القاهرة 18 مايو 2019 الساعة 01:16 ص
ياسمين مجدي
ينظم مختبر تحليل الخطاب وأنساق المعارف ومختبر البيان والقيم ومناهج التأويل بكلية الاداب والعلوم الإنسانية - جامعة القاضي عياض- مراكش -المغرب مؤتمرا دوليا في موضوع: أسئلة المنهج في قراءة التراث ...وذلك يومي 23-24 أكتوبر 2019
وجاء هذا المؤتمر انطلاقا من فلسفة تعترف أن المعرفة البشرية ظلت في سيرورتها التاريخية ومساقاتها العلمية مرتهنة بالسؤال ومقترنة به، فكان منطلق كل تفكير علمي وأساس أي بحث منهجي يروم مقاربة موضوع من الموضوعات أو حل إشكال من الإشكالات. وبقدر ما حظي السؤال بقيمة خاصة ومميزة في تاريخ الفكر والعلوم، لقيت مختلف محاولات تجديد صيغه وبنياته أهمية خاصة وكبيرة، فكانت إحدى أبرز الانشغالات التي طبعت الفكر العلمي لدى الإنسان، وظلت علامة محددة ومصاحبة له.
ولم يكن للسؤال أن ينزل منزلة رفيعة في تاريخ الفكر البشري لمجرد كونه ينم عن نزوع إنساني مسكون بمداومة الحفر بحثا عن الخفي ورفعا للحجب التي تحول دون إدراك بعض حقائق الوجود وأسراره الدفينة فحسب، أو لكونه أيضا يتنزل في العلوم منزلة رفيعة تجعله يحلي مقدماتها ويفتح بصائر خواتمها أمام آفاق رحبة تستحث الفكر على النظر فيها وتجلية أسرارها، ولكنه حظي بما حظي به لكونه صار أيضا وأساسا عقيدة الممارسة العلمية الدقيقة ومحرابها القويم، إذ دون سؤال... ودون تجديد له وإعادة صياغة لبنيته ومراميه يظل البحث بلا معنى... وبعيدا عن كل هدف جدي وجديد...
وبقدر ما كان السؤال أساسا من الأسس القويمة للممارسة العلمية، كان المنهج كذلك أداة ومسارا راسخين في صيغه وطرائق مقاربته، إذ بقدر ما يستحيل وجود سؤال دون منهج، يتعذر التفكير في منهج خارج السؤال، ولذلك كان المنهج صيغة من صيغ الإجابة على السؤال/ الأسئلة المتعلقة بمقاربة ظاهرة من الظواهر أو قضية من القضايا، واعتبر في هذا الإطار وتبعا له مكونا جوهريا وضروريا وفاعلا في إنتاج المعرفة وتطويرها وتجديدها.
ومثلما تتعدد الأسئلة وتتناسل إزاء الظواهر والقضايا، تتنوع المناهج وتختلف باختلاف طرائق صياغة السؤال ومسالك محاولة الإجابة عليه، فكان تاريخ المناهج التحليلية، على أساس ذلك، تاريخ تحولات وانعطافات موضوعية وإجرائية ومفهومية، أي أنه كان –وباختصار شديد- تاريخ "محاولات" رفع التحديات التي ما تفتأ تطرحها موضوعات الدراسة والمقاربة على الذات.
لقد أدى الوعي بقيمة الذات ودورها في صياغة السؤال وطرحه والبحث عن المنهج واختياره للمقاربة والتحليل إلى توسعة مجال النظر والتفكير بالتركيز على الذات والبحث عن الحدود التي تشغلها بين طرح السؤال وصياغة المنهج واختياره، وذلك بعد تاريخ طويل من تجاهل دورها التوجيهي وأثرها الحاسم في القراءة والتأويل. ولئن كان ذلك الوعي قد أسفر عما أسفر عنه من تحولات ارتقت بالدراسة والبحث، فذلك لأنه طرح للتساؤل مجددا ما كان يبدو بدهيا: سؤال الذات والموضوع، كما أنه أدى إلى النظر والتفكير، تبعا لهذا السؤال وبناء عليه، في علاقة الذات بتراثها وبالآخر المتعدد.
فإذا كان ممكنا دراسة موضوع من الموضوعات المعاصرة اليوم ومساءلته في كينونته وسياقات تحققه وتحليله بمنهج من المناهج الدراسية الحديثة، فهل يتحقق ذلك بالقدر نفسه من الدقة والموضوعية حين يتعلق الأمر بالتراث؟
يبدو نظريا أن في الإمكان الإجابة على هذا السؤال، لكن عمليا تفيد المقاربة المنهجية أن سبيل الاقتراب من الإجابة يمر ضرورة عبر التسلح بعدد هائل من الأسئلة والاستفسارات قصد سؤال السؤال وإدراك دلالة المنهج ومحاولة فهم معنى التراث أولا؟ وتحديد الجانب المقصود من كل جوانبه الثرية المختلفة والخلافية في الآن نفسه؟ وبعد ذلك تعيين علاقته بالذات؟ والآخر الجماعي؟ والكشف عن سبل النظر فيه ومقاربته على نحو منهجي دقيق؟ وهي أسئلة تؤكد في نهاية المطاف القول المومأ إليه أعلاه بخصوص علاقة السؤال والمنهج من جهة، كما تفيد أن الاقتراب من التراث ومقاربته يستدعي إخضاعه للمساءلة والتحديد من جهة ثانية.
ذلك أن التراث، وخلافا لتاريخ طويل من الأوهام والخرافات التي أحاطت به، وتم تكريس جانب كبير منها في صفوف الدرس وحلقات البحث المدججة بترسانة الإيديولوجيات التي ساهمت في ترسيخها مؤسسات عديدة ضمنها الجامعات، يبقى معطى دائم الانفلات...عميق الغموض...متوالي الحجب، وكل محاولة لدراسة جانب منه دراسة مجهرية دقيقة ستظل موصومة بالنقصان بعيدة عن فهم كينونته وتجلية حقيقته؛ لأنه لحظة تاريخية ومعرفية طبعت أزمنة سحيقة ولا مجال لفهمه واستيعابه دون النظر إليه نظرة كلية لا تغيب أي عنصر من عناصره، أو تستثني أي بعد من أبعاده... تحت أية ذريعة من الذرائع...فما لم يربط التراث الشعري بغيره من المستويات الأخرى للتراث: اللغوي والفقهي والكلامي والبلاغي والنقدي والفلسفي والصوفي.... وغيرها ستظل المعرفة به موصومة بالنقصان...والعمى المعرفي...
ولعله من نافلة القول التأكيد مرة أخرى... ودائما...أن البحث في التراث الذي ينطلق من سؤال ويبحث عن منهج لمقاربة موضوع السؤال ويجعل وكد نظره وتفكيره الانتهاء إلى جواب فريد ومحدد ونهائي لم يعد اليوم قبلة الكثير من العشائر العلمية ومقصدا لها، لأنه قد ترسخ لديهم وعي جديد مؤداه أن بقدر ما تطأ فكرهم أراض بكر لم يهتد إليها من قبل، وكلما رفعت الحجب عن "حقائق" ظلت خفية مستورة عن الأنظار، إلا وكان ذلك مدعاة إلى الانطلاق منها لمزيد بحث وحفر واكتشاف، ولئن أصبحت هذه الحقيقة عقيدة علمية اليوم، فذلك لأن علاقة السؤال بالمعرفة لم تعد أحادية تمتد من أحدهما إلى الآخر، بل أصبحت جدلية محكومة بمنطق الذهاب والإياب، فكلما توسل السؤال بمنهج جديد وكشف خبايا جديدة، إلا وكان ذلك مدعاة إلى توسعة مجالات النظر والحفر بحثا عن المخبوء والخفي والمستتر.
ويرى القائمون على المؤتمر أنه حين الانطلاق في الوعي بالتراث على هذا النحو تنجلي أول وأهم خاصية تميز كل دراسة له: ألا وهي القلق المنهجي، إذ لا يمكن الارتهان في قراءة التراث ودراسته ومقاربته وتأويله بروح التساكن والاطمئنان، بل إن ذلك غير قابل للتحقق دون إدراك طبيعة التحدي الذي يطرحه، وما يصاحب ذلك ويولده من قلق معرفي ومنهجي، وهو قلق لا يقتصر على امتداد التراث وتنوعه المعرفي وغياب مدونة جامعة لكل منتوجه فقط، بل يمتد أيضا إلى انفلات الذات نفسها وتحولها الدائب في كينونتها وشروط تحققها الماهوي. إذ الذات -وخلافا لما يمكن أن يتصوره البعض ليست خالصة الوجود ومنسجمة التحقق- فسيفساء من الذوات الأخرى التي تخترق كينونتها وتنسج هويتها، وهي في تباعد دائم عن نفسها ولا يتكرر سوى اختلافها، على المستويين النفسي والثقافي، لأن في كل ذات ذوات أخرى تتصارع معها حينا وتتحاور معها أحيانا...وقد تحاربها وتنشد محوها أحيانا ثالثة، وخلال ذلك وفي معرضه تشهد الذات الفردية ظاهريا/الجمعية حقيقة سلسلة تغييرات وتحولات من سياق إلى آخر ومن شروط إلى أخرى...مما يجعها دائمة الجريان والتحول والتبدل انسجاما مع الجوهر الأساس للكون...والإنسان... والحياة..وفق ما سطره الفيلسوف اليوناني: هِرَقْليطْس في قولته الشهيرة: »إنك لا تستطيع أن تسبح أبدا في مياه النهر مرتين.
وقد دعا القائمون على المؤتمر الباحثين المغاربة والمصريين والعرب إلى المشاركة في هذا المؤتمر المقرر له أكتوبر القادم في محاولة جادة لقراءة تراث جابر عصفور النقدي والاعتراف بفضله على المعرفة الإنسانية.