعات التي أنتجها بين درجات الأحمر، وعلاقاتها الموسيقية المتغيرة بالأبيض، أو بالأسود، أو بالأرجواني، ولكن شذا عصام الدين تقوم بتلك التنويعات، وبعلاقات الهارموني نفسها داخل جسد الأنثى، وتقوم بتجديد سؤال الكينونة؛ فيتحد الجسد باللون، أو بالفضاء في تناقض نيتشوي واضح؛ وهو ملمح ما بعد حداثي يتكرر من داخل اتجاه شذا التعبيري الأساسي؛ فقد شاهدت عملا لها في معرض جماعي آخر بمركز دوار الفنون تداخل فيه تكوين الأنثى مع الفضاء / القبو؛ وكأنها مزجت البهجة، والغياب معا؛ فالفنانة – إذا – تمزج اللون بثيمات أخرى، ولكنها تحتفظ بهارموني الألوان، وموسيقاها الخاصة من داخل الجسد، أو الفضاء، أو تأويل كينونة الأنثى، وحالاتها المتغيرة.
وبصدد توسع الحركة التعبيرية في الثيمات الأنثوية، والثقافية بعد جاكسون بولوك، ترى الناقدة التشكيلية آن إيدن جيبسون أن الرموز، والعلامات التعبيرية قد تخطت الروح السردية، وقاومت المركزية الذكورية، وجسدت علاقة الفن بعلاقات القوى الثقافية؛ ومن ثم ارتبطت التعبيرية بسياقات النوع، والتوجهات الثقافية.
(Read, Ann Eden Gibson and Others, Pollock and After, The Critical Debate, Edited by Francis Frascina, Routledge, New York and London, 2000, p. 310).
إن مثل هذا الاتساع في تطور الحركة التعبيرية – في تصور آن إيدن جيبسون – يضع الإنتاج الفني التعبيري في علاقات متجددة مع أفكار النوع، وتحولات القوى الثقافية في اللحظة الحضارية الراهنة، وارتباطها بالماضي في آن.
وأرى أن الأعمال التعبيرية الرئيسية لشذا عصام الدين تتدرج في قراءة الكينونة الذاتية الأنثوية من حالة التجسد، إلى المراوحة بين الحضور الكثيف للأنثى، واحتمالات الغياب، ثم الاتحاد الروحي الكامل بين تجسد الأنثى، وكينونتها الإبداعية التي تتجاوز الحدود، وتفكك مركزية الجسد نفسه؛ ومن ثم تفكك مركزية البنى الثقافية المسبقة عن الأنثى التي صارت موسيقى لونية أنثوية تجسد طاقة الأنيما كما هي في تصور باشلار.
يعلو يقاع الجسد في العمل الرئيسي الأول لشذا؛ ولكن الذات تقع في إغواء اللون، والعلاقة الروحية بين الأحمر الصاخب، والأزرق؛ وكأن الجسد يسعى للتحرر الروحي برغم حضوره القوي الذي قد يدل على تجدد إيحاءات النشوء، أو بهجة الانبعاث، أو مرح تشكل الكينونة الأول في فضاء العالم؛ ويبدو ذلك الصخب في حمرة الشمس، وعلاقتها بالبزوغ الجمال للذات الأنثوية.
أما العمل الثاني فتمزج فيه شذا بين الحضور المتكرر الكثيف المضاعف لنصف وجه الأنثى، والغياب المحتمل في الفضاء الكوني لنصف الوجه الآخر؛ وكأن الذات تكثف لحظات التحول باتجاه التشكيل الاستثنائي للكينونة من خلال التناقض بين الحضور المضاعف، والغياب المحتمل؛ فالذات توشك أن تعاين لحظة خروج، أو طفرة، أو تجاوز يجتمع فيه اللون بتكوين الأنثى، وبكينونتها الإبداعية المستقلة، والمضادة لنماذج التفكير السابقة عنها في آن.
وقد بدا الاتحاد الروحي بين الكينونة الذاتية الأنثوية، وطاقة اللون، وموسيقاه الأنثوية في العمل الثالث؛ فملامح الأنثى قد تشكلت في هارموني الأحمر ودرجاته، بما يحمل من بهجة، ورعب، وولادة جديدة، وتجسد، وتجاوز للتجسد في آن.
وقد كثفت شذا عصام الدين الفضاء حول الوجه الصارخ في لوحة مونش التعبيرية العالمية في نوع من المحاكاة الساخرة من داخل الاتجاه التعبيري؛ وكأن صرخة الوجه قد أتت كثيفة من الفضاء، من الخارج، ومزجت بين تكوين الأنثى، والحوت المسمى في الذاكرة الجمعية، والتراث الثقافي ب نون؛ لتثري كينونة الأنثى في بحثها المتجدد عن الأصالة، والنشوء المتجدد في اللحظة الحضارية الراهنة.
*التجدد الديناميكي للذات في أعمال الفنان البراء أحمد صالح:
يبدو تأويل الذات – في أعمال الفنان الأكاديمي البراء أحمد صالح – وكأنه ينبع من حالة من التجدد المستمر؛ فالذات تجدد كينونتها من داخل الطاقة التعبيرية للون، ومن خلال صيرورة دناميكية للنشوء، والتحول، والتفكك؛ ومن ثم تجمع اللوحة بين الذاتي، والجمالي، والكوني في ديناميكية اللون، وعلاقته بالحيوان، أو ببعض أجزاء الجسد التي تشير إلى تداخل غريزتي الموت، والحياة أحيانا طبقا للتصور الفرويدي.
تبحث الذات عن ولادة جديدة في طاقة اللون، وحركيته في اللوحة، وقد تبحث عن تجاوز القهر، وأغلال الجسد التي تذكرنا أحيانا بأعمال جياكوماتي، أو سامي محمد، ولكن الجسد عند البراء بحث عن ولادة من خلال اللون، والفضاء، ودينامية التحول، ويبدو ذلك في وفرة علامات الأعين في اللوحة؛ إذ يبدو أنها في حالة من الانتظار الحلمي لتجدد الكينونة، ولو بصورة طيفية في قتامة اللون، وصخبه.
إن البراء أحمد صالح يبحث عن الكينونة عبر إيماءات اللاوعي، وحالات التعاطف الكوني في فضاء تعبيري قاتم، وصاخب، ويجمع بين الأرضي، والكوني، والطيفي / المحتمل.
إن البهجة تتخلق – في أعمال الفنان البراء أحمد صالح – عبر الصفاء السماوي الجزئي للون، ومن داخل حالات تفكك الجسد التي تتجاوز مركزية الغياب، باتجاه نشوء آخر يقع فيما وراء دينامية التكوين، وطاقته التعبيرية.
*تجدد نموذج الأنوثة، وحضوره النسبي عند راندا منير عزمي:
ترتكز منحوتات الفنانة الأكاديمية راندا منير عزمي على التشكلات النسبية لنموذج الأنثى، وحالاتها المتغيرة التي قد تكون نابعة من التأملات، ومن أحلام اليقظة، أو من التراث الثقافي، والحكايات القديمة، وأطياف الأسطورة، أو من أخيلة اللاوعي، أو من بعض الإيماءات الجمالية المتداخلة، والمحتملة في بنية التمثال.
إن الفنانة تكثف الحضور التعددي للأنثى في التراث الثقافي، وفي العالم الداخلي الذي يبدو معبرا عن طاقة الأنيما وفق باشلار أحيانا، ويصير متناقضا في إيماءاته الزمنية المتداخلة، وطبقاته المتنوعة التي تبدو وفيرة في العلاقة بين الجسد، والفضاء.
وقد تتشكل الكينونة الأنثوية من داخل بلاغة الوجه، وتأملاته الصامتة، أو من داخل تكوين الشعر، وعلاقته ببنية الوجه في التمثال؛ وكأن الفنانة تبحث من خلال نموذج الأنوثة – عن حالات التجدد المحتملة، وعن الحضور النسبي الجمالي للأنثى؛ وهو حضور عابر للزمكانية، رغم أنه متعلق بأصالة النموذج، وطبقاته الممتدة منذ إيماءات الذاكرة الجمعية، وعوالم اللاوعي إلى الحضور النسبي للأنثى في اللحظة الحضارية الراهنة.
*الإيماءات الإبداعية للمشهد اليومي في أعمال الفنانة مارتينا محسن كمال:
تجمع الفنانة مارتينا محسن كمال بين أصالة المشهد المحلي، والانطباعات المتولدة عنه في الوعي المبدع؛ وذلك من خلال العلاقة بين قتامة المياه، وبهجة الملبس الأرجواني للفلاحة مثلا؛ فالأصالة الثقافية – عند مارتينا محسن – لا يمكن رؤيتها إلا من خلال الطاقة الإبداعية للون، وانطباعاته، والتداخل بين المنظور الأنثوي، وذاتية الرؤية في تشكيل الشخصيات، والموضوعات، والفضاء، والاتحاد بين مكونات اللوحة عبر هارموني الألوان بين الذات، والفضاء، ومساحة الأرض، أو المياه التي تصبح مخيلة تخييلا أنثويا في التشكيل السيميائي للعمل الفني.
وتذكرنا مارتينا محسن كمال بالتوجه ما بعد الانطباعي؛ حيث تتجلى التكوينات، والشخصيات طبقا لحضورها النسبي، وتشكيلها الذاتي / الظاهراتي في الوعي المبدع، وعبر اختيارها الإبداعي للألوان، وانتشارها في نسيج الفضاء، والتكوينات، والشخصيات.
إن العلاقة بين البهجة الذاتية، وأصالة تلك المشاهد اليومية التي اختارتها الفنانة، توحي بتجدد اليومي نفسه في انطباعاته الذاتية، وطاقته التعبيرية السحرية النسبية المحتملة في المسافة بين وعي الفنانة، ووعي المشاهد.
*الحالات النسبية الوفيرة للذات في فوتوغرافيا الفنانة رانيا بولس شاكر:
تبحث الفنانة الفوتوغرافية الشابة رانيا بولس شاكر عن تجلي الحالات النسبية للذات من خلال اللقطة، وتعديلاتها التقنية الممكنة التي تولد انطباعا مغايرا عبر الإكمال، أو التنقيح باللون؛ ومن ثم تفكك الفنانة مركزية اكتمال اللقطة؛ وهو ملمح ما بعد حداثي؛ ويذكرنا برؤية الفنان آندي وارهول لكل من مارلين مونرو، وإنجريد بيرجمان من خلال لعب الألوان، وإنتاجيتها لحالات نسبية وفيرة من الشكل نفسه؛ فاللون الأحمر المضاف للقطة الذاتية عند رانيا بولس شاكر يمنح الكينونة حضورا حلميا صاخبا مصاحبا لتأملاتها الأنثوية في اللقطة الأولى، ونعاين تغيير الألوان في المشهد الطبيعي؛ وكأن الفوتوغرافيا لا تنفصل عن إنتاجية الوعي المبدع، ونسبية المنظور.
وقد ترصد الفنانة العلاقة بين أصالة الفضاء في تصويرها لمنزل قديم من الداخل بينما يتجه الممر – من الأمام – على نافذة كبرى تبدو كأنها معبرا حلميا للأبدية، وقد تواترت علامة النافذة في علاقتها بالذات المبدعة، وبحثها عن حالة الانفتاح الحلمي على عوالم اللاوعي، وتجدد الكينونة في إشراقة الضوء؛ وكأنه يحدث ولادة جمالية للتكوين / الذات، ويمنحه نوعا من التداخل ما بعد الحداثي بين الفني، والواقعي.