القاهرة 06 نوفمبر 2018 الساعة 12:24 م
كتب : د.خالد عبد الغنى
يذكر يوسف إدريس الوصف العام لشخصية عباس الزنفلي "في قصة العسكري الأسود" قبل التحاقه بالعمل على لسان زوجته "نور", ما يجعلنا نتبين أن هناك تكوينا نرجسيا يتعلق بنرجسية الجسد وعلاقتها بالعدوانية، ولاشك فى أن هناك فى الإنسان عدوان يتشابه مع العنف الحيوانى الذى يتولد نتيجة فشل أو إحباط لرغبة ما يوجهها الخيال, وهذا بالضبط ما تحقق للعسكري الأسود واكتشاف هذه العقدة، وهي افتتان الذات بنفسها يقول يوسف إدريس:
"كان قوي أقوى من كل أقرانه، وله شهرة في البلدة ويصبح لقوته سلطان ومستلزمات ليس أقلها جلباب من حرير، "لاثة" من السكروتة وطقم يخطر به ساعة العصر ويقتحم به السوق ويتربع به في مجالس الرجال،ويزغلل به وبنفسه أنظار البنات والمطلقات وأنظارها هي بالذات ، قصة الفتونة والمراهنات على حمل أكياس القطن وأجولة الكيماوي والمعارك والنبابيت والخناقات".
ومما يتأكد لدينا أن العقم في الثقافة العربية والصعيدية في جنوب مصر له أبعاده النفسية التي تجعل الرجل ينظر الى نفسه نظرة مليئة بالشعور بالدونية وعدم الثقة بالنفس والثورة والغضب وكثرة المشكلات الزواجية، وربما يؤجج العقم مظاهر العدوانية اللفظية أو البدنية, وعباس الزنفلي كان كذلك وتحكي نور زوجته عنه قائلة:
"واشتغل في البوليس ولم ترزق منه بأطفال، مشكلة كانت تلح عليه وتضايقه وأخذها للدكتور مرة ولم يجد الطبيب فيها عيبا وقال له ابحث عن نفسك أنت ولكنه كان دائما مشغولا بالبحث عن السلطة والتسلط، دائم المشاحنات مع رؤسائه دائم الثورة على وضعه وزملائه".
ولم يكن عباس مجرد أداة للتعذيب ينفذ الأوامر, بل واحد من المستمتعين –الساديين- بهذه العملية؛ وتتجلى السادية بوضوح في شخصية عباس الزنفلي في أقصى درجاتها في المحاولة والرغبة في إيقاع الألم والإذلال بالآخرين وضربهم أو شتمهم وإهانتهم والسخرية بهم, وحين يحدث ذلك يكون الشعور بلذة عارمة وفرحة كبيرة ونشوة لا نظير لها. وهذا ما سنجده بوضوح فيما كتبه يوسف إدريس عن هذه الشخصية:
" كان عمل عباس أن يضربهم.. يضرب بعضهم لكي يعترف وآخرين لمجرد الضرب وهد الكيان..الضرب بمختلف أشكال الضرب بالعصي بالكرابيج بالحذاء بالنبوت باليد العارية المجردة ولم يكن اسود كما وصفته الصحف وأفاضت كان فقط غامق السمرة ومن الصعيد، وحين يضرب كان من رآه لا يظن أبدا أنه يمت إلى الإنسان أو الحيوان بصلة بل ولا حتى للآلة . فالآلة لا تبدو على وجهها المتعة المتوحشة وهي تضرب.. ويا لخسة ضربه! أنت لا تشعر بالضرب حين تكون حرا أن ترده. أنت تشعر به هناك حين يكون عليك فقط أن تتلقاه ولا حرية لك ولا حق لك ولا قدرة لديك على رده، والأبشع هو مرآه وهو يضرب ومنظره وهو يستمتع بتخريب كائن حي وإنسان والمضروب يتحول أمامه إلى كتلة اللحم المذعورة التي تصرخ في فزع أعمى فلا يفعل مشهدها أكثر من أن يغريه بالضرب أكثر والتمتع بلذة الهدم أكثر فيمضي يضرب ويضرب سعيا وراء الفرحة الكبرى، ويتحول الضارب إلى أنقاض إنسان من نوع آخر يسعده الألم الذي يحدثه في ابن جنسه ويستمع بإرادة، وبإرادة أيضا يقتل الاستجابة البشرية للألم في نفسه فلا يكف إلا ببلوغ ضحيته أبشع درجات التهدم والتقوض، وبلوغه هو أخس مراحل النشوة المجرمة".
ويوجد من السادية عدة أنواع مثل السادية الفمية، والأولية، وسادية الأنا الأعلى، ولقد تبين أن السادية الأولية والتي تتميز بالضرب والإيذاء كانت موجودة لدى عباس في المرحلة الأولى من حياته الوظيفية، ثم ما لبث أن وجدت السادية المتعلقة بالأنا الأعلى الذي أصبح قاسيا ومعاقِبا للذات في صورة قاسية ومخيفة تكاد تكون مساوية للسادية الأولية التي تمكنت من الزنفلي في تعذيبه للسجناء.
ولكي ندرك تطور الحالة المرضية لدى العسكري الأسود كما رصدها يوسف إدريس في قوله:
"كان عباس حين يذهب عنه الأصدقاء والزوار ويصبح البيت خاليا إلا منه ومنها – نور- يذهب عنه المرح والضحك الذي كان غارقا فيه ويستمر على جلسته المتربعة منكس الرأس الى أسفل سادرا في حزن مفاجئ، يبقى هكذا بالساعة والساعتين لا يتحرك ولا يحدثها ولا يغير من وضعه، وكانت هذه الحالة لا تحدث إلا نادرا وكل بضع ليال مرة ولكنها ما لبثت أن تكاثرت حتى أصبحت تتكرر كل ليلة تقريبا وتطول، ويطول غياب عباس في الشغل، ينام بغير عشاء وإذا تعشى استيقظت – نور – على صوته المخنوق يصرخ من كابوس، ثم بدأت محنة الأفيون ثم تعلق به وأدمن فيه وأصبح يأخذه في كل وقت قبل النوم وفي منتصف الليل وحتى في الصباح على الريق وأصبح الشخص المكشر الملامح الغاضب دائما الضيق الخلق الذي يثور لأتفه سبب وبلا سبب والذي لم يعد ينفق على البيت او عليها ويتحاشى الناس وكأنهم أعداء حتى كاد يخاصم الناس كلهم وأخذ يحدث نفسه...وحديثه لنفسه كان طارئا أول الأمر ولكنه لم يلبث أن أصبح عادة...فتسمعه يزعق او يشتم او يزفر زفرة حارة ويتنهد قائلا بأعلى صوته إيه..آه..كله منه..حكم. ملعون أبو الدنيا..ملعون ابوهم كلهم احد واحد. وإذا انفرد بنفسه انهال عليها – نور- وعلى نفسه شتائم وسباب وذات مرة انهي شتائمه لنفسه بصفعة من يده يهوي بها على وجهه ،، وبدأ في طلب الاجازات المرضية، واشتدت حالته وأخذ يعوي ويصرخ مثل الذئاب".
هذا هو الفصام في أقصى درجاته وفي مراحل تطوره التي ذكرها علم النفس, ولكن أن يصل الحال بعباس الزنفلي الى أن يأكل لحم ذراعه فهذا ما نجتهد في تفسيره بأنه حالة من عدم الوعي والذهول والهذيان، والعدوان في قمة ساديته الممزوجة بمازوخية تحاول إلحاق الأذى بالذات وعقابها على أفعالها، وهذا الوصف ما يقدمه يوسف إدريس بقوله:
"نظرات عباس لم تكن مريضة أو مجنونة ، كانت ساكنة كسكون الموت.. فبدأ ينكمش على نفسه ويصغر حجمه ويتكور.. ويصدر عنه عواء مرعوب يستغيث ثم باكٍ ثم عالٍ مجنون ثم ينقلب الى هبهبة كهبهبة الكلب هاو هاو هاو..وأخذ يلوك يد زوجته وهي تصرخ... وأخيرا ترك يدها..وأخذ يضرب الفراش ويهبهب ويعوي ويغرس أظافره وأنيابه في قماش المرتبة ويمزقه ويمضغ القطن ، ويزداد هياجه ويبدأ بضرب وجهه بكفه كمن يلطم ويعمل أظافره في جلده تجريحا وتمزيقا، وأهوى بفمه على لحم ذراعه النحيلة التي كانت تبدو من كم الجلباب الممزق وظل يضغط وينظر إلينا بعيون ملتهبة تحترق ويضغط ولعابه قد غطى الذراع العارية وهو لا يكف عن النهش والضغط وكأنما هو لا يحس أو يتألم أو كأنما الألم يدفعه الى مزيد من الهياج وغرس أسنانه في اللحم، وكان الدم يتساقط من فمه ويختلط بلعابه ! إذ بين أسنان الفم قطعة لحم مدماة".
وفي تفسير ذلك العدوان وتمزيق الجسد تصبح نظرية جاك لاكان عن الأصل الخيالى للعدوانية قادرة على تفسير ذلك العدوان الموجه نحو الذات لدى عباس الزنفلي؛ حيث تساعد – النظرية - فى شرح الصفة الواضحة والغامضة للتجربة البشرية المتعلقة بفكرة البعد الجسدى والتمزيق. وهذه ظاهرة جاء ذكرها فى "جمهورية أفلاطون حيث أنه أثناء مرور أحد سكان المدينة بمكان تنفيذ حكم الإعدام علناً" يقال إنه لم يستطع منع نفسه من التفرس فى أجسام الموتى هناك. "بعيون واسعة محملقة اندفع نحو المثبت صارخاً" أيها التعساء هناك تعالوا و املأوا أنظاركم بهذا المنظر الجميل" وقد لاحظ أوجستن أيضاً الجاذبية الخاصة لمشهد الجسد الممزق. وهو يسأل ما وجه الإمتاع الذى يمكن أن يكون فى مرآى الجثث الممزقة؟، فالناس تتجمهر وتلتف لرؤية جسد يفترش الأرض ذلك ببساطة من أجل إحساسات الحزن والرعب التى يبعثها فيهم مرآى هذا الجسد, والقوة الجاذبة لمخاوف الجسد هذه المذكورة فى تلك النصوص القديمة لها وجودها القوى فى الحياة اليومية الحديثة فسائقوا السيارات يلوون أعناقهم عند مرورهم بحادثة فى الطريق.