القاهرة 07 مايو 2019 الساعة 10:46 ص
كتبت : د.فايزة حلمي
بعيدا عن المنزل ... أقرَب إلى نَفْسِك:
ما أكثر ما تتطلع إليه خلال فترة إقامتك بالخارج؟ كثيرا ما أسأل الوافدين الجدد وتبادل الطلاب خلال أسابيعهم الأولى في وطنهم الجديد, يخبرونني بحماس عن الأصدقاء الجدد الذين يتطلّعون لتكوينهم, واللغات الجديدة التي سيتعلمونها, والمدن الجديدة والمطاعم التي سوف يكتشفونها, بعد ذلك ، عندما يحين وقت الوداع ورحلات العودة ، أطرح سؤالًا آخر: ما هي الأفكار التي اكتسبتها من تجربتك في الخارج؟ هذه المَرَّة ، يتحولون إلى الداخل ، حيث أنهم يفكرون فيما تعلموه عن أنفسهم, نقاط القوة والضعف التي لم يعرفوا عنها مِن قَبْل، والأحلام والقِيم التي يحملونها, يحدث الكثير بين هذين السؤالين, تصبح الصداقات واللحظات الجديدة هي اللبِنات الأساسية لخبراتهم الدولية.
وغالبًا ما يكون هناك اكتشافًا مِن نوُع مختلف, ولكن, ليس أقل قيمة, هو..إكتشاف أنْفسَهم ، مَن هُم حقًا, بعد كل شيء ، كما يقول الكاتب بيكو آير( (Pico Iyer ، "نسافر، في البداية، لنفقد أنفسنا؛ ونسافر ، بعد ذلك ، لِنَجد أنفسنا ".
حَفّزت الفُرَص المُتزايدة للتبادلات بين الثقافات في عالمنا المتجه نحو العولمة باستمرار, وجود ثرْوة من الأبحاث حول كيفية تأثير هذه التجارب على العمليات النفسية المختلفة, فقد أظهرت الدراسات, أن الحياة في الخارج يمكن أن تُقلِل من التّحيّز بين المجموعات وتأييد الصور النمطية ، وتعزز الرفاهية ، وتشجع الإبداع والتنمية الشخصية ، وتزيد من الثقة بالنفس والفعالية الذاتية, ألقت البحوث الحديثة التي شملت 1874 مشاركًا من بلدان مختلفة, الضوء, على كيْف يمكن للوقت الذي يقضيه الفرد في الخارج, أن يؤدي أيضًا إلى شعور أوْضَح بالذات.
ومفهوم الذات, هو بِنْية مَعرفية متعددة الجوانب ومعقدة و تتشكّل جزئيّا بخِبراتنا, فَبِدء عائلة أو مهنة جديدة, يمكِن أن يُؤدي إلى تغييرات مؤقتة أو طويلة الأمد, في إحساس الفرد بذاته, وغالبًا ما تقوّض التجارب الانتقالية, وضوح المفهوم الذاتي للفَرْد, فعندما تتغير أدوارنا وهويتنا ، فإن إحساسنا بما نحن عليه وما هو مُهِم بالنسبة لنا يمكن أن يخضع لتعديلات, وكخِبرة انتقالية ، يمكن أن يُؤَثّر العَيْش في الخارج على الشعور بالذات بطرق مختلفة, يمكن أن تضيف مهارات جديدة (ثنائية اللغة) وسِمَات (المرونة) للمفهوم الذاتي للفَرْد ، بالإضافة إلى تعزيز وضوح الذات.
يشير وضوح مفهوم الذات, إلى التعريف الواضح والاتساق الداخلي, لمحتويات مفهوم الذات للفرد, بمعنى آخر، وجود فَهْم واضِح لِمَن وما هو الفَرد, وتتضمّن النتائج الإيجابية لوضوح مفهوم الذات, الشعور بالرضا في العلاقات والحياة بشكل عام، والأداء الوظيفي العالي، وكذلك الإستجابات التكَيّفيّة والمَرِنة للتوَتّر.
إذن هل نستطيع القَوْل بأن العيش في الخارج على عكس الخِبرات الانتقالية الأخرى, يزيد من وضوح مفهوم الذات؟ نعم, وكما أفاد آدم وآخرون Adam et al. 2018)), كل ذلك يظهر في انعكاسات فَهْم الذات, التي غالبا ما يمر بها الأفراد في الخارج, إن القيم والقواعد الاجتماعية الجديدة لثقافة المُضَيّف, تدفعهم إلى أن يكونوا وجها لوجه مع قِيَمِهم وسماتهم ومعتقداتهم, ودراسة إلى أي مدى هُم نتيجة لتربيتهم الثقافية, قد يبدأ الناس في التفكير فيما هو مُهِم بالنسبة لهم ، وما هي القناعات التي تَوَجّه سلوكياتهم ، وكيف يتفاعلون مع بيئتهم والأشخاص المحيطين بهم, إن فُرَص مثل هذه التقييمات الذاتية, تصبح وفيرة عندما نغادر أراضينا الأصلية.
عندما نَجِد أن السياق المحيط بِنا, لَم يَعد هو الذي صاغ قِيَمَنا وأعرافنا الاجتماعية ، نبدأ في التساؤل عن مدى توافق فرضياتنا المُشَكّلة ثقافيا مع معتقداتنا الأساسية, وبالتالي ، مِن خلال عملية التفكير والتقييم هذه ، نكتسب وضوحًا أكبر حول ما هو مُهِم بالنسبة لنا ، وبالتالي ، عن شعورنا بالذات، حيث يواجه الوافد الجديد آداب إتصال جديدة للقراءة بين السطور وفك رموز الصمت واكتشاف كيف تُقال الأشياء (مثل نغمة الصوت والإشارات غير اللفظية) بنفس أهمية ما يقال, نتيجةً لذلك ، فقَد يُعيدون تأكيد تفضيلهم لتوصيل رسائلهم مباشرةً ، خاصةً إذا كانوا يقدرون الكفاءة ويرغبون في تجنب الغموض وسوء الفهم.
ومن المثير للاهتمام أن الدراسة أظهرت أيضًا, أنه ليس عدد الدول التي عاشها الناس هي التي ستزيد من وضوح مفهوم الذات، ولكن طول الوقت (العمق) الذي يقضيه في الخارج, ويشير المؤلفون إلى أن السبب في ذلك هو أنه كلما زاد الوقت الذي يقضيه الناس في الخارج ، كلما ازداد تعاطفهم مع القيم التي قد تكون مختلفة عن قِيَمهم, وبالتالي ، سيكون لديهم المزيد من الفُرَص للتفكير في فرضياتهم ومعتقداتهم, التي عادة ما يعتبرونها أمرا مفروغًا منه ، مما يؤدي إلى مفهوم ذاتي أوضح.
ويمكن للخِبرات الإيجابية في الخارج أن تفعل الكثير بالنسبة إلى مُقتنياتنا من المهارات والقدرات, حيث تُعَدّ المغامرة الهائلة, المُتمثلة في القفز إلى حياة أجنبية صاخبة, بنكهاتها وألحانها غير المألوفة, إنجازًا في حد ذاته, ومع ذلك ، وربما من بين أكبر مكافآت الانتصار على زوبعة التوافقات الجسدية والنفسية ، والمغامرة بعيدًا عن المنزل ، هي هدية الاقتراب مِن أنفسنا.
المرجع:
Marianna Pogosyan.(2018): far away from home ,closer to yourself. between-cultures. psychologytoday.com