القاهرة 10 يوليو 2012 الساعة 09:25 ص
منذ بدايات عقد التسعينات من القرن التاسع عشر، كان بيار لوتي كوّن لنفسه، في الأوساط الأدبية الفرنسية خصوصاً، وفي الأوساط الشعبية في شكل عام، سمعة جيّدة بصفته كاتباً أغرم بالشرق، وها هو يعرف كيف يصفه في شكل مشوّق في كتب ونصوص راحت تصدر تباعاً. وكانت الذروة الأولى، في ذلك الحين، رواية «آزيادة» التي كتبها لوتي بعد تجوال في أفريقيا وإقامة، لردح من الزمن، في اسطنبول.
وهذه الرواية أتت يومها لتحكي عن غرام احتدم بين ضابط إنكليزي وسيدة تركية في عاصمة الخلافة العثمانية. ولأن لوتي كان يومها متأثراً بكبار الكتاب الرومانسيين من أمثال فيكتور هوغو وشاتوبريان، كان من الطبيعي أن تنتهي تلك الرواية - القائمة أصلاً على ما يشبه السيرة الذاتية - بموت الحبيبين. غير أن المهم في تلك الرواية لم يكن موضوعها، بل مناخها: النظرة التي يلقيها الكاتب الفرنسي المغامر والبحار على تركيا ذلك الزمن، تركيا التي كانت بالنسبة إليه وإلى أوروبا، تكاد تختصر الشرق كله والإسلام كله. ومن هنا، اعتبرت «آزيادة» ليس فقط بطاقة اعتماد لوتي لدخول عالم الأدب - وهي كانت روايته الأولى، على أية حال - بل عالم الشرق أيضاً. وهو، بعد سنوات من صدور «آزيادة» أحس بأن عليه أن يعيد الكرّة وأن يصدر رواية «شرقية» أخرى يضع فيها ما أحس بأنه ناقص في «آزيادة». وهكذا، أصدر في عام 1906، أي بعد نحو عقدين من انتشار «آزيادة»، رواية «الخائبات»، التي تدور أحداثها، أيضاً، في ذلك الشرق الإسلامي الذي لطالما سحر الكاتب وجعله راغباً بالانتماء إليه كلياً، شخصيّاً وكتابة. وكثر يرون اليوم أن «الخائبات» على رغم أنها أقل شهرة وشعبية من «آزيادة» ومن غيرها من روايات لوتي «الشرقية» الأخرى، تعتبر أكثر قوة في تعبيرها وفي رسمها مناخاتها، بل كذلك في مجال اقترابها من الواقع الشخصي الذي يبدو واضحاً أن بيار لوتي أراد التعبير عنه. والطريف أن «الخائبات» إذ بدت أكثر قرباً من الواقع مما ينبغي، أو مما كان لوتي يريد، دفعت كاتبة تدعى مارك هيليس إلى أن تصدر في عام 1923، أي العام نفسه الذي مات فيه لوتي، كتاباً عنوانه «سر الخائبات» تؤكد فيه أن البطلة التي يصفها لوتي في الكتاب، ويعطيها اسم «جنان» لم توجد أبداً، واصفة كيف أنها هي نفسها شاركت في الخديعة كما سنرى. ولكن قبل أن نطل على هذا الأمر، سيكون من الأفضل التوقف عند رواية «الخائبات» نفسها.
> بدءاً من الغلاف يضع بيار لوتي قارئه في مناخ الرواية، موحياً إليه بأنها ليست تماماً من بنات الخيال، بل إنها مبنية على أحداث حقيقية تطاول شخصيات وعلاقات وجدت حقاً. فالرواية، على الغلاف، تحمل عنواناً ثانياً توضيحياً هو: «رواية الحريم التركي المعاصر». وهذا ما أتاح للوتي أن يشرح كيف أنه أراد في الكتاب أن يرسم صورة لـ «وضعية المرأة التركية» وأن يري «مقدار الثقافة الذهنية المرتفعة الموجودة اليوم في دوائر الحريم الأتراك، وما يسفر عنه هذا من معاناة» لدى نساء ذلك الحريم، بفعل التفاوت بين ما تعيش هذه النساء ومستوى تفكيرهن.
> ولئن كان لوتي يقول بعد ذلك إن الحبكة التي تتمحور الرواية حولها، هي من اختراعه، فإن السياق نفسه يأتي لينفي هذا، طالما أن الشخصية الرئيسة في الكتاب، هي شخصية كاتب أجنبي (فرنسي) معروف في تركيا (مثله في هذا مثل لوتي نفسه) ويحمل هنا اسم أندريه ليري. ومن الواضح أن كل الصفات والسمات التي يضفيها لوتي على بطله، إنما تحيلنا إلى لوتي نفسه. المهم أن ليري، ومثلما تقول سيرة لوتي أنه حدث للوتي نفسه ذات مرة، أن يلتقي بثلاث نساء فاتنات يحملن في الرواية أسماء: «جنان»، «زينب» و «ملك». وتصف لنا الرواية كيف أن بنات العم يعشن أيامهن خاضعات لقوانين الحريم الصارمة، لا يتمتعن بأية حرية، في الوقت نفسه الذي تؤكد الرواية أن الفتيات تلقين ثقافة رفيعة المستوى تؤهلهن لعيش حياة مختلفة تماماً عن الحياة التي يعشنها. ومن هنا، تبدو معاناتهن مزدوجة: كنساء في مجتمع يقمع النساء، وكمثقفات غير قادرات على مسايرة ثقافتهن أو إفادة المجتمع منها. ومن الواضح منذ البداية أن الفتيات واعيات لوضعهن ويتمنين لو تكون لهن حياة غير ما يعشن. وتكون «جنان» البادئة بالتعبير عن غضبها وثورتها، إذ نراها تكتب في لحظة صراع بينها وبين نفسها، رسالة إلى الكاتب ليري الذي يهيمن منذ زمن طويل على أحلامها، كما تقول له في الرسالة. وإثر تلقي ليري الرسالة، يتوجه إلى اسطنبول، وإذ تعرف الفتيات بمجيئه يجابهن الأخطار والقوانين، معاً، لكي يلتقين به. وهكذا، من موعد إلى موعد، ومن رسالة إلى رسالة، يتأثر كاتبنا بوضع صديقاته، ويعدهن بأن يكتب رواية تتكلم عن وضعهن وحياتهن التي تمضي من دون هدف، ومن دون القدرة على أية حركة، إذ حتى فعل الخير والانضمام إلى جمعيات خيرية، ممنوع عليهن. وكان يمكن الأمور أن تقف عند هذا الحد، والعلاقة أن تكون مثمرة ومفيدة للكاتب وللفتيات، لولا أن «جنان» تقع في غرام الكاتب، غير أنها ليست قادرة على تمثّل هذا الغرام وعيشه، لذلك يلتهمها غرامها التهاماً وتعيش محبطة خائبة تماماً. وحين يعود ليري إلى فرنسا وقد آلى على نفسه أن يفعل شيئاً من أجل صديقاته الثلاث، تصله الأخبار لتنبئه بموت «جنان» التي كانت، بالنسبة اليه، تمثل لغزاً غامضاً يستعصي على كل حل.
> والحال أن بيار لوتي يوقف روايته هنا، مكتفياً بهذا المقدار من الحديث عن معاناة المرأة التركية في ذلك الحين، ويبدو في الصفحات الأخيرة، كما في الصفحات الأولى، كما لو كان راغباً في تغليف الأحداث الحزينة بالحديث عن جمال تركيا، إذ نجده يسهب في وصف المشاهد الطبيعية وحياة الناس ومقدار ما عند الأتراك من كرم وثقافة وأخلاق حميدة، من دون أن يهتم كثيراً بمدى التناقض القائم بين ما يعزوه إلى الشعب من مزايا، وبين المصير الذي يتركه هذ الشعب لنسائه. وهكذا، بدت «الخائبات» متأرجحة بين أدب الرحلات، والرواية، إلى درجة أن كثراً من القراء اعتقدوا دائماً أن ما يرويه لوتي حدث حقاً. وظل الأمر على هذه الحال حتى إصدار مارك هيليس الكتاب الذي ذكرنا، والذي أماطت فيه اللثام عن «حقيقة الأمر»، إذ قالت إنها كانت هي نفسها التي ارتدت الثياب التركية والتقت بيار لوتي في تركيا زاعمة أنها مسلمة تدعى «ليلى» وراحت تكاتبه، حيث إنه هو اتخذ من شخصية «ليلى» هذه، أساساً بنى عليه شخصية «جنان» مخترعاً لها صديقتين. وأكدت هيليس في كتابها، أنها أوصلت الخديعة إلى ذروتها حين كتبت لاحقاً إلى لوتي، تخبره بأن «ليلى» (جنان) ماتت.
> مهما يكن من أمر، فإن القراء ما اهتموا أبدا بكشف مارك هيليس الخديعة، بل استمروا يقرأون «الخائبات»، من ناحية ككتاب جميل عن تركيا وعوالمها، ومن ناحية ثانية كمرافعة من أجل حرية المرأة المسلمة ومستقبلها. وعرف هذا الكتاب كيف يتخذ مكانته في لائحة كتب بيار لوتي التي صنعت للشرق وللإسلام، عند منعطف القرنين التاسع عشر والعشرين، صورة أتت مختلفة عن تلك التي كانت له، في أوروبا، قبلاً. وبيار لوتي الذي جعل من نفسه، وجعلته كتبه، من أكثر كتاب فرنسا إنصافاً للإسلام ولعالم الشرق، ولد باسم لويس فيو، في جزيرة صغيرة في الجنوب الغربي الفرنسي، وهي الجزيرة نفسها (أوليرون) التي سيدفن فيها عند رحيله في عام 1923. وإذ قرر منذ طفولته أن يصبح بحاراً ومغامراً، تحقق له ما أراد، وأضاف إلى ذلك أن أصبح، أيضاً، كاتباً. وكانت قراءته شاتوبريان حبّبت إليه الشرق منذ وقت مبكر. وهكذا، امتزج كل ذلك لديه لينتج عشرات النصوص في أدب الرحلات والرواية، من «آزيادة» إلى «الخائبات» ومن «نحو أصفهان» إلى «رواية السباعي» و «أخي إيف» و «3 نساء من القصبة» و «في المغرب» و «شبح الشرق» وغيرها.
نقلا عن الحياة اللندنية
--
موضوعات مرتبطة
ابراهيم العريس يكتب... «الفجر» لفريدريك نيتشه: هل يمكن إحداث تبديل جذري في الاخلاق ؟
ابراهيم العريس يكتب.. «طفولة» تولستوي: خطوات المبدع الأولى نحو مجد مدهش
ابراهيم العريس يكتب.. «دون كيشوت» لدومييه: معادل فنيّ متواضع لبطل
ابراهيم العريس يكتب.. «الفنان في طريقه إلى تاراسكون» لفان غوغ: يا للايام السعيدة