القاهرة 16 اكتوبر 2018 الساعة 09:45 ص
الإنسان هو الثديي الوحيد الذي يُرى بشكل مضاعف
ريجيس دوبريه
فردوس عبد الرحمن
النجوم المشاهير، أنصاف الآلهة، القادمون من أعماق الأساطير، تلك الكائنات التي تنتسب إلى البشري والإلهي في آن، أولئك الذين يخايلوننا منذ طفولتنا، إنهم كائنات حلمية، والعلاقة بهم ترتبط إلى حد بعيد بالعمليات النفسية العاطفية، المتعلقة بمسألة الإسقاط- التماهي، هكذا نرى الشاب المراهق الذي يقلد تسريحة الشعر وطريقة ارتداء الملابس للنجم المشهور، والحركات الجسدية التي يؤديها أيضًا، وتمتد المسألة إلى القناعات والأفكار التي يبثها ذلك النجم، سواء كان نجمًا سينيمائًيا، أو زعيمًا سياسًيا أو حتى رجل دين من أولئك الذين سطعوا على شاشات التليفزيون، من هنا أضحت فكرة النجم المشهور صناعة لها أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فبإمكان النجم أن يحدد موضة العصر، وبإمكانه أن يرسخ القيم الاستهلاكية باعتباره هو الآخر منتجًا سلعيًا يتم ترويجه، فالشهرة التي يحترزها، لها سطوة تستطيع أن تنقل وعي الجمهور من حال إلى حال. إنها سطوة الضوء على الظلام، وكأن هذا النجم المشهور يسبح في الفلك الشمسي للمجتمع محولًا أفراده إلى ظلال تابعة، فصورة النجم وتكرارها المتوالي، يفتح بابًا للوهم في أدمغة الجماهير وتحتضن تلك الصورة القوة الأساسية للسحر والرغبة في الخلود، ففتنة الصورة تكمن في علاقتها بالنور الذي يطرد غياب صاحبها ويجعله حاضرًا ومتعددًا برغم غيابه الفيزيقي حتى ولو بالموت، لقد أصبح النجم المشهور هنا بالفعل كائنًا ضوئيًا لا تسري عليه أعراض العدم والفساد، ومن هنا كان الولع والانشداد والتماهي مع تلك الكائنات الضوئية التي هي حلم الخلود، يقول ريجيس دوبريه: "الصور وسيلة للتأليه والدفاع والفتنة والإشفاء والتعليم، إنها روح العالم وتناغم الكون، فهي وسيط بين الأحياء والأموات والناس والآلهة، بين مجتمع من الذوات المرئية ومجتمع القوى الغيبية، وهي وسيلة حقة للبقاء على قيد الحياة، إنها حاجة أولية"
ونستطيع أن نطبق تلك المقولة لريجيس دوبريه على مجتمع تلك الذوات المرئية للمشاهير الذين يغمرهم الضوء، والتي تبث ظلالها داخل مجتمع الذوات غير المرئية للجمهور المتلقي وتحرك دوافعها الخفية التواقة للتماهي مع هذا العالم المضيء للشخصيات المشهورة، وهو توق أسطوري عميق يرتبط بمخيلتنا عن البطل الذي لا يُقهر، البطل الذي يهزم الموت والفناء. إن هذا البطل هو نموذج بدئي، يقبع داخل الظلال المعتمة لنفوسنا، وما إن يرى صورته في الخارج على هيئة نجم شهير، حتى يهرع بشغف إليها ليلتحم بها ويتموضع داخل إطارها، ومن هنا يحدث التماهي بين تلك الصورة البدئية للبطل وبين الصورة الخارجية للنجم المشهور، الذي يحرك الظلال الخفية والقوى اللاوعية لجمهور مشاهديه، أو كما أوضح جوستاف لوبون، أن شغف تلك الجماهير بذلك البطل يكون واقعًا تحت تأثير النخاع الشوكي أكثر مما هو واقع تحت تأثير المخ أو العقل.
في رواية (عند المستوى الخفي) لكاتبها محمد حامد السلاموني والذي استخدم ثيمة الصور الفوتوغرافية كعنصر هام من عناصر الرواية، ليبلغ بها رسالة ما عن دحض الموت والإتيان على صمته وعدميته يقول الراوي عن تلك الصور: " يتعلق الأمر بصناعة نسخة حاملة لمظهر الشخص نفسه، إلا أن الصورة تحمل قدرًا من طاقة روح الشخص وبذا تعثر له على ما يتجاوز وجوده المحدود"
ولكن دعونا نتساءل.. إذا كان هذا هو تأثير المشاهير على القاعدة الجماهيرية العريضة، وتأثير الشهرة على المشاهير أنفسهم في محاولة للبقاء والخلود، فما هو الجانب السلبي لتلك الشهرة على أصحابها؟
إن احتياج الإنسان لأن يُرى لهو احتياج فطري غريزي، يبدأ به مراحل نموه الأولى في عمر السنتين، والتي أسماها جاك لاكان بمرحلة المرآة، عندما يبدأ في إدراك صورته عبر المرآة، وهي المرحلة النرجسية الأولى، ليظل يسعى بعد ذلك في جل مراحل عمره إلى أن يراه الآخرون، لكن تلك الاحتياجات الفطرية إذا ظلت بهذه الشدة، تقزم نموه وتعميه عن الواقع، بل عن نفسه أيضًا، ومن ثّمَّ، فإن إغراق المرء داخل شلال من الضوء يفصله عن الواقع ويجعله في عزلة تامة عن داخليته، عن الإنسان القابع في الجب اللامرئي لوجوده والذي له احتياجات غريزية أخرى، مثل الاتصال بكياناته الداخلية والنظر لما تحتاجه من إشباع ودفئ، بل والانعزال أحيانًا، لتتحقق تلك الروابط المتينة بين الإنسان وذاته، فتسليط الضوء على بنيته الخارجية فقط، وأقصد هنا جسده، يحوله من كائن من لحم ودم وأعصاب، إلى كائن صوري، يُنظر إليه من الخارج فقط، مما يجعله وحيدًا معزولًا داخل ذاتيته المسكينة التي لا ينتبه إليها أحد ويضاعف إحساسه بالجوع للرؤية، لكنها ليست تلك الرؤية التي يراها الجمهور من بعيد، بل الرؤية الداخلية لأعماقه هو، وهذا ما يفسر إلى حد بعيد، حوادث الانتحار المتكررة لنجوم السينما العالميين، مثل مارلين مونرو وداليدا وروبن ويليامز وغيرهم. في أحد البرامج التليفزيونية، أطلت علينا النجمة العالمية ريتا هيوارث لتقول: اكتشفت مؤخرًا أنني غير قادرة على أن أكون سعيدة.
بالإضافة إلى غرق عدد غير قليل من هؤلاء المشاهير في تعاطي المخدرات، والتي هي وسيلة للهروب من الوعي بالذات البائسة وبالحياة الفارغة برغم ازدحامها الشديد، إنها القوة المدمرة التي تخرج من المرء بسبب ذلك الانفصال الأثيم بينه وبين داخله المنسي في غمرة الضوء.
تحضرني هنا حكاية للعالم النفسي، دكتور يحيي الرخاوي عن شاب، جميل الهيئة، ليس به أي خلل عقلي.. يتبول ويتبرز على نفسه بإرادته.. بالطبع هو فاشل في الدراسة ولم ينجز أي شيء في حياته، بعد جلسة نفسية معه.. توصل الدكتور يحيى الرخاوي إلى السبب، كان طفلًا جميلًا فوق العادة، وكان الأهل فخورين بهذا الجمال ومدهوشين به، فلم ينادوه إلا بإحدى صفات الجمال ولم يقدموه إلى الآخرين إلا من هذا المنطلق، وانتشر هذا بين أهل قريته، فنسي هو ونسي الآخرون معه.. الطفل الجائع بداخله، انشغل الجميع بقشرته الخارجية ولم ينظروا إلى الداخل المسكين بخوفه وعجزه واحتياجه. "إن هذا إلا ملك كريم".. هل الملائكة تذهب إلى المدرسة؟ هل تشقى على الأرض؟ هل تظمأ وتجوع وترتعش من البرد؟.. هكذا عاش الفتى الجميل، لم يُكَلّف بأي شيء لأنه جميل، ولم يُنظَر إليه من الداخل لأن الخارج خطف الأبصار.. ماذا عليه أن يفعل؟ سوى أن يعلن عن وجوده وكيف يعلن عن ذلك الوجود إذا كان خاويًا وعاجزًا.. من حق العجز أن يُرى، من حق أي شيء خلقه الله أن يصرخ ويعلن عن وجوده حتى المرض. فما بالك بطفل وحيد، قابع في أحراش ذاته. لم يلتفت إليه أحد، ولم يره أحد، انشغل الجميع بالقشرة وتركوه خائفًا وجائعًا ومرتعشًا في الظلام. من حق هذا المنسي المهجور أن ينتقم من القشرة التي حجبت عنه الطعام والدفء ويشوهها بالتبول والتبرز وفعل ما لا يُطاق.
أعتقد أن هذا ما يحدث بالضبط من تنشيط القوى التدميرية لدى بعض المشاهير والوصول بهم إلى الانتحار ذاته. إنهم كائنات أغرقها الضوء محولًا إياهم من كائنات من لحم ودم وأعصاب وعظام إلى كائنات صورية افتراضية، وكأن الشهرة التي تتمركز داخل الصور المستعادة، المستنسخة من بعضها البعض، هي عبارة عن رتوش، علامات تشير إلى صاحبها، إنها مرآة، سطح بلا أعماق، واختزال الكائنات إلى علامات خارجية، إلى صور، يجعل داخلية تلك الكائنات، تحيا وحيدة، معزولة عن خارجها، وفي المسافة الفاصلة بين الداخل والخارج، يقبع فراغ عظيم، هو العدم تقريبًا الذي تعيشه بعض الشخصيات الشهيرة بتنويعاتها المختلفة، ولكن ما العمل؟ إننا بالفعل نحيا عصر الصورة الذي اختزل العالم إلى رتوش، وحوله إلى أجزاء، فتشتت هوية الكائن ووقع في اغتراب عظيم.